التسميات

الأربعاء، 27 يونيو 2012

خيـل ٌ وزراف


وكانت "حـَبـّوبَـه عَطـَانـَا" - 1
امـرأة ٌ كالزَّانـَة ِ
سـَوداءُ البشـْرة ِ
بيضاءُ القلـب ِ كبـطيــخ ِ الرَّمْـل -
ككل ِّ عجـَائـز ِ قــَريتـنــا ،
تشرب ُ قهوتــَها بين الجـَارات ْ
ورنيـن ِ "الوَدْعـَات ْ" ..! 2
وتغنـِّي وصـديقتـُها "أمـُّونـَة" ،
أغنية ً خضـراءََ ومحـزونـَة
عن رجـل ٍ "أخـْدَر َ" يمشـي في الليـل 3
كخيـال ٍ آبـق َ، عريـَانا ً، يمشـي في الليـل
والشـك ُ القارص ُ يصـرَعـُه ُ وهديـر ُ السيـَل ،
يسقي عطش الرمـْـل المسـْكـون ..!
فالرجل ُ الضـائـع ُ بيـن الغـابـة ِ والصحـْراء ِ قــُرُون ،
عـُجنـَت ْ طيـنـتــُه ُ - دون َ الخـَلـق ِ -
 بـِرِيــِق ِ القــَلـق ِ المحـْزون ..!
  *  *  *
كانت ْ "حَبـّوبـَه عَطـَانـَا" 1
تهـوى الأطفـال ...
ككل ِّ عجائـز قريتـنا - كل َّ الأطفـَال
وتداعب ُ "وَجـَنـَات ِ" الأطفـَال 4
بأصـابـع َ بيضـاء َ ومعـْروقــَة ..!
و"تحجـِّيــِّنـَا" بالغـول ِ وفـَاطمـَة ِ السمـْحـَة 5
وتماسيـح ِ النـَّهـْر ِ وأرواح ِ الأسـْلاف ..!
  *  *  *
وجلسنـا بيـن يـَديها - أذكـُر ُ -
حبات ٍ من "سـُكـْسـُك ْ" ، 6
نـُظمت ْ في صـَدر ِ عـَرُوس
ورد ٌ أقمـار ٌ وشـُمـُوس
وكنـت ُ هنـاك ...
والقمر ُ حليـب ٌ في الفـَلـوات
الغابـة ُ بـُركـَان
الفيـل ُ الآبـق ُ شيـْطـَان
فرسـان ُ الرَّمْـل ِ المَوتــُورة ،
تستــَعـدي الله َ على غابتـنـَا المَمـْطـورة ..!
غرست ْ عـُكازتـهَا في الرَّمْـل ِ ،
وقالت ْ : يـَا أولاد ...
في ذاك اليـَوم ،
كان َ حصـَان ٌ أسمَـر
قد هبـَط إلى قريتـنــَا
جاء من الدرب ِ الأخضَر
فتيـا ً ونشيطا ً
جاء ليشرب َ في النـَّهـْر ..!
وصَهـَل بصـوت ٍ قدسي ٍ مـوزون
لحن ٌ من روح ٍ محزون
غار ٌ وحمـَامة
بيـت ٌ واهـ ٍ قـد نـُسـِج َ أمـَامـه ..!
فـدقــَّت كـُل ُّ طبـول ِ الغـَابـَة ِ
كـُل ُّ طيور ِ الغـَابـة ِ
كـُل ُّ طيوب ِ الغـَابـة ِ
كـُل ُّ أُسـُود ِ الغـَابـة ِ
كـُل ُّ زراف ِ الغابة ِ
كـُل ُّ الغـَابـَة ِ
كـُل ُّ "الطيـْبـيـن " ،
خرجوا للضـيـْف ..!
جاءوا كالنسمـة ِ في الصيـَف ..!
غنــُّوا ... رقصـُوا
ركعـُوا ... سجـَدوا
لثـغوا بالرُّمـْح ِ ، وبـالسـَيـف ..!
ذبحوا نوقا ً ،
حلبـُوا بقـَرة
شـَدُّوا غيمَـا ً صَنـَعوا مطـَرا 7
سمقت ْ شجـَرة
وفاض َ النيـل ُ يـُعـَمـِّد ُ هاتيـك الثمـَرَة ..!
غـَنــَّوا ... غـنــَّوا كخيـال ٍ نشـْوان
كانـوا إنسـان ..!
سـَكـروا حتى الفجـْر ِ
و"مـَريسـَة ُ" جدتنـا ملأت ْ "بـُرمـَة" 8
والطبـْـل يـَؤز :
الله ُ... الله ُ... الله ْ..!
والغابة ُ ترقص ُ، أسمـع ُ وقـْع َ الخـَطـْو ِ النشـْوان
الضـَّب ُ ... الضـَّب ْ
الضـَّب ُ خـَصيـم ُ الرَّب
الرَّب ْ فـي الشـَّق ْ
والسِحليـَّة ،
بكذبتها البيضـَاء  الثــَوريـِّة
أحلى أنثـى - كانت - في ذاكـرتي ، حـُوريـَّة
والضـَّب ُ خـَصيـم ُ الرَّب ..! 9
  *  *  *
الغابـة ُ بـُركـَان
الفيـل ُ الآبـق ُ شيطـَان  
فرسـان ُ الرمْـل ِ الموتـورة ،
تستعدي الله َ على غابتنـا الممطـُورة ..!
"حـَبـّوبـة عطانا"  1
امرأة ٌ كالزانة ..!
ونحن نهرول خلف خيال ٍ مسحـور ،
من غابتـنـا ، من صَحـرَاء "العتمـور" ..! 
ضمت ْ ساقيـَها لتقـول :
الأرض ُ ...  الأرض
الأرض ُ لكل ِّ عصافير ِ الأرض
خيل ٍ ونعـَام ٍ وزراف ..!
  *  *  *
وسهرنا يوما ً كعصـَافير ٍ حاصَرَها اليـُـتـْم
من غير ضجيج ٍ رحلت ْ كالنسـْم ..!
رحلت ْ في الليل ،
فكل ّ البسطـاء ِ اذا رحـَلوا، اختـاروا الليـل ..!
رحلت ْ كالعـطـْر ...
كرحيل ِ بويضات ِ امرأة ٍ بـكـْر ..!
واظـل َّ القبرَ المحزون َ حمـَامة
زيتون ٌ أخضرُ وغمـامـَة
قمر ٌ مشروخ ٌ يهـذي :
الأرضُ ...  الأرض
الأرض ُ لكـل عصَافيـر ِ الأرض
خيل ٍ وزراف ٍ ونعـام ..!
أم جـر - مارس 1997م
1/ حبوبة عطانا : الحبوبة وتنطق التاء المربوطة هاءً تعني في السودان الجـَدَّة. و"عطانا" اسم امرأة وتعني العطاء الخاص بنا. ومثله "فضله واسع" و"العطا منه" وتنطق الهاء واوا ً والمقصود الله و"الخالق رازق" و"صافيات" و"ضو نفره" وتنطق الهاء واواً...إلخ وهي اسماء نسائية سادت في مطلع القرن الماضي في وسط السودان. وكذلك من الرجال: "عبد التام" و"عجب سيده" وتنطق الهاء واوا ً. هذه الاسماء لمواطنين سودانيين نتجوا من تزاوج العرب السمر مع نساء أفريقيات سود. وغالبا ً لم يكن يعترف بهن/ بهم في ذلك الزمان ويسمون بهذه الأسماء. هؤلاء النساء والرجال هن / هم جدات / جدود غالبية مواطني وسط السودان الحاليين.
2/ الودعات ومفردها وَدْعَة : هي سبع صدفات بيضاء ترمى على الأرض بطريقة مخصوصة لمعرفة الحظ واستكشاف المستقبل ومن تقوم بهذا تسمى الوداعية أو ست الودع حيث تتحلق النساء حولها لمعرفة ما ستأتي به الأيام القادمة.
3/ أخـدر : وتعني أخضر. ولكن ليس الإخضرار المعروف في العربية. فهذه الكلمة تستعمل في السودان لوصف لون الأشخاص. فيقال أن فلان لونه أخدر. وهو اللون الناتج عن تزاوج العرب السمر مع الأفارقة السود. فإما أن يكون لون الشخص أسمر أو أخضر أو أسود.
4/ وجنات ومفردها وجنة وهي الخـد.
5/ تحجينا : الحجاوي في السودان هي القصص التي ترويها الجدات للأطفال في المساء. وقصة فاطمة السمحة والغول "ذلك المخلوق الخرافي" من أشهر الحجاوي في السودان وهي ضاربة في القدم وتحكى للأطفال حتى يومنا هذا.
6/ السكسك هو الخرز الأفريقي الملون وتستعمله النساء للزينة عقودا ً وأساور ..إلخ.
7/ بعض قبائل السودان لديها زعيما ً روحيا ًيطلق عليه اسم الكجور ووظيفته تشبه وظيفة الشيخ لدى المسلمين المتصوفة. يعالج المرضى ويقضي الحاجات ولا يتم أي تصرف في القبيلة إلا باستشارته. أكبر وظيفة للكجور هي إنزال الأمطار حيث يقوم بالخروج إلى الخلاء في سنين القحط فيستقبل بوجهه السماء ويردد بعض التعاويذ وهو يجذب برمحه السحاب من هنا وهناك إلى أن يجمعه في المنطقة المقصودة ثم تهطل الأمطار.
8/ المريسة شراب سوداني يصنع بتخمير الذرة دون تقطيرها وشرب الكثير منه يؤدي إلى السكر. والبرمة هي قـلة الفخار الصغيرة. يقول شاعرنا الكبير محمد المهدي المجذوب "1918-1982م" : "مريستنا ملأت ْ برمة ً ... على وجهها يستدير ُ  القمر".
9/ من القصص الشعبي السوداني أن الضب حاول أن يدل كفار قريش على الرسول الكريم "محمد" عليه الصلاة والسلام حينما كان يختبئ في الغار مع صاحبه "الصديق" وهو مهاجر ٌ من "مكة" إلى "المدينة" وكان يردد مترنما ً : "الرب في الشق" والشق هو الغار ولكن السحلية كذبت على أولئك الكفار وانكرت وجود النبي وصاحبه في الغار. ولذا فإن الأطفال السودانيين غالبا ً ما يبحثون عن الضب لقتله بينما يكرمون السحلية لموقفها الكريم ذاك من النبي وصاحبه. 

الثلاثاء، 26 يونيو 2012

الأعمــى

القـلـب ُ صَغـيـر ٌ وبـرئ ٌ        حـُلـُم ٌ مـا سَامـَرَ وسـْـواس
والغيــم ُ بعـينيـك ِ ظـلال ٌ        يـَرْوي أزهــارَ الاحـسـَاس
وشيـاطيـني يــَا سـَيــدتي         تـضجـرُهَا أســوارُ الكـَأس
                            *   *   *                     
دعيـني أ ُخرجك فـَراشـا ً        من ريشــة قلبـي ، أوهامي
نـورا ً أو وردا ً وعطورا ً       كـسنـابـل فـَرَحي ، أقـْلامي
فأنـا مهزوم ٌ فـي زمنـي          يـرهـقــُنـي جـيـلُ الأقـزام ِ
فدعيـنـي أ ُولـَد ُ بـَرِّيــَّا ً          المهـد ُ سيـُفـسـد ُ أحـْلامـي
                           *  *  *                        
أرجوك ظلالك عن رأسي       فغـنــائـي َ تحـت الأمطــار ِ
ودعـيني والنـَّجم َ وطيــفا ً       احتضـن ُ الغيم َ ومزماري
لا تفتحي أصدافك مَـهـلا ً       لا تـفسـدي سحـْـر الأستـار ِ
يكفيني أنفـخ ُ من روحي         فيـروزا ً ، أطيـاف َ مُحـَار ِ
                           *  *  *                  
دعيني أحلـُـم ُ، فخيـالي          في الوحدة ِ أعظم ُ نامــُوس ْ
يكفيـني شــوق ٌ أبــدي ٌ          مصلوب ٌ في نـار ِ مجوس
أرحـل ُ همجيا ً وحشيا ً         أغــْـزو غابـات ِ الأبـنــوس
يكفـيـني أن يـحيـَا ليــل ٌ         أرَّقــه ُ لـَسـْـع ُ النــَّامـــوس
أرجوك دعي حلمي يزهرُ      لا تطلقـي خيـل الهكســوس
                          *  *  *                     
قـد تهـت ُ سنيـنا ً أنشـدُهُ         ويئست ُ مـن اللحن المفـرد
كم لاحت ْ في البعد جنان ٌ       ورآهــا الكــروان فـغــرَّد
أجهدت ُ جنـاحي َ أطلبها         فـي كـل ِّ سـَراب ٍ يتـمـَـدَّد
مـَلاح ٌ قـد أرِق َ طـويلا ً        فـدعـيـه حـلمــا ً يـتــوسـَّـد
ودعيـني أحسبَك ِ حروقي       بـدمـاء حــروفي أتـعـَمـَّـد
                          *  *  *                
دعيـني أتبـتـَّـل ُ أشـْـدو            مـن حبـري أنسج ُ ألواني
وأناجي أطلـب مغفـرة ً            وأقــدِّم قـلـبـي قــربــانـي
لا تلقي الحـُجُب لأنظرَك ِ         فـتـهـزِّي غـفـوة إيـمـاني
لا تلقي الحـُجُب حنانيك            فسيهـلك ابـن ُ الانســان ِ
                        الخرطوم - مايو 1995م

الأحد، 24 يونيو 2012

الصفـعـــة

   حينـما دوت ْ الصفعـة ُ القاسية ُ تشـق ُّ الفضـاء، خيـَّم على الحافلة صمـت ٌ عميق وحبـس الجميـع ُ أنفاسـهم في انتظار ما تسفر عنه اللحظات القادمة من أحداث. كلهم كانوا في انتظـار رد فعل الرجل الأشيب، بادي الوقار الذي كان وجهه النحيـل موضع تلك الصفعـة، حتى "الكمساري" نسي َّ معركتـه المحتـدمة مع بعض الطـلاب حـول تمسـُّكهم بنصف قيمـة التذكـرة فـي العطلـة الصيفيـة ، وأخـذ يراقـب المنظـر وهو يمسـح على أرنبة أنفـه بين لحظة ٍ وأخـرى في توتـر. بينـما أطفـأ السـائق "الراديو" الـذي كان يرتــِّـل بعض آي الذكـر الحكيـم. حبـس الجميع أنفاسهم بعد أن دارت الأعيـن في محاجرها هنيـهة ً ثم استقـرَّت على تلك السيـدة لاهثـة الأنفاس وخصمـها الوقـور الذي يجلس إلى جانبـها خلف مقعـد السائـق في هدوء وكأن الأمر لا يعنيه. كنـت ُ أعلـم ما حدث دون أن يقـول لي أحـد ٌ، الجميع كانـوا يعلمـون ، فليـس لتـلك الصفعـة سـوى سبـب وحيــد. إذ مـا الذي يدعـو سيــدة ً رقيـقـة ً كهـذه السيـدة لتصفـع رجلا ً سـوى أنــَّه  .......... !. 
ابتسمت ُ وأنـا أرحل بخواطري إلى عشريـن عام مضـت ْ. كنـت ُ حينها في السادسة عشـر وحـَب ُ الشبـاب ينتـشر على وجهـي كنجيـمات ٍ خابيـة. جلست ْ بجانبـي على المقعـد الصغيـر فتـاة ٌ في غايـة الجمال ، هكـذا رأيتـُها تلك اللحظة ، فتملكني التوتـر ثم ما لبـث أن هـدأت ُ وأنا أفكـِّر في ما يمكـن عمله. أخرجـت ُ رأسي من النـافذة المواربة استجمع شجـاعتي وأستنشـق بعض نسيـم الأصيل العليـل بينـما الحافلـة تتهـادى في شارع النيـل في هـدوء ٍ ميـَّاس أو هكذا خـُيـل لي. هنيهة ً ثم بـدأت ُ أجـَـدِّف بجنـاحي ذات اليميـن وذات الشمال محـاذرا ً أن يراني أحـد ٌ من الركاب وقـد بلـغ بي الانفعـال والوجـد مبلغـا ً عظيما ً. دهـر ٌ مضى أخيـراً وصلـت ْ سفينتـي إلى شطـِّها ووجدت ْ روحي مبتغاها ليستقـر كـُوعـي في المكان المقصود. كان لدنـا ً دافئـاً ورابيـاً. وسرى التيـار المزلزل مـن مصـدره ذاك، ليشحـن عضـدي بالمشـاعـر المذهـولة الفيـَّاضة ومـن ثــَم َّ ينقلـها إلى سـائر جسـدي لينـخـر الوجـد ُ عظامي نخـرا ً. وما لبـث أن صـُعـقت ُ وتزلزل كياني. كـدت ُ أن أصـرخ من هـول ما اجتاحني من مشاعـر. هنيهة ً وانحسر الموج، فحانـت ْ منـي التفاتـة ٌ يومـها نحـو مصدر الفرح الأكبـر ذاك ، لأجـِد  كـُوعـيَ التعـس وقـد استقـر َّ على حقيبـة الفتـاة ، بل تحديـداً على ذاك "الدبدوب" الصغيـر الـذي تـُزيـِّن بـه الفتـاة حقيبتها. دهمني حينها إحساس ٌ طـاغ ٍ بالخزي والعـار لم يـدم ْ إلا ثـوان ٍ ثـم انفجرت ُ بعـدها في الضحك. ضحكت ُ  يومها حتى سالت ْ دموعي على وجهي بينـما كان الركاب في حيـرة ٍ مما يحـدث ُ لـي. لكـن ما الـذي يدعـو رجـلا ً وقـورا ً كهذا الرجـل ليجـرَّب اليوم ما فعلتـه أنـا منـذ عشرين عاما ً.؟! ألقيت ُ عليـه نظرة ً متسائلة وكأنـي أطالـب دواخله بالإجابـة. في العقد الخامس من العمـر ، وسيـم الطلعـة ، لامـع العينيـن ، وقـد تنـاثر الشيـب على لحيتـه الكثـة ليمنحـه مظهـرا ً وقـورا ً، بينـما جلابيـتـه ناصعـة البيـاض تشعـرك بمـدى نظافـة أعماق صاحبها ونقـائها، والطاقيـة على رأسـه ملتصقة به في إحكـام وكأنـَّها جـزء ٌ منـه. فهمت ُ مـن همهمة بقية الركـَّاب وتعليقاتهم الساخـرة ، أن صاحبنـا قد فقـد رباطـة جأشـه أمـام سـاقي السيـدة الممتلئتيـن فانحنى خلـسة ً يمسـح عليهما في حنـان شفيـف لم تقـِّدره الأخيرة حـق قدره فكآفأتـه عليـه بتلك الصفعـة المدوِّيـة. كانت السيـدة لا زالت ترغي وتزبـد وهي تشرح لبعض الرجال تفاصيـل الواقعة وتجيب على أسئلتهم واستفساراتهم التي لم يخل ُ بعضها من خبث ، في حماس ، بينما الفتيـات قد انكمشن في مقاعدهـن يتظاهرن بالصمم وهـن يتابعن الحديث وأنفـاسهن تحتـدم  والنساء يتضاحكن بصوت ٍ مكتوم بينما لبـث َ صاحبـُنا ساكنـا ً صامتـا ً شاخص العينيـن نحـو سقـف العـربة وكأنـَّه يـرى من خلاله. ثم بغتة ً انفجـر بالبكاء. أخذ الرجل يبكـي ويبكي في مثـابـرة ٍ غيـر مبررة، وارتـفع نشيجـُه حتى عنـان السمـاء. وذهـل الجميع ، إذ أن ما فعلـه الرجـل لم يكـن ليـدور في ذهـن أكثـرنا خيالا ً وتشاؤما ً. كان غريبـا ً مدهشـا ً وغيـر مستساغ. كيف يبكي الرجل ؟! إنه رجـل ٌ من بلادي والرجال في بلادي لا يبكـون أبـدا ً، لذا فإن ما فعلـه صاحبنـا أفقـده تعاطـف القـلة الذيـن تعاطفـوا معه من الرُّكـَاب. وبدأ البعض ُ يسخرُ منـه بكلمات ٍ جارحة ويطلق عليه النكات الخبيـثة ولكـن ابن الخمسيـن لـم يأبـه بهم ، بل لم يحـاول أن يدافع عن نفسه ، لم يحـاول أن ينفي أو يفسر أو يشرح. ظلت ْ الدمـوع الحـَرَّى تنهمـر ُ من مآقيـه في تتابـع ٍ سلـس وكأنـَّه يغتـرف من نبـع ٍ من الدموع لا ينضـب بينما صوتـُه ُيعلو ويعـلو في جلجلة ٍ مزلزلة. وفجـأة ً انتفضـت ْ السيـدة من مقعـدها إلى جانب الرجـل لتقفـز على قدميها كالملـدوغة وهي تنظر تحت المقعد في دهشـة ٍ فـزعة ، ليخرج ذاك الجرو الصغير الأبيض من تحت المقعد وهو يلحظها بعينيـه البـَّراقتيـن النظيفتـين ويهـزُّ ذيله الصغير في رشـاقة ، ثم ينـدفـع ليلعـق السـاقيـن الريانتـين في حمـاس ومحبـة ويتمسـَّح بهمـا وهو يطوِّح بذيلـه في الهـواء في حركـة ٍ دائريـة ٍ منتـظمة. وعـم َّ الصمت ُ الثقيـل ُ أرجـاء الحافلـة. داس السائق على الفرامل بلا وعي ٍ منـه لتتوقـف الحافـلة إلى جانب الاسفلت بصوت ٍ مكتوم. بغتـة ً وانفجـرت ْ إحـدى الفتيـات بالبكاء ثـم تبعتــُها أنـا ثـم السائـق و"الكمساري" ثم الجميـع. تركنـا الحافلـة المشـؤمة ونزلنـا إلى الأرض ننشـج في حـرارة ونحـن نحتضـن بعضنـا بعضا  وقـد علـت ْ أصواتـُنـا حتى عنـان السمـاء ، ومـن خلفنـا النيـل الخالـد وأمواجـُه ُ الهادئـة تتكسـَّر عنـد الشاطئ في رتابـة فتلمع الحبيبات ُ علـى وهـج الأشعـة الغاربـة وكأنـها تبتـسـم.

                                             أم درمان - في أحد صباحات 2010م

السبت، 23 يونيو 2012

العشـاء الأخيــر

                                      إلى : محمد عبد السلام في عليائـه ..!
إشــارة :
"سراج ُ الجـَسد ِ هـو العـَيـن ..
فإن ْ كانت ْ عينـُك َ سلـيمة ً ، كان جسـدُك َ كلـُّهُ مـُنيـرا ً ...
وإن ْ كانت ْ عينـُك َ مريضة ً ، كان جسـدُك َ كلـُه ُ مظلما ً ...
فإذا كان النـُّور ُ الـذي فـيك ظـَلاما ً ، فيـَا لـَه ُ من ظـَلام ْ ..!" 1

مدخــل :
حـل َّ فـوق َ السـَّهل ِ ممتطيـا ً ترانيـم َ الغـمـَام
نيـل ٌ علـى شطـْيـه ِ تلـْهـو طفلـة ٌ وتبيـض ُ أسـْراب ُ الحمـَام
سـار َ فـوق َ الشـَّوك ِ ينـْـتـعل ُ السـَّلام ..!
طـار َ مثـل الفجـر ِ محـمـُولا ً بأجنـحة ِ السـَّكينـة ،
وأنـدق َّ مختـرقا ً غشـاء َ الصمـت ِ
محتـرقا ً بـ"لا" ،
ممـزقـا ً ليـل َ المدينـة ،
كان يبحـث ُ للعصافيـر ِ الصغيـرة ِ عـن مدينـَة ،
ليـس َ هـَاتيـك َ المـَدينـة ..!

النــَّص :
أنكرتـُها وأنكرتـني هـَذه المَديـنـَة
أضعتـُها فضيـَّعتني هـذه المَديـنـَة
مدينتي مدينـَة ُ الكـَرتون ِ والحـُطـَام
صـَبيـِّة ٌ تسلـَّلـت ْ لصـَدرهـَا أصـابع ُ الظـَّلام

فصارت ْ بيتـا ًً للأرواح ِ النـَّجـِسة
وكـل ِّ الأطيـَار ِ النـَّجـِسة ..!
  *  *  *
أيتـها القـِديسـَة ُ المـُعطـَّرة
حدَّقـت ُ في رمـوشـِك ِ المـُكسـَّرة
شفـَاهـِك ِ المـُعفـَّرة
وبطنـِكِ المنفـوخ ِ مثـل َ مقبـَرة
سألت ُ زهـْرة ً وقـُبـُّرة
عن موعـد ِ المـَطـر
طرقت ُ باب َ غيـمة ٍ ولا مطـَر ..!
  *  *  *
منذ ُ دقائق َ ،
وضعـَت ْ هـَذي الأم ُ الشـَّابـة ُ طـِفـلا ً
طفـلا ً بسـَّام َ العينيـن ِ وممصـوص َ الوجـْه ..!
ومنذ ُ دقائق َ ،
وضعـَت "أم شـَبـَتـُو" طفـلا ً
2
طفلا ً بسـَّام َ العينيـن ِ ، وريف َ الخـَديـن
استلقى يلعـب ُ فـوق َ "الرّيـَكـَة"3 ..!
  *  *  *
فـي هـَذي الزاويـة ِ العـَتـِمـَة ،
قطع ٌ من ليل ٍ تتـَمطـى
خنزير ٌ ، سرحـَان ٌ ، قطـَة ،
تتفيـَأ ُ أنـوار َ العـَـتــْمة ..!
فـي هـَذي الزاويـَة ِ العـَـتـِمـَة ،
همـْهـَمـْة ٌ ، ضـَحكـَات ٌ سـَكـْرى
آهـَات ٌ أجـْسـاد ٌ تـُكـْرا

أصـوات ٌ وسـيـاط ٌ نـُكـْرا
تتـَلفـْع ُ أنـْوار َ العـتــْمـَة ..!
فـي ظـل ِ الزاويـَة العـَتـِمـَة ،
نـَامت ْ أطيـار ٌ مُبتسـِمـَة
خـَدعتــْها أنــْوار ُ العـَتــْمـَة ..!
مـن نـور ِ الزاويـة ِ العـَتـِمـَة ،
قـد فـَاحت ْ رائحـَة ٌ عطـِنــَة
فـي هـَذي الرائحة ِ العـَطـِنـَة ِ روح ٌ نتـِنـَة ..!
  *  *  *
فـي الشـَّارع ِ المحمـوم ِ بالسـُّـكون ،
تأرجـَحت ْ رأس ٌ بلا عيـُون
أوقفتـُها ،
سألتـُها عـن قـَامة ِ الشـَّجـر
عـن موعـد ِ المطـَر
فحد َّقت ْ فـي سـَحـنتـي طـَويـلا
تأملت ْ ردائي َ النبيـلا
وأغلقـت ْ رموشـَها فـي سـَاعـِدي قتيـلة ..!
مـن يوقـف ُ الضجيـج َ فـي أرجـوحة ِ الـرجـَال ؟!
مـن ْ يمسـح ُ العفريت َ مـن ذاكـرة ِ الأطفـال ؟!
ركضـْت ُ أحمـل "خـَشبتـي" ... ولا أحــَد ..!
كـُلـُّهـُم ْ ...  ولا أحــَد ..!
  *  *  *
من ينـْزع ُ عنـِّي إكليـل َ الشـَّـوك ؟!

من يشـْـري ألحـان  المـْوت ؟!
  *  *  *
ركضـت ُ دون َ صَـوت
سمـَوت ُ دون َ صـَوت
دخلت ُ "خـورْ تويـم"
عـرجت ُ نحـو المسجــد ِ القـَديــم
صـَرخت ُ : هللويا ... هللويا ... هللويا ..!
لا أحـَد ..!
كـُلـُّهم ْ ...  ولا أحـَد ..!
  *  *  *
رجعـت ُ للـ"أستـاذ" في العشيـِّة 4

لثمـت ُ ثوبـَه ُ ، أخرَجـت ُ قلبـَه ُ ،
وضعتـُه علـى يـدي َ
أبيضـا ً كبسمـة ِ الوليــد ِ
دافئــا ً "كجـْـبــَّة ِ المـُريـد ِ" 5
مدهشـا ً كما الجـديـد ِ
فـَارعا ً كما النشيـد ِ
نابضـا ً بالحـُب ِ ، باسمـَا ً حيـِّي َ
أستـاذنا ... 4
يا منـبـع َ الضـِّيــاء ِ ...
مَجــْمـع َ الوفــَاء ِ ... قـاهـر َ الطـُغــَاة ْ ..1
يـا سراجـَنـَا في الأرض ِ
يا أخـَانا ، يا "أخو الوَلـِيـَّة" 6
ماذا دهى المدينـة ِ الصـَّبيـَّة ؟!
مـاذا دهى النبيـَّة ؟!

النيـل ُ ليـس َ النـيــلا
مـَا لا يـَميـل ُ مـِيل َ
وهـذه الأصـَابـع ْ ...
مـن أيـن َ تـنـبــت ْ الأصَابع ؟!
هـل ْ مـا أرى صـَوامـِع ،
أم أنـَّها الصـَّوامـع ؟!

  *  *  *
فحلـَّق َ "الأستـاذ ُ" فوق َ الأرض ِ بارك َ الحقـُول 4
ومـس َّ كـل َّ لـوزة ٍ غافلـة ٍ تنـام ُ في السـُّهــول
وصـَر َّ حفنـة ً من التـراب ِ ، صَـرَّها فـي خـِرقـة ٍ قـديمـَة 7
باسمـاً ، أعطـانيهـا ، وغاص َ في السـِّحـابة ِ العظيـمـة
قبـَّلـت ُ تلـك َ الصـُّرة ِ الرحيمَـة
ربطتـُها فـي سـَاعدي تـميـمـَة
حملتـُها إمـَارة
وعـدت ُ للـ"الخـُرطوم ِ" أرقــَب ُ البشــَارة ..!
  *  *  *
ابسطي كفيـك ِ يـَا أخت َ القـَمــَر
فأنا أتيـت ُ من المـناخات ِ الأُخـَر
بالفجـْر والكتـب ِ الجديـدة ِ والصـُّور ..!
اطوي مظلتـك فقـد جـَاء المطـر
كصراخ ٍ مولـود ٍ يودِّع ُ مهـْمـَه َ الليل ِ الـرَّهيـب

يصافح ُ الفجـر َ الرطيـب
غلالة ً ، جـاء َ المطـَر ..!
أنشودة ً عـَـذراء َ فـي رمـش ِ السـَّحـَر
طفلا ً  سماويا ً  يلاعبـُه الزَّهـَر
وعجينة ً قدسيـة ً حلـَّت ْ عـلـَى وجـه ِ الكـَدَر
مـا أحلـَى حبـات ِ المطـر ..!
فـكـِّي ضفائـرَك ِ كأجنـحة ِ الدعـَاء ِ جداولا ً

كأسـا ً لشقشقة ِ الحـُبيبـات ِ الطـروبـَة ِ
رقصـة ً بحـُداء ِ أجراس ِ السـَّفـَـر
نحـوَ الجمـَال ِ الحــَق ِّ ،
من عــَرق ِ الجـبــَاه ِ الشــِّـم ِّ ، هـذا "المـُنـتظـَر" ..! 
اخرجي كـل َّ الأثاثات ِ القديـمـَـة ِ للمطـَر

القـِدر َ والمصبـاح َ ، تذكـرَة َ السفــَر
مـا أحلـى حـَبـات ِ المطـر ..!
أشتـاق ُ أن ْ أمشـي إليـك ِ ، حبيبتـي ، تحـْت  المطــَر
وأنـَام ُ يومـي بيـن  نهديـَك ِ عـَلـى وقـْع ِ المطـر
أن ْ أغسـل َ الأحـزان َ فـي مـَاء المطــَر
وأداعب َ الأوتـار َ فـي عـُش ِّ المطـر
مـا أحلـى حبـات ِ المطـر ..!
أشتاق ُ أن ْ آتيـك ِ فـي يـوم ٍ خـُرافـي ٍ طـَويـل
مقـدارُهُ شـَـوقـي إليـك ِ
ورحلتـي نحـْو النـُّجـُوم ِ وبســْمة ُ الطفـل ِ الجميـل
يـَوم ٌ لـَه ُ يتـَفتـَّح ُ اللـون ُ النبيـل
ويـلوذ ُ شبـَح ُ المـَوت ِ فـي قبـو المدينـَة
أنـا لا أخـاف المـوت َ أو صمـت َ السكينـَة
قـد رحـل َ كـل ُّ الأصدقـاء
رحلـوا مـع الرجـل ِ الرهيــب
لكننـي إن مـِت ُ أحيـَا مـن جـَديـد

وأعـود أرحـل في رحـَابك غيمـة ً
خضـراء َ تربـُو كالوليـد ..!
فابسطـي كفيـك ِ قـد جـَاء َ المطـر ..!
  *  *  *
ولاح َ منحـَدرا ً من "الخـُرطـُوم ِ" خلفـَه غمـَامة
و"الروح ُ" فـوق َ رأسـِه كأنــَّه حمـَامة
سـار َ والصـَّباح ُ قـد أظـل َّ منكبيـَه

فبـَارك العـُصــاة َ ثم بسَـط َ فـي الفضـَاء سـَاعديـه
فانسلت ْ البروق ُ مـن غمـام ِ مقلتيـَه
حطـَّت ْ على يديـَه
فراشـة ٌ ، فراشـة ٌ بيضـاء ُ مثـل َ راحتيـَه
دنوت ُ مـن جنـابـه ِ
لثـمت ُ ثوبـَه ُ المنيـر
جلست ُ تحت قلبـِه ِ الكبيـر
-  يـَا سيـدي ... يـَا صَاحب َ الكـرامـَة
خبـِّرني ما الإمـَامة
وهـل ْ هـي القيـَامة ؟!
فغـَاص َ فـي الضيـَاء
وزقزقت ْ عصفورة ُ السـَّمـَاء
ركضت ُ حولـَه ُ
-  مـن  أنت َ ، سيـدي ؟! مـَلاك ؟
-  أرسـَلني أبـي .
-  سيـدي ، ومـن أبـوك ؟!
-  مبـَارك ٌ قـدُّوس ..!
-  زدنـِي ..!
-  عيـون ُ أبي خَـرزات ٌ حمـُر
وضحكتـُه ُ رعـد ٌ وبـُروق
كان زرافا ً ، فحـْلا ً يهـدر ُ بيـن َ النـُّوق
كان أبونا نيـلا ً يضـرب ُ فـي الصحـْراء
فهدا ً يكمـُن ُ فـوق َ الغـَاب ِ ونورا ً جلــَّل َ غـَار َ "حـِراء" ..!
-  زدنـي ..!
-  كان أبـونـا شيـَخا ً يقنـُت ُ فـي الأسحـَار
نقــْرَة َ "طـَار ٍ" 8

حلقـَة "زار ٍ" 9
رمحـَا ً "يـَعـرض ُ" حـَول َ النــَّار ..!
10
-  زدني ..!
-  كان "السـِّعــْن ُ" نـَديـا
11
و"مولوفتـُنا" ضـُل َ "تبلديـَّة" 12
و"جـُراب ُ" أبـي يتوســَّد ُ عـود َ "الطوريـَّة" 13
وأبـي يتحـدث ُ فـي "الطمبـور ِ" 14
"تقوقي من مـرج ِ الحـوَّاشـة ِ قـِمـريـَّة" 15
كنا نجلـس ُ بيـن يديـه حزمة َ غـَاب ٍ
عـَرقا ً آب َ مـن "الضحـويـِّة" 16
وكلاب ُ "السيـِجـَة ِ" ، بقـَر ُ "الضـَّالـة" تركض ُ قـدام َ "الشبـْريـِّة" 17
وتميس ُ لويزات ُ القطـن ِ ، تميـس ُ
وتختـف ُ "شبـَّال َ" "الصـُبحـِيـَّة" ..! 18
-  زدني ..!
  *  *  *
وكانت الطريق ُ بـَاردة
والخيل ُ فوق َ صفحـة ِ السمـاء ِ واردة
فسَـار َ نحـو قمـة ِ الجبـَل
تبعتـُه أسيـرُ نحـو قمـة ِ الجبـل
مـن موضعـي ،
رأيتـُها ، المدينـة َ التـي استحقـت ْ الغضـب ..!
سمعتـُه يـُردد الصـَّلاة :
- " أيها الآب ... 

تقـدس اسمـُك ...
وتبـَارك َ شعبـُك ...
كـُل ُّ واد ٍ يمتليء
كـُل ُّ جبـَل ٍ وتـل ّ ينخـَـفض
والطرق ُ المعـوَّجـة ُ تستقيـم ..!" 19
-  آمين ..!
هتفت ُ في جـَزل
ما عـَاد لـي ، بـل ْ عـَاد َ صوتـُهُ يسيـح ُ فـي الجـَبــل :
-  يلعننـُي كـل ُّ جـُبـَاة ِ الأرض ْ
وكـُل ُّ "الفريسيين" وأبناء ُ المــَوت 20
ستـُنكرنـي أنت 21
ورئيـس ُ الكهنـَة يمسـح ُ ظلـي
يطـرد ُ صـَوتـي
ويقـَدِّم ُ مُحـَرقتـي ، قربـَاني للشيـَطان
الـدرب ُ طويـل ٌ يـا ابن الإنسـَان
الحـَق َّ ... الحـَق َّ أقـول ُ وموعـدُنا "أم درمان" ..!
  *  *  *
وتسقط ُ الظـلال ُ والظـلال
ويبصر ُ الطـريق َ مـن يـَرى على الطريـق ِ مـَا يـُرى :
فراشـة ً ، حمـامـة ً أو نجمـة ً وآل
وهـذه الجمـوع ُ جـَامحـَة
قد اكتسـَت ْ بثـَوبها الأصيـل ِ صـَادحـة
على ربـَا "الخـُرطـوم" فـي جـَلال
ثـُم انثنـت ْ تغنـي
لغـادة ٍ مجــْدولة ٍ بالطمـي كانت المثــَال
غـَادة ٌ تفـوح ُ مـن مسـَامنـا
تـلــوح ُ فـي سمـَائنـا
عروسـة ٌ فـي الشـط  ِ كالغــَزال
مـزارعٌ ، مصانع ٌ ، ملاعب ٌ
وطفلـة ٌ زاهـرة ُ الخـَيـَال ..!
وسَـار َ بيننـا يبـَارك ُ العـُّمـال
يعـمـِّد ُ "الشماشـَة" الصغـار 22
ويسـأل ُ الخـلاص َ للخـُطـاة ..!
ها نحن صاعدون "خور تويـم" ..!
ها نحن هابطون "خور تويـم" ..!
غناؤنـا يـؤز ُ والأديـم
هتافـُنـا يفتض ُّ زرقـة َ السـَّديـم
وكان مسجـد ُ النـَّبي مثـل َ هـَيـكل ِ النـَّبي
يعج ُّ باللصوص ِ ، بالتجـَار ِ والصيـَارفــَة 23
"خـور تويـم" ... "خـور تويـم"
"ما بـَال الجـمـَال مشيـَها وئيـدا ؟!
أجنـدلا ً يحـملن أم حـَديدا ..؟!"
وتسـقـط ُ الظـلال ُ والظـلال
ويـُبصـر ُ الطـَّريق َ مـن يـَرى علـى الطـَّريق ِ مـا يـُرى :
فراشـة ً ، حمامـة ً أو نجمة ً وآل
عينا "يـَهوذا" كوكبان ِ مظلمـَان ِ سابحـَان فـي الرمـَال 24

ونحـَن ُ سـَائرون َ منشـدون َ قـَاصدون َ "خـور تويـم"
صـَبية ً بوجههـَا القـَـديـم ..!
  *  *  *
أنكـِر وجهي ، لا يـُنكرُني
أبصـق ُ صـوتي ، لا يـَبصقـُني
ويصيح ُ الديـك ُ أيـَا "بطرس"
ويـُطل ُّ الفجـر ُ أيـَا "بطرس"
21
وأنـَا لا زلت ُ أراوغ ُ وجـهي
سـآوي إلـى جبـَل ٍ يعصمـُني منـه ..!
أركـض ُ ، يركـض ُ وجـهي
عـَينـي ، أذنـي ، لسـَاني ، أنـفـي
حـَولي ، خلفـي
لا عاصـم َ مـن وَجهـي إلا وَجهـي ..!
  *  *  *
في كل صـَباح ٍ يـَصدح ُ عصفـُور ٌ
وينـَادي خـَد َّ الشمـس
والشمـس ُ تبـَارك ُ ذاك َ العـُصفور
والطيـر َ يعمـِّدُه ُ النــُّور
فـي كـل صبـَاح ٍ تـزدان ُ عصـَافيـر ُ الكـَون ِ
وتغـنـِّي
والحقـل ُ يغـنـِّي
للذهب ِ المسكـُوب ِ بخـَد ِ الـزهـْر
وفـوق َ وجـُوه صبـَايا يحـْضـن َّ النـَّهـر ..!
في كل صبـَاح ٍ تجتـمع ُ عصـَافير ُ الشـطـَآن
تنـَادي المطـر َ وتغتـسـل ُ ،
تبـدِّل ُ ريـش َ الأحـزان
تجلـس ُ فـوق َ الربـوة ِ تختـَار ُ الألـوان ..!
وجهي ...
ذاك التائه ُ يزرع ُ اسفـلت َ السـرطـَان
وجهي ...
ذاك الموبوء ُ بأكواخ ِ البـَارود ِ وجـَعجـَعـة ِ الفـرسـَان
الدرب ُ طـَويل ٌ يـا ابـن َ الإنسـَان
الحـق َّ ... الحـق َّ أقـول ُ ومـوعـُدنـا "أم درمـَان" ..!
  *  *  *
لا تسـألوا عـَنـي
إنـِّي موجـُود ٌ ، موجـُود ..!
لا تبحثـوا عـَنـي
ما كنت ُ بيـوم ٍ مفقــُود
إنـي أحيـَا ... فيـكـُم
فـي صخـَب النيــل ِ ولـون ِ الشمـس
قابلـت ُ فتــَاتي بالأمـْس
تلك السمـْراء
ذات َ العينيـن ِ الضاحكتيـَن
ذات َ السـاقيـن ِ الواعدتيـن ِ بأطفــَال ٍ منــِّي

منـكـُم ، منــَّا ، أطفـال ُ السمـْراء ..!
فتـاتـي ، تسمـَعني فـي جـَوف ِ الليـَل
غنيـت ُ لعينيـها فـي قلـب ِ الليـَل
كانت ترقـص ُ ، تهـْمـس ُ رغـم الليـَل
وهمـس ُ السمـْراء يزيـح ُ العـتــْمة َ
يكشـف ُ عـن وجهـي ، عنـكـُم ، عـنـَّا ويـُنيـر ُ الآفــَاق
همـس ُ السمــْراء ، فتــَاتي ، يـُخـرس ُ كـل َّ الأبــْواق
مـَا بينـنـا يكفيـها ، يكفيـني ، يكفيـكـُم ، يكفينـَا
يـَكفـي كـُل َّ العــُشـَاق ْ..!

                جامعة الخرطوم أغسطس - نوفمبر 1998م.
الهوامش :
1/  متـَّى - 6 : 22
2/ أم شبتو : من العربية السودانية ومعناها العنكبوت.
3/  الرَّيكــَة : من العربية السودانية - وتنطق التاء المربوطة هاءً : طبق من سعف النخيل توضع فيه الكـِسـْرَة وهي خبز السودان الرئيسي. وربما كان أصلها نوبي.
4/ الأستاذ : هو المهندس "محمود محمد طه " ولد في العام 1909م  بمدينة "رفاعة" وسط السودان وتخرج في كلية غردون "جامعة الخرطوم حاليا" عام 1936م من كلية الهندسة. صاحب الفكرة الجمهورية ومؤسس الحزب الذي يحمل ذات الاسم. جالد الاستعمار البريطاني في ذلك الزمان مع رفاقه في الاحزاب الأخرى حتى تحقق استقلال السودان عام 1956م. كان أول سجين سياسي في الحركة الوطنية. أصدر ما يقارب ثلاثين كتابا ً ومائتي كتيب ومنشور يشرح أسس الفكرة الجمهورية. حيث يقدم الاسلام في مستواه العلمي كدعوة عالمية للسلام. كان يدعو لتطوير التشريع ليواكب متطلبات العصر خاصة في جانب المرأة. وجوهر الفكرة هي الانتقال من الآيات المدنية التي قامت عليها بعض صور الشريعة إلى الآيات المكية التي نسخت في ذلك الوقت لعدم تهيؤ المجتمع لها. حيث الدعوة إلى الديمقراطية والاشتراكية والمساواة الاجتماعية المدخرة في أصول الدين. عارض نظام "جعفر نميري" معارضة شرسة فتم اعدامه بتهمة الردة في 18 يناير 1985م.
5/ جبة المريد : تعبير صوفي. والمريد هو المنتظم في السلك تحت إشراف شيخه المباشر. والجبة هي لباس الصوفية المميز. قطعة واحدة من قماش رخيص دائرية الشكل تستر الجسد كله وغالباً ما تكون مرقعة بعدة قطع مختلفة الألوان.
6/ أخو الوَلـِيـَّة : من العربية السودانية. وتنطق التاء هاء ً. والولية هي المرأة. والرجل السوداني يعتبر نفسه أخا ً لأي امرأة في العالم. يقولون :" الراجل ود عم المرأة". بمعنى أن أي رجل سوداني مسئول عن أي امرأة.  وعندما ينفعل الرجل السوداني ويقول :"أنا أخوك يا فلانه" وينطق الاسم ، فهذا يعني أنه سيقاتل حتى الموت. موته أو موت عدوه. فأخو الولية ترمز دائما ً للشهامة وإيثار المرأة ومساعدتها والوقوف إلى جانبها. وعندما تصبح تلك الولية "فلانة" المخصوصة بالاسم فإنها ترمز للثبات وهذا ما حدث للأستاذ/ محمود محمد طه. فبعد أن حكموا بردته وقضوا بإعدامه أمهلوه كي يتراجع عن أفكاره موضوع الحكم فرفض الأستاذ "رغم أنه كان بإمكانه مداراتهم" وتقدم "أخو فلانة" نحو المشنقة في ثبات ٍ وهو يبتسم. 
7/ صَـر َّ حفنة من التراب : صرّ من العربية السودانية ومعناها ربط شيء في قطعة ٍ من القماش. وتسمى "الصـُّره". هناك عادة سودانية قديمة تقضي بأن تصر النساء حفنة ً من آخر تراب وطئته قدما الحبيب المسافر عند خروجه من الدار. ويعلقنه في مكان ٍ ما من البيت حتى يضمن عودة ذلك الحبيب سالما ً.
8/ الطـَّار : من العربية السودانية وهي : آلة موسيقية إيقاعية نوبية من شمال السودان. تستصحب في الغناء وقد انتشرت في كآفة بقاع السودان بعد أن استخدمها المتصوفة في إنشادهم قصائدهم ومدحهم الرسول الكريم "محمد" صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
9/ الزار: في السودان : هو روح طيب وغنـِج يتلبس النساء. وهو أيضا ً الاحتفال الذي يقام للمرأة المتلبسة بذاك الروح. حيث تجتمع النساء في بيت المتلبسة وتنحر الذبائح وتغني النساء بقيادة "شيخة الزار" أغاني مخصوصة لمعرفة نوع ذاك الروح. وحينما تأتي الأغنية المطلوبة تخرج المتلبسة عن وقارها "يقال أنها نزلت ْ" فترقص كما لم ترقص من قبل وتتحدث لغة ً أخرى ، حسب جنسية الروح الذي يسكنها، إنجليزية أوفرنسية أو سواحلية أو لغة بعض القبائل المحلية كالدينكا أوالشلك أو غيرهم. ثم تطلب طلباتها وهي طلبات الروح كالذهب والعقود والأساور وغيرها وما على الزوج أو الأب "بحسب الحال" غير السمع والطاعة وإلا حدث للمرأة ما لا تحمد عقباه. بقية النساء في ذاك الاحتفال "وحيث أنهن خبرن ذات الموقف ويعرفن نوع الروح الخاص بهن وجنسيته" فإنهن يتعطرن ويتزين ويرتدين من الثياب ما يوافق الأرواح الخاصة بهن بعضهن ضباط في الجيش البريطاني أو السوداني  بكامل ثيابهن الرسمية والأوسمة والأنواط تزين أكتافهن وبعضهن بزي الطيارين الحربيين وبعضهن يضعن الغليون ..إلخ.
10/ يعرض : العرْضة هي رقصة حماسية سودانية خاصة بالرجال. كما أن استعراض الجيش في دولة المهدية السودانية اسمه العرضة.
11/ السعـِن : من العربية السودانية وهو : وعاء من جلد الخراف يـُبـرَّد فيه الماء عن طريق تعريضه للهواء بتعليق السعن في أحد أغصان الأشجار أو غيره. ذلك بعد دبغ الجلد وخياطته بطريقة ٍ مخصوصة.
12/ المولوفة : هي الشجرة الظليلة حيث يجتمع الطير عند الهاجرة. والتبلدية هي شجرة ظليلة تنتشر في غرب السودان.
13/ الجـُرَاب : وعاء من قماش أو جلد تحفظ فيه الأغراض. و الطورية : آلة تستخدم في الزراعة لحفر الأرض. وأصلها نوبي.
14/ الطمبور : أو الطنبور: آلة موسيقية وترية من شمال السودان. اشتهرت بها قبيلة الشايقية والنوبيون.
15/  تقوقي : من العربية السودانية ومعناها تغرِّد. وتستعمل لوصف تغريد طير القماري فقط "القبرات". الحواشة : من العربية السودانية وهي الحقل.  السطر الشعري هذا ، مضمن من قصيدة للشاعر "حسونة بدوي حجازي".
16/ الضحوية أو الضحوة : من العربية السودانية وأصلها كلمة الضحى. وهي وقت خروج الرجال للحقل وتمتد من بعد طلوع الشمس بقليل إلى منتصف النهار.
17/ السيجة والضالة : وتنطق التاء المربوطة هاءً ، لعبتان شعبيتان سودانيتان يختص بهما الرعاة غالباً وتسمى قطع السيجة كلاب وقطع الضالة بقر وهي غالبا ً من صغار الحصى. والشبرية : تعني الهودج.
18/ تختف : من العربية السودانية وهي تختطف.و الشبـَّال : هو أن تلقي الفتاة برأسها فجأة ً وفي حركة ٍ سريعة ٍ خاطفة أثناء الرقص على كتف الفتى الذي تود فينتشر شعرها المعطر على وجهه ورأسه. و الصبحية : هو الحفل الذي يقام ثاني أيام الزواج نهاراً.
19/ لوقا 3 : 5
20/ الفريسيون : الفريسى : كلمة آراميه معناها  المنعزل.  والفريسيون هم إحدى فئات اليهود الرئيسية ومن حيث العقيدة كانوا يؤمنون بخلود النفس وقيامة الجسد ووجود الأرواح ومكافأة الإنسان ومعاقبة الآخرة . غير أنهم حصروا الصلاح في طاعة الناموس فجاءت دياناتهم ظاهرية وليست نابعة من القلب .اشتهر معظم الفريسيين بالرياء فاستحقوا الانتقاد اللاذع والتوبيخ القاسي ، فيوحنا المعمدان دعاهم بأولاد الأفاعي  كما وبخهم السيد المسيح على ريائهم وتحميلهم الناس أثقالاً صعبة الحمل. ولقد كانت لهم يد بارزة في المؤامرة على السيد المسيح. متـى 5 : 16،23 مرقس 3
21/ تنبأ السيد المسيح ليلة أن أحيط به أن تلاميذه سيشكون في صدق نبوءته. فقال "بطرس" : لو شك الجميع فأنا لا أشك. فقال له السيد المسيح : الحق أقول لك . إنك اليوم ، في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك مرتين ستنكرني ثلاث مرات. وهذا ما حدث حين أحيط بالسيد. خاف "بطرس" الهلاك فأنكر أنه من تلاميذه بل أنكر معرفته السيد المسيح ثلاث مرات. وفي الثالثة صاح الديك. فتذكر "بطرس" النبوءة فندم وبكى بكاءً مرا ً. مرقس 14 :30
22/ التعميـد: طقس مسيحي رمزي يحمل معنى التطهر. وتتمثل باغتسال المعتمد بالماء وهي من وظائف القساوسة... الشماشة : هم الأطفال المشردون في الشوارع بلا عوائل أو مأوى. أبناء الشمس. وفي السودان تبدل السين شينا ً وتكسر الميم. فيقال الشمـِش.
23/ ودخل "يسوع" إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وقال لهم : بيت أبي بيت صلاة ولكنكم جعلتموه مغارة لصوص. متـى 21 : 13
24/ بحسب الأناجيل القانونية فإن "يهوذا الإسخريوطي" هو التلميذ الذي خان السيد المسيح وسلمه لليهود مقابل ثلاثين قطعة فضة.

الاثنين، 18 يونيو 2012

ويبـدو لي غيـر حسـن

ما أروعـك ،
ما أنبـل َ الإحسـاس ..!
كفكـرة ٍ لطيـفة ٍ ، كغيـمة ٍ شفيـفة ٍ
يدهمُنـي النـُّعاس ..!
ساحـرة ٌ مدائنـك ْ
عامـرة ٌرياضـُها
مشـعة ٌ أبوابـُها
حمـائم ُ السـَّلام في قبـابها
تغـرِّد ُ الصباح َ للعبيـر ِ والطيـُوب
فتـورق ُ الغصـون ُ والمزاهـر ُ الطريـة ْ
وتزهر ُ الأرواح ُ في الـدّروب ..!
وكل ُّ ذاك َ الفاتـن الطروب
أراه في مجاهـل ِ الغيـوب
أراه كالوسـَن ْ 
فيبـدو لي غيـرَ حـَسـَن ْ ..!
  *  *  *
أريـد ُ أن أطيـر..!
أخرج ُ من شـرنقتـي
قيـودك الحـَرير
ليس لي مدينـة ٌ سـوى شـراعيَ الحـزيـن
خـُلقت ُ تائها ً، بوصلتي أديـر
أبيـت ُ ليـلة ً بشـاطئ ٍمهجـور
أعمـَّر ُ الأطلال َ عنـدَه ، أفجـِّر ُ الصـُّخـور..!
فتـورق ُ النـُّدوب
وتزهر ُ الأرواح ُ في الـدّروب ..!
وكل ُّ ذاك َ الفاتـن الطروب
أراه في مجاهـل ِ الغيـوب
أراه كالوسـَن ْ 
فيبـدو لي غيـرَ حـَسـَن ْ ..!
  *  *  *
فكم سمرت ُ في مجاهـل الغنـاء
وكم شربت ُ من مدامة الضياء
راقصت ُ ساحرات النـهر في السمـاء
خاصرت ُ نـور البدر في العشية
وكم تفتحت ْ براعم الشذى الحييـة
على غـِنــا قيثارتي النديـة ْ
لكنني أسامر الحـّزن ْ
وكـل ذا أراه كالوسـن ْ
فيبدو لي غيـرَ حَسَـن ْ ..!
 *  *  *
ما أروع َ الغيوم ُ في عيونـك الثقـال
وفرحة ٌ بريئـة ٌ تحفـَّها الظـلال
وحلمُـك ِ المنيـرْ
المطبـخ ُ الصغيـرْ
وطفلـة ٌ منيـرة ُ الخيـال
لكننـي أقـارب الحـَزَن ْ
وكل ذا أراه كالوسـَن
فيبدو لي غير َ حـَسـَن ْ ..!
  *  *  *
السندباد ُ يرفـع ُ الشـراع
راحـل ٌ أنـا
يا فـُلتـي الوسيـمة ِ ، الوداع ..!
وكل ما قاسمتـِه ِ من الطيـوب والحياة
وكل حـلم ٍ فارع ٍ على خطـى المسـاء
في شطـِّك الطـروب
أراه في مجـاهل الغيـوب
كلـه ، أراه كالوسـَن ْ
 فيبدو لي غير حـَسـَن ْ ..!
  *  *  *
سفينتـي قد أبحـرت ْ وغـابت  الحصـون ُ والشـَّجـر ْ
ستحزنين - إن أتى المسا - قليلا ً
فالحزن ُ - مثلي - طائـر ٌ قـَلـِق ْ
حيـاتـُه سـَفـَـر ْ
غـدا ً ستنشـدين للمطـر ْ
ويـورق ُ الفؤاد ُ عند شاطئيك ِ يضحك ُ الزَّهـّر ْ..!
                   الخرطوم - ديسمبر 1995م

الأحد، 17 يونيو 2012

الجـريــمة


ككل الفتيات عرف قلبها الحب يوما ً ولكن لم يهنأ به طويلا ً ، بددته أخرى استطاعت أن تسلبها من تحب. ألقت ْ أسلحتها مستسلمة ً في يأس ٍ معترفة ً بالهزيمة بمجرد ظهور الأخرى إذ كانت تعلم أن المقارنة لن تكون في صالحها أبدا ً، فتركته لها وانطوت على نفسها تلعق جراحها. كانت تعلم أن أجمل ما فيها هو صدرها العامر وأردافها الملفوفة وشعرها المسترسل الطويل لامع السواد ولكن ثوبها الفضفاض وخمارها السميك سلباها أمضى أسلحتها في المعركة، ليبقى ذلك الوجه الذي يغطيه النمش والأنف الضخم والثياب الواسعة الفضفاضة السميكة، إضافة ً إلى الخمار الذي يخفي نصف وجهها، كل ذلك يبديها كساحرة ِ الغابة الشريرة، كما يصورها رسامو قصص الأطفال. وظل ذلك الجرح مفتوحا ً يشعرها دوما ً بالخوف من خوض التجربة مرة ً أخرى رغم مرور السنوات وتقدم العمر الذي كان يزيد الأمر سوءا ً على سوء. 
ورغم إيمانها المتيقن الذي يضرب بجذوره عميقا ً في قلبها منذ الصغر إلا أنها كانت تضعف في بعض الليالي فتعاتب الله على ما أنعم عليها من سدر ٍ قليل ثم تعود تستغفره وهي تردد في إيمان ٍ يمازجه الكثير من الشك أن هنالك حكمة خفية في ذلك القبح عميتْ عن ادراكها ونعمة غير ظاهرة يدَّخرها الله لها ليوم ٍ لا شك آت. تلك الحكمة الخفية لاحت لعينيها وتلمستها بيديها حين التقديم للوظيفة. الرجل الذي توسـَّط لها للحصول على تلك الوظيفة نسي في غمرة حماسه إحساسها الأنثوي، فأفضى إليها بفرحة ٍ ساذجة ٍ أنه لا يشك مطلقا ً في توظيفها لأن "أمير القسم الداخلي بالجامعة" لا يوظف الغانيات. فهمت أنه يقصد الجميلات اللائي يستغنين بجمالهن كما ورد في أحد المعاجم القديمة فأحسَّت بغير قليل ٍ من الألم. 

وكان ما قاله الرجل. فمن بين ستين فتاة  تقدمن لشغل وظيفة الحارسة في "بيت الطالبات" تم اختيارها هي وواحدة أخرى فعرفتْ أنها أقبح فتاة بينهن أو ثاني أقبح فتاة على أحسن تقدير، مما أفسد عليها فرحة الظفر بالوظيفة. ولكن سرعان ما انغمست في واجبات وظيفتها لتخف آلام الجرح شيئا ً فشيئا. ولم تكن تلك الواجبات بالأمر الهين إذا كان عليها مراقبة مئات الطالبات المشاكسات في غدوهن ورواحهن وتقييم سلوكهن وتوجيههن بما يرضي الله وملاحظة ما يرتدين من ثياب ومدى توافقها مع الزي الشرعي المعتمد في الدولة. وكان الاخلاص ديدنها منذ نعومة أظافرها فأخذت الأمر على محمل الجد فمن أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل. كما أن الخطبة الرائعة التي ألقاها على مسامعها "أمير القسم الداخلي بالجامعة" حين سلمها وزميلتها مهام الوظيفة تركت في قلبها أثرا ً لا ينسى. إذ رفض "الأمير" تسميتهن بالحارسات بل قال أنهما مرابطتان في سبيل الله يسددن ثغرة مهمة من ثغور المسلمين. كل هذا جعلها لا تتهاون أبداً مع رعيتها من الطالبات بالقسم الداخلي فاشتهرت بالقسوة والصرامة بينهن، ساعدها على ذلك صوتها الخشن الذي يشبه صوت الرجال كثيرا ً مما جلب عليها كراهية رعيتها من الطالبات وسخريتهن فأخذن يروين عنها الطرف الساخرة ويهزأن من هيئتها ولباسها في جلسات سمرهن. وكانت تعلم كل ذلك ولكن إيمانها الراسخ بعظم مهمتها ونبلها جعلها لا تكترث لكراهيتهن ولا تهتم بما يروين عنها  بل تجد لهن الأعذار وتزيد يوما ً بعد يوم من اللوائح المنظمة لـ"بيت الطالبات" حتى تستطيع حماية أولئك الغريرات من شرور أنفسهن.
يوما ً ما ، لاحظت (المرابطة) أن إحدى الطالبات اعتادت الخروج يوميا ً بعد صلاة العشاء ولا تعود إلى "بيت الطالبات" إلا قبل موعد إغلاق الأبواب بقليل. أقلقها الأمر كثيرا ً ففكرت في تحذير الفتاة. أخذت تتعمد مضايقتها حين الدخول والخروج وتبديء ملاحظاتها على ما ترتديه من ثياب وعدم ملاءمتها للزي الشرعي ولكن الفتاة العنيدة لم ترعو ِ، فهكذا هن دائماً حين يبدأن السقوط يتدحرجن حتى القاع ويصبح الحياء كلمة لا معنى لها في قاموسهن فظلت الفتاة على عادتها المشينة في الخروج والعودة في الوقت المشبوه مما جعل (المرابطة) تعترف بأن الأمر أكبر من قدرتها ويتجاوز اختصاصها فاتصلت برئيسها "أمير القسم الداخلي بالجامعة" ووضعت أمامه الصورة كاملة كما رأتها. ورغم ثقته في من تحدثه ، إلا أن الرجل لم يأخذ بذاك النبأ حتى يتبيـَّن، فأوصى بمراقبة الفتاة المقصودة مراقبة لصيقة حتى تضبط بالجرم المشهود، حينها تكون العقوبة ُ عادلة ً مهما بلغت من القسوة.
وفي اليوم الموعود كانت (المرابطة) واثنان من رجال الحرس الجامعي على أهبة الاستعداد لتنفيذ المهمة. عبأ كل منهم هاتفه الجوال بالرصيد واشترى كل من الرجلين علبة سجائر "برنجي"1 واحتفظوا بباقي مبلغ "النثرية"2. وحينما رن تلفون (المرابطة) عرف الجميع أن المهمة قد بدأت لتتجمد نظراتهم على الباب الرئيسي لـ"بيت الطالبات". برهة ً وخرجت الفتاة منسَّلة بخطوات مضطربة وهي تتلفت حولها. إنها ذات الفتاة بفستانها الأخضر الطويل ووشاحها الأحمر الذي تزينه الورود البيضاء وعينيها الجميلتين اللتين توحيان بالإثم. أدار كل من الرجلين محرك "الموتوسيكل" لتسخين الماكينة ثم لبث ثلاثتهم ينتظرون وقد حبسوا أنفاسهم. وعلى غير ما توقعت (المرابطة) لم تقف الفتاة بجانب الاسفلت لتنتظر السيارة المشبوهة وإنما أسرعت على قدميها بخطوات ٍ نشطة متجهة نحو الكوبري الذي يفصل بين المدينتين. - هذه فتاة ذكية جداً يبدو أنها متمرسة على مثل هذا العمل - هكذا فكرت (المرابطة). - وفي لحظة ما ، ستتوقف إحدى السيارات الفخمة إلى جانبها وتنسل داخلها.-  لذا اعطت (المرابطة) أوامرها للرجلين لمتابعتها بعد قليل بـ"الموتسيكلات" بينما سارت هي خلف الفتاة على قدميها بخطوات ٍ متلصصة.
تنفست (المرابطة) بعمق وهي تسير خلف الفتاة على الكوبري المرتفع نسبيا ً عن المدينة كان النسيم عذبا ً أنيقا ً يلف المدينة الناعسة بغلالة ٍ من الهدوء الشفيف بينما أضفت البنايات الحديثة والأبراج الضخمة بأنوارها المتلألئة على المنظر بهاء ً ورونقا ً، وقد بدت الملاهي من تحت ذلك العلو بأنوارها الحمراء والصفراء والخضراء كجنة ٍ أخرى وسط ذلك الجمال اللاهث وضحكات روادها وصيحاتهم تصل إلى أذني (المرابطة) غامضةً مبهمة، والفتاة تسير أمامها مسترخية الخطوات كما النائم ثم أحست بصوتها يعلو قليلا ً. أسرعت (المرابطة) في خطواتها لتقترب أكثر كانت الفتاة تغني بصوت ٍ حنون. لم تستطع الأخرى أن تتبين كلمات الأغنية التي أخذت الفتاة ترددها بعذوبة ٍ أخـَّاذة ولكن الصوت الحنون الذي تزينه "لـَجـَنـَةٌ"3 محببة جعل دواخل (المرابطة) تهدأ ويتسرب شيء ٌ من البهجة إلى نفسها ثم يطويها فيض ٌ من الذكريات وصورة الحبيب الغادر تلوح أمامها فتغرورق عيناها وتسيل الدموع الحارة على وجنتيها مدرارا وهي تبكي ذلك الزمن الجميل. ثم انتبهت إلى نفسها فأسرعت تمسح الدموع من على وجنتيها وهي تتلفت حولها خوفا ً من أن يكون رآها أي من الرجلين الذين يتبعانهما. أكملت الفتاة رحلتها و(المرابطة) في إثرها ليستقبلهما مطعم "مجيك لاند" بواجهته الفخمة وأنواره المشعة بينما سيارات الرواد الفارهة تنتظم في تشكيل ٍ بديع في المكان المخصص إلى جانب المدخل. 
وبدلا ًمن أن تتجه الطريدة إلى مدخل المطعم حيث الأنوار البهيجة والفرح المبهر كما توقعت الصيادة إذا بها تتجه بخطوات ٍ مضطربة إلى الجانب الخلفي المظلم من المطعم. توترت عضلات (المرابطة) فأخرجت هاتفها الجوال تدل زميليها على مكان الجريمة والذين تسللا إلى جانبها في ثوان. اتجه ثلاثتهم بخطوات ٍ متلصصة إلى حيث اختفت الفتاة ليتوقفوا مشدوهين. رآوها وهي تدخل رأسها في برميل القمامة بينما يداها تعبثان في محتوياته وهي تصطفي مما يحويه ما يروق لها لتضعه داخل أحد الأكياس وهي ترفع رأسها بين لحظة ٍٍ وأخرى تراقب ما حولها كقطة ٍ مذعورة، حتى امتلأ الكيس لتحمله الفتاة و تقفل راجعة ً تلتقط خطواتها المسترخية على الكوبري الذي يفصل بين المدينتين وهي تغني بصوت ٍ حنون تزينه "لَجَنَةٌ"3 محببة بينما سارت (المرابطة) في إثرها مهدودة الخطوات ودموعها تنهمر مدراراً على وجنتيها دون أن تهتم بمسحهما كما تعودت قديما ً أو تهتم للرجلين الذين يسيران خلفها متعجبين.

                                الخرطوم في إحدى ليالي 2011م. 
1/ برنجي : ماركة سجائر سودانية وهو من أجود أنواع السجائر وأكثرها تأثيراً.
2/ النثرية : هو المبلغ الذي يخصص في المصالح الحكومية وغيرها لأجل تصريف الأعمال غير الرسمية والأعمال التي تتم في الظل ومكافأة من يؤدونها. وهو غير منضبط غالباً وغير خاضع للمراجعة القانونية. 
3 / لَجَنَة. كلمة من العربية السودانية تقابل اللثغ في العربية الفصحى. فالشخص الألجن هو الألثغ الذي ينطق بعض الحروف كالأطفال كأن يقلب الراء لاماً. والكاف تاءً وهي محببة عند الفتيات. 

الثلاثاء، 12 يونيو 2012

امرأة ٌ من الشعب

كانت ْ تحلـُم ،
كنساء الشعب جميعا ً ، تحلـُم ..!
أضحت ْ تعـلم ،
كنساء الشعب جميعا ً ، تعلم ..!
القصـة ُ ليست ْ "شاهيـها"
أو شكل وعطر أوانيـها
لكن البسمة ُ في فيـها
أو هـزة ُ ردف ٍ تعنيـها
تحتاج لخمر ٍ طاهـرة ٍ
فلتزرع ْ في الوحل دواليها ..!
  *  *  *
-  "صبـاح الخير يا عسـل ..!"
ابتسمت ْ ،
كنساء الشعب جميعا ً، ابتسمت ْ
أو قل ضحكت ْ،
أو قل أعـوت ْ، صرخت ْ، غضبـت ْ
أو ذابـت ْ شوقـا ً وحنيـن
فنسـاءُ الشعب جميـعا ً، من قبـل سنيـن ،
لا يلهجن بما يعنيـن ..!
  *  *  *
من قبل سنيـن ،
كانت أحلـى ،
مشرقـة ٌ أزهار ُ الزيتـون
كانت أنـقى ،
من كـل وريـدات الأرض
لا تشـْتـم سـوى الأبيـض
والقـلب ُ زهيـرات بنفسـج
يتلألأ ُ دوما ً يتـوهـَّج
لنظـرة رجـل ٍ عاش سنيـنا ً في القلـب
أغضبـَها كي يرضي الرَّب
والآن شهيـدا ً ، في الجنـة
قـد قـال لها ذاك الشيـخ ُ :
- " لا تنـعيـه ...
لا تسهـري يومـا ً تبكيـه ...
قد بـُدِّل خيـرٌ مـن داره ...
أهـل ٌ خيـر ٌ من أهليـه ...
لا تبـكيـه ... ".
أحسـت ْ لسعـة ثعبا ن ٍ
وهـج ٌ يصهـرها ، تخفيــه
-  "الآن شهيـداً ، في الجنـة ؟!
ومـع أخرى ؟!
أخـرى قـد ملكـت ْ عينيـه
تعابثـه ...
وتـلاعبـه ...
وتشـاكسـه ...
وتطـارده ...
وتنـاغيـه ؟!!"
  *  *  *
-  "واحـد شـاي بالنعنـاع".
وضعت ْ حفنـة شـاي في المصفى
لتـعـد َّ الشـاي لطالبـه ،
قـروي ٌ جـاء إلى المشفـى
قد جـاء لكي يخلـع َ ضُـرسا ً
أو يشهـد َ لأقاربـه عُـرسا ً
أعـراس ُ المـوتى حاضـرة ٌ
ما أقسـى هاتيـك الطـُرفـة ..!
  *  *  *
 يهوى (محمود ُ) النعنـاع
وكان كريما ً مضيـاع
كانت آمـرة ً ومطـاع
ما كانت تعـرف ُ هذا الدرب
أمل ٌ (محمود ٌ) وشـراع ..!
  *  *  *
كنـسـاء الشعب جميـعا ً
تلقـاه - كانـت - في البـاب
والقلـب ُ صبي ٌ وثــَّاب
هـا  وَلـَج َ وفي يـده كتـاب
ما أحلى ذكـر الأحبـاب ..!
وتسيـلُ كعطـر ٍ بيـديـه
تمطـرُ أشـواقـا ً عينيـه
تتملصُ هاربـة ً تعـدو
خجلى من رعشـة شفتيـه ..!
والآن شهيـدا ً في الجنـة
-  "لا تنـعيـه ...
لا تسهـري يومـا ً تبـكيـه
قد بـُدِّل خيـر ٌ مـن داره
أهـل ٌ خيـر ٌ مـن أهليـه
لا تبـكيـه ..! "
  *  *  *
أيقظـها صـوت ُ زبـون ٍ جالـس
منفـوخ الأوداج وعابـس
تحد َّث َ عن زوجتـه الأولى
الأخـرى والطفـل الخـامس ..!
  *  *  *
يا لـ(ضياء) ...
وشتـاء الأحـلام القـارس
عفـريـت ٌ مغـرور ٌ ومشـاكـس
والبيـت ُ به وبوالـده مضمارُ الغبـراء وداحـس ..!
اتخـذ معاكسـة َ الجيـران ِ هوايـة
يجـري يستخبيءُ خلف أبيـه
وتطـارد ُ وجنتـه يـداي
بالكـرةِ كـم ضَـربا شيـئا ً
كسَـرا في صخـَب ٍ "كـُبـَّايـَة"
لعِبـَا في الليـل ِ "استغمـايـة" ..!
  *  *  *
الآن (ضياء) ...
يحتـاج ُ لجـورب وحـذاء
ورسـوم الكتـب الصفـراء
رجعـت ْ للعلبـة ِ تحصيـها
ما أقـدس َ هاتيـكَ حَيـاة ..!
  *  *  *
وجـاء (ضياء) ،
بـل هـل َّ (ضياء) ..!
الشبـح ُ النـَّاحـلُ أهـواء
إسـودَّ قليـلا ً شـاربـُه ُ
تفاحـة ُ (آدم) خضراء 
السـوق ُ يضـج ُّ كعينيـه
المـارة ُ تعـدو أشـلاء ..!
-  "ربـِّي ، أماه ُ ، يبشـِّرُنا ...
الدنيـا ليست ْ مسكننـا ...
وهنـالك ، أمي ، في الجنـة
أنهـارٌ  تجـري كالفضـة
لبـن ٌ أو عسـل ٌ منقضـة ..!"
وصمت َ (ضياء) ..!
تلعثـم أدبـا ً وحيـاء ..!
قـد جـاء الشيخ ُ إلى الـدرس ِ
بشرَّهم أيضا ً بالعـرس ِ..!
-  "أمـاه ، الله ُ ينادينـي
وسأمضي كـي أنصـرَ دينـي ..!"
        الخرطوم - يوليو1996م


  

إني أحلـُم

فلماذا أيتها الوردة ،
تتراكضُ هاربة ً ، غاربة ً
من عينيك ِ ... على عينيك ِ الأنغام ُ البضة ..!
تتهشم في خديك ِ ، على جنبيك ِ الأنداءُ الغضة ..!
وأنا في ذل وجودي ،
ظل جمودي ،
نار سجودي :
أعيد فصولا ً زاهيةً ً
من حفلة ِ عرس ٍ لم تبدأ ..!
والليل ُ يدوس على ثغـر الأفراح المبهم :
إني أحلـُم ..!
والطل ُ يشيخ ُ على خد ِّ الأزهار المعتم :
إني أحلـُم ..!
والثعلبُ يفسد كرمتنا
والفأرة ُ تطرد قطتنا
والقـِرَدة ُ تزحم ساحتنا :
إني أحلـُم ..!
أن أعدو نحوك في يوم ٍ أبيض
 كحليب الأم
أفك قيودي
وأغازل عودي
لأغني معك ... أعتقك
نسري ، نعرجُ نحو سماءٍ لا تهدأ
إني أحلـُم ...
والليلة ُ تصرعني ،
كفي تصفعني ،
وجهي يفزعني ،
إني أحلـُم ..!

                أم جـر / يناير 1997م

شركيات

لـن تكـوني غيـر فصـل ٍ في حيـاتي
غيـر مزمار ٍ سكبـتُ - الليـلَ -
فـي عينيـه أحلى أغنيـاتي
أمنيـاتي فـي إلـه ٍ عـادل ٍ
يسمـو إليَّ - الفجـرَ -
آخـذه ،
ويمـزجُ في حريـر الـروح ذاتـي
أعمـى يمزقنـي ركـودُ الكـون ِ ملعـون ِ السمـات ِ
والوهـمُ يدفعنـي لكي أعـدو إلى صنـم ٍ
وأ ُفـرغ ُ في بلاهتـه صـلاتي
فلتـذهبـي ،
فأنـا كفـرت ُ بصنعتي
وكفـرت ُ بالأصنـام ِ تعبـث ُ في حيـاتي.
                 الخرطوم - إحدى ليالي سطس 1996أغم

لا شـيء


الحـب ُ "قديـمْ" ..!
الفـرح ُ ،
الحـزن ُ ،
الأمـل ُ ،
الألـم ُ،
الوجـع ُ ،
الرقـص ُ ،
الترنيـم ْ..!
قد أضحى إرث ُ الفـارس ِ قـَيءْ
نخـَّاسا ً في سـوق ِ المـوت ِ الحـي
وأنا أحتاجـُك "حادثة ً" من "لاشيء" ..!
     الخرطوم - نوفمبر 1995م

الاثنين، 11 يونيو 2012

عن مدينة الجنـون

وكـُنت ُ - حينذاكَ -
يافعا ً مشاكسا ً حَرون
مسافرا ً في غيمة ٍ هتون
أحكي لصِبـْية ِ حَيـِّنا عن عالـَم ٍ مجنون
سميـِّتـُه ُ مدينة َ الجنون ..!
دائما ً أقصُّ عن مدينة الجنون
وكان أصدقائيَ الصغار يُذهلون
ويحسدونني ،
خياليَ الجريء يحسدون
لأنني مشرَّد ٌ ، لأنهم مشردون
فكيف لي -
وليس في خيالهم - مدينة الجنون ؟!
وكنتُ حين يطبق الظلام -
ودائما ً ما يطبق الظلام ،
أفـرُّ يا مدينتي إليك
مقبـِّلا ً يديك
وأدفن ُ- المبتلَ - وجهي َ النحيل في ثدييك
كنت ُ حينها أعيش في بروجك العظيمة
أقواسُ نصرك الحميمة ،
أحسـُّها كدفء شمسك الرحيمة
ما أجمل التذكار يا مدينتي القديمة
ما أجمل التذكار ..!
فبعد ألف هجرة ٍ وألف غربة ٍ
وألف ألف انتحار
يعود يا حبيبتي القطار
متعب ٌ وجائع ٌ أنا ..!
منهك ٌ وضائع ٌ أنا ..!
عيناك ِ يا حبيبتي وسادتين - كانتا
رغيفتين - كانتا
عيناك نبـع ماء
عيناك صمت ُ عاشقين للمساء
عيناك كوتان في الجدار
وطفلة ٌ تقبـِّل المزار
لو تعلمين كيف يُولد النـَّهار
أو كيف كيف تـُنبت  البـِذار
آهـ ٍ ولا أنا ..!
لكنني في ذات يوم ٍ بارد ٍ مهين -
وكلُّ يوم ٍ بارد ٌ مهين
وجدتـُني - كعادتي - محلقا ً كطائر ٍ حزين
أُبصرُ المدينة التي أضعتـُها سنين
وضِعتُ في سبيلها سنين.
                    الخرطوم أغسطس 1996م

الجمعة، 8 يونيو 2012

مائة من الإبـل

    أكمل كتابة الطلب ومهره بتوقيعه ثم أخذ يعيد قراءته في تؤدة بينما ضجيج الماكينات من حوله يصمَّ الآذان. زملاؤه منهمكون كلٌ في ما بين يديه وهو غارق ٌ بين السطور لا يعقل سواها ، يبتسم تارة ً لعبارة ٍ أسكرتُه أو ينضح وجهه أسى تارة ً أخرى. ويعود يهز رأسه الضخم يمنة ً ويسرة من التأثر. وأدركته حالة ٌ من الطرب الطفولي عند مقطع ٍ معين فعلا صوته وهو ينشد : "ماذا تقولُ لأفراخ ٍ بذي مرخ ٍ ... زغب الحواصل ِ لا ماءٌ ولا شجرُ". إنها (فتحية) وأطفالها ما في ذلك شك ، كأن (الحطيئة) رآى حالهم رأي العين فرَّق لها ووصفها مخاطبا ً السيد مدير عام الشركة للتصديق بـ"السلفية". إن هذا الشعر أبكى (الفاروق). (الفاروق عمر) بكل رجولته وبأسه وشجاعته وسيفه الطويل وعضلاته المفتولة ، بكى عند سماعه هذا البيت من الشعر ، أفلا يبكي المدير العام ذو الوجه الطفولي والصوت الناعم والأنامل الرقيقة ؟! ألا يرقُّ قلبه فيستجيب للطلب ؟! بلى ما في ذلك شك. فالشركة مسلمة بل الدولة نفسها مسلمة تتبع خطا أولئك الأخيار..! هكذا حدثته نفسه فبدت له "السلفية" حينها قريبة ً وكأنه يتحسس بيديه ملمس الأوراق النقدية الخشن ويتنسم عطرها الفوَّاح. وتاه الرجل وراء حلمه العذب ، إن هذه "السلفية" ستفعل بحياته الكثير ، هنالك متأخرات إيجار المنزل لثلاثة أشهر والعام الدراسي على الأبواب كما أن (فتحية) مريضة وبطنها في شهره الثامن وموظفي الحكومة يطرقون الباب يوميا ً يقلقون راحتها مطالبين برسوم تجميل المدينة ، وقد أتوا في الزيارة الأخيرة وفي معيتهم شرطي مسلـَّح ، هكذا أخبرته (فتحية). أهمه الأمر حينها كثيراً وأُسقط في يده إلى أن اهتدى إلى (الحطيئة) ، حيا الله (الحطيئة) ، ذلك الشاعر النحرير. بعد اليوم لن يعود الشرطي يقلق راحة (فتحية) ووليدها المنتظر.
    "ماذا تقول لأفراخ ٍ بذي مرخ ٍ ....!" ، أخذ يرددها وهو ممتلئٌ بها تعويذة ً ضد عناد السيد المدير وبخله وشُحـِّه. وبخطوات ٍ واثقة ولج الرجل داخل المكتب الفخم منفوخ الصدر لا يدانيه شك في قبول طلبه والتصديق له بـ"السلفية".
-  يُرفضُ الطلب.
خطتها الأنامل الرقيقة بنعومة ثم أجرى المدير يده بالتوقيع أسفل الورقة لتغيم المرئيات أمام عيني الرجل ويبدو الوجود لناظريه ألوانا ً شتى.
-  هل قرأت َ (الحطيئة) يا سيدي ؟
ألقى عليه المدير العام نظرة ً مستنكرة ً وكأنه يتهمه بشيءٍ ما فعاد موضحا ً بقوله :
-  لقد أبكى (عمر بن الخطاب) حتى ابتلتْ لحيته ..!
قالها الرجل وهو يلقي نظرة ً على وجه الشاب الناعم ، لأول مرة ٍ يلاحظ أن السيد المدير العام أمرد ٌ.
-  خلـِّي الكلام الفارغ واتفضل شوف شغلك.
ولم يستطع أن يتمالك نفسه فانقضَّ على محدثه يوسعه لكما ً وصفعا ً وأسرع بقية العمال يحولون بينه وبين المدير العام الذي أخذ يمسح الدم عن وجهه وهو يصرخ في هستيريا:
-  قولوا لي الحيوان ده ديته كم ؟
خرج إلى الشارع والعبارة تؤز في أذنيه : "قولوا لي الحيوان ده ديته كم" بينما الشرطي المسلح يطالب (فتحية) برسوم تجميل المدينة والأطفال ينتظرون الرسوم الدراسية. فكـَّر الرجل ، لقد بدا المدير العام في منتهى الجديِّة ، مستعداً للدفع ، أفلا يغتنم هذه السانحة ؟ إنه مسلمٌ ، ذكر ٌ، حر ٌ، بالغ ٌ، عاقلٌ ، فدِّيتـُه إذاً مائة ٌ من الإبل. إن "السلفية" التي بنى عليها آمالا ً وأدمى بسببها وجه المدير العام لا تساوي ثمن عنزة ٍ صغيرة ، فما بالك بمائة من الإبل ؟!. لقد سحب السيد المدير درج مكتبه الذي يحتفظ فيه بدفتر الشيكات والمسدس في تصميم ، فلمَ لا يدفعه لفعلها ؟ مائة ٌ من الإبل ..!
واستعذب الرجل الحلم حتى أحس َّ بالرصاصة تثقب رأسه وترديه قتيلا ً في الحال ، وتنشق ُّ الأرضُ على إثر ذلك عن مائة من النوق العصافير تتهادى صوب بيته وفي استقبالها (فتحية) وأطفالها الرائعون. رأى الرجل بعيني خياله براميل اللبن الضخمة تتوسط فناء منزله و(فتحية) وأطفالها منهمكين في بيع اللبن للجيران الذين تراصوا صفوفا ً طويلة والأوراق النقدية بيمناهم حيث تختفي في جوال ٍ كبير ٍ أعدته (فتحية) لهذا الغرض.
وعندما زار الرجل أحد المحامين أخبره الأخير أن المحكمة لن تدفع لـ(فتحية) مائة من الإبل عينا ً وإنما ستنقدها ثمن مائة من الإبل وهو ثلاثين ألف جنيه. بان الاحباط على وجهه وهو يعلـِّق مستنكرا ً :
-  ثلاثون ألف جنيه ؟! إنها لا تساوي ثمن قطعة أرض في حارة ٍ شعبية ..!
-  ولكنها ثمن مائة من الإبل.
وخرج الرجل من مكتب المحامي والإنقباض يثقل صدره ، ليس أمامه خيار ٌ آخر ولكن ليعدل في خطته قليلا ً، لن يدفع المدير العام لاستعمال مسدسه ، إن هذا سيعقد الاجراءات ويطول أمد المحاكمة وتتأخر الإبل و(فتحية) في شهرها الثامن ولن يرضى الشرطي المسلح أن ينتظر كل ذاك الوقت ، ومن يدري ربما حكم القاضي على المدير العام بالإعدام فتضيع الديـِّة. إذا ً فليقي بنفسه تحت عجلات سيارة المدير العام فيدفع السيد المدير أو شركة التأمين في وقت ٍ وجيز. وفجأة ً أبصر عقله تلك المفارقة الغريبة ، إن سيارة المدير العام تساوي وحدها خمسمائة من الإبل. وانفجر الرجل يضحك ويضحك حتى دمعت عيناه. صرخ فجأة ً والإلهام يهبط عليه ويشوي دماغه :
-  ليس المقصود مائة من الإبل وإنما مائة سيارة ..! 
نعم ، إن السيارة هي دابة هذا الزمان ومن العدالة أن يقيـَّم الإنسان بالنظر إلى دابته. لقد قال المحامي أن المائة من الإبل تكون من أعمار ٍ مختلفة ففيها بنات لبون وبنات مخاض وحقتان وجذعة ، إذاً تكون الديـِّة مائة سيارة تـُشكـَّل من ماركات وموديلات مختلفة
كاديلاك ، مرسيدس ، بورش ، فورد ، كايا ، متسوبيشي ، فولفو ، سكودا ، سوزوكي ...  ولا بأس ببعض الركشات والموتوسيكلات. ولمعت عينا الرجل جزلا ً، بدا له في تلك اللحظة قوة منطقه ورجحانه فهتف ملء فمه :
-  هذه هي العدالة ، وهكذا أراد الله ..!
عاد يرددها في وسط الشارع وهو يلكم الهواء وفي خياله صف ٌ طويل ٌ من السيارات المتنوعة مختلفة الأشكال والأحجام ، لا يعرف لمعظمها اسما ً وأطفاله يتقافزون حولها منشرحين ، وقضى تلك الليلة والحلم العذب يقلق مضجعه.
وعندما زار المحامي صباح اليوم التالي وأفضى له بوجهة نظره العادلة عنـَّفه الأخير وهو يطلب منه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. همس الرجل يراجعه في مسكنة :
-  ألا يمكن أن تطرح اجتهادي هذا على المحكمة ؟
-  أبدا ً. مستحيل. سأ ُتهم في ديني وعقلي ..!
-  إنه اجتهاد ولكل مجتهد ٍ نصيب ..!
-  إلا هذا ..!
رد المحامي في حسم. ورجع الرجل إلى بيته والخيالات الغريبة تطارده. وبعد يومين خرج إلى الشارع ، عاري الصدر ، منكوش الشعر وهو يحمل جرساً صغيرا ً يهزَّه وينادي :
-  مائة من الإبل ، من يزيد ، من يدفع أكثر ؟!!
                                الخرطوم في أحد نهارات 2007م.
                  نـُشرتْ في صحيفة صوت الأمة - السودانية - بتاريخ 9 يناير 2008م.