التسميات

الأربعاء، 22 يناير 2014

لقد برأت َ قاتلا ً يا أستاذ ..!

ويفرِّقون بين المرء وزوجه :  

   قطاع ٌ واسع ٌ من المجتمع يتحصن برأي ٍ سالب ٍ حول مهنة المحاماة وطريقة عمل المحامين، ولا يختلف في ذلك الفهم الظالم حاملو أرفع الدرجات العلمية عن عامة الناس ممن لم يحظ َ بتعليم أكاديمي منتظم. والكثير من النكات والطرف والملح الغامزة الهامزة تروى عن المحامين ومهنة المحاماة في شتى بقاع الأرض وبكافة اللغات الحية، يتداولها الصغير والكبير مسرحها وسائل الإعلام وفي جلسات الأنس بين الأصدقاء وفي الأسواق وفي قعدات ربات البيوت منتصف النهار، وليس هذا بغريب، إذ أن كل هؤلاء رغم تباينهم يستوون في الجهل بالقانون وقواعده وفلسفته العقابية والخيط الرفيع الذي يفصل بينه وبين العدالة. 
   وكلمة العدالة نفسها مفهوم ملتبس ومراوغ لا يبين له حال وغالبا ً ما تتماهى في ذهن غير أهل المهنة بالمطلق، ذلك المطلق الذي لا سبيل لنا لبلوغه في هذه الحياة الدنيا وليس لنا من الوسائل والقدرات ما يجعلنا نصل إليه وإن كنا نتلمس الطريق للاقتراب منه مستخدمين ما نملك من وسائل أرضية قاصرة نحاول تنشيطها وتجويدها والاستفادة منها كأقصى ما يكون. إنها ليست خطيئة أهل القانون، فمحدودية الإنسان زمانا ً ومكانا ً ومعرفة ً هي سبب مأساته ولها انعكاساتها السالبة على رحلة الحياة برمتها. ولكن يغفل الجميع عن هذه الحقيقة البينة التي تؤثر على شتى نشاطات الإنسان في الأرض ولا تبين لهم إلا حين نظر القضايا بواسطة المحاكم فيطالبوننا ببلوغ المطلق متناسين أس المشكلة الوجودية لينعوا غياب العدالة في هذا الجانب وهذا الجانب فقط، وأعني عمل المحاكم. 
  ورغم ذلك أقول أن العدالة بخير وأن القانون بخير فلقد استطاع هذا الكائن العظيم المسمى بالإنسان وعبر تاريخه الطويل وتراكم تجاربه ومعارفه أن يطور الكثير من القواعد والنظريات إجرائيا ً وموضوعيا ً في المجال العدلي متجها ً صوب المطلق، ولا زال البحث جار ٍ ولا زالت المعارف تترى. ولكن غير أهل المهنة لا يرون ذلك ويختذلون معضلة العدالة ومأساة الإنسان الوجودية في عبارة محفوظة تنعى غياب العدالة وكأنما العدالة هذه جسم ٌ مادي ثابت ٌ وعلى أهل القانون حمله وعرضه على جمهور النظارة ليتبركوا به وهذا هو التبسيط الساذج المخل.
 

فويل ٌ ثم ويل ٌ ثم ويل ٌ لقاضي الأرض من قاضي السماء :

   الكثيرون يروون هذا البيت ويستشهدون به حين يخسرون قضاياهم في المحاكم، وولع الناس بهذا البيت الشعري نابع ٌ مما يخلفه في أنفسهم من أثر ٍ نفسي إيجابي وراحة تجعلهم يتقبلون الحكم ضدهم دون أن يحدثوا أمرا ً منكرا، كل ذلك نابع في تقديري من تكرار كلمة ويل ٌ ثلاث مرات، وهو العذاب الشديد وقيل أنه واد ٍ في جهنم يمتليء بالنيران والثعابين العظيمة وهذا يثبت ما سبق أن بينا من توق الإنسان لبلوغ المطلق. 
  ورغم أن بيت الشعر أعلاه موجه للسادة القضاة، إذ ذكر الشاعر المظلوم صفتهم بوضوح ٍ لا كناية فيه ولا توريه لكن لا نرى أحدا ً ينشده أمامهم  بل تحال دلالته إلى المحامين قياسا ً مع أنه لا توجد ضرورة فقهية تبيح القياس في هذا الموضع إذ أن ذاك الويل يخص السادة القضاة حصريا ً كما وضـَّح الشاعر في بيته الشعري المحكم. أما العبارة التي عنونا بها هذا المقال فغالبا ً ما يلقيها أحد ذوي المقتول عند تبرئة القاتل، إنه يقذف بها في وجه محامي الدفاع وقد شمر عن ساعده استعدادا ً للعراك مع هياج ٍ شديد يخالطه الوعيد بعذاب من الله يوم القيامة لا يشك الرجل بأنه سيطال هذا المحامي بل يمتد ليشمل كل زملائه في المهنة. وكل هذا نابع كما أوضحنا من الجهل بالقانون وقواعده واختزال الدعوى كلها في فعل القتل دون النظر إلى حيثياته إضافة إلى الناحية النفسية لذوي المرحوم ومرارت الفقد والإحساس الطاغي بالغبن في مجتمع ٍ كان يأخذ حقه بيده حتى وقت ٍ ليس ببعيد.

واحد، ثلاثة، ثلاثة، خمسة - إنها تشكيلة ٌ لا تـقهـر :

  اطمئن الجميع بأن لا أحد من المحامين يستطيع أن يبريء قاتلا ً مهما بلغ ذاك المحامي من الدهاء والذكاء وسرعة البديهة. ومن يقولون بقدرة المحامين على تبرئة القاتل خداعا ً ينسبون للمحاميين قدرات ٍ لا يملكونها وفي ذات الوقت يسيئون لمكتب السيد المدعي العام الذي يمثل الاتهام إنابة ًعن الدولة كما يسيئون لمهنة القضاء فكيف يستطيع محامي واحد مهما بلغ من الذكاء (الشيطاني) أن يخدع إثني عشر قاض ٍ لا يصبح الحكم نهائيا ً إلا بعد مروره عليهم جميعا ً وفحصه والتدقيق في كل شاردة ٍ وواردة ٍ فيه ابتدأ ً من محكمة الموضوع ثم الإستئناف ثم النقض ثم المراجعة؟! هؤلاء الأماجد يلعبون بتشكيلة (1 - 3 -3 -5) على الترتيب، وحين يجمع إثنا عشر قاض ٍ على تبرئة متهم ما، فلتعلم علم اليقين أنه ليس بقاتل ٍ حتى وإن رأيته بأم عينيك يضرب المرحوم ويرديه قتيلا ً.

لكن من هو القاتل ؟!  :

  ونعني القاتل في نظر القانون الذي يستحق الشنق، تلك العقوبة التي يسعى الجميع لتطبيقها على المتهم، ولا تطالهم الراحة والسرور إلا حين يشنف القاضي آذانهم بالعبارة الأثيرة: (حكمت المحكمة على المتهم بالإعدام شنقا ً حتى الموت). وأي حكم في قضية قتل لا يقضي بإعدام المتهم يعني في نظر الرأي العام أن العدالة لم تأخذ مجراها وكأن التشفي مما يفخر المرء به وهو تناقض مريع فمحاكمة القاتل هي رفض وتجريم لفعل القتل، فكيف ينتج عنها ذات الفعل المرفوض والمجرَّم؟! فالقتل يظل قتلا ً سواء ً أن نفذه المتهم على المرحوم أو نفذته الدولة على المتهم كعقوبة. وحين يعتمد نظام قانوني ما الإعدام كإحدى العقوبات التي يجوز توقيعها على المتهم فهو يعترف ضمنيا ً أن القتل مباح في بعض الأحوال وإلا كان الإعدام الذي يطبقه كعقوبة، فعلا ً غير مبرر، وبالتالي فإن هذه الإعدام ليس علته السلطة، فليس من حق الدولة أن تطبق عقوبة الإعدام لأنها سلطة فقط وإنما الضرورة، وبذا تصبح الضرورة قاعدة عامة تمتد لتشمل بمظلتها الجمهور لينتج عن ذلك إباحة فعل القتل للجمهور في ما بينه عند الضرورة وهذا يفسر تبرئة المحاكم لبعض من ارتكب فعل القتل.
  وكي نصل إلى إجابة ٍعن السؤال المطروح حول من هو القاتل دون الخوض في تعقيدات قانونية ونظريات ومصطلحات أكاديمية وغيرها مما لا يستسيغه غير القانونيين نورد الأمثلة الآتية: (شخص قتل الرجل الذي يسعى لسلبه ماله عنوة ً واقتدار - شخص قتل المرحوم بعد أن وجده يمارس الجنس مع زوجته -  شخص قتل المرحوم الذي تهجم عليه بسلاح مميت فهرب منه ولكن المرحوم أصر على مطاردته وقتاله - شخص قتل آخر يسعى لإجباره على ممارسات منافية للطبيعة). وعلى الرغم من أن جميع من في الأمثلة السابقة قد ارتكبوا القتل كفعل مادي وحرموا المرحوم من حياته لكن هل تراهم يستوون حتى يحكم عليهم جميعا ًبالشنق؟ بل ما رأيك إن تغلـَّـب المقتول على القاتل في جميع الأمثلة السابقة وقتله ليصبح القاتل مقتولا  ً والمقتول قاتلا ً، هل يستوون؟ ومثال ٌ آخر، كيف يستوي من يوجه مسدسه لرأس المرحوم ويطلق عليه الرصاص بمن يضرب مرحوم آخر بعصاة ضربة واحدة فتسبب موته؟ كيف يستوي من يترصد لشخص ويتتبعه لعدة أيام متحينا ً فرصة الانفراد به ليقتله، مع آخر قتل شخص إثر مشاجرة في محطة المواصلات دون سابق معرفة بينهما؟! 
من الأمثلة السابقة أعلاه نتبين سوء الفهم الذي يقع فيه العامة حين يختذلون القضية كلها في فعل القتل دون النظر إلى الظروف المصاحبة والتي قد تؤدي إلى تبرئة المتهم تماما ًوإطلاق سراحه وفي بعض الأحوال تؤدي إلى سجنه لبضع سنوات بدل شنقه. فيقذفون العبارة المؤذية في وجه المحامي بكل ثقة ويقين. لقد برأت قاتلا ً يا أستاذ وسنخاصمك يوم القيامة ..! 
ياله من إتهام ٍ جارح ٍ ووعيد ٍ عظيم ٍ لا طاقة لأحد ٍ باحتماله خاصة حين يسمعه المرء لأول مرة. 

إنهم يستغلون الثغرات :

  لا شك إن إزهاق روح إنسان وحرمانه من حياته وما يتبع ذلك من آثار سالبة تمتد حتى عائلته شيء بشع، مؤسف ومرفوض إبتداء ً ويجعل الجميع بما فيهم محامي الدفاع نفسه يحسون بغير قليل من الذنب ولكننا نسعى نحو العدالة بما هو متاح لنا من وسائل والتي لا تغفل جانب المتهم فمن حقه أن يحظى بمحاكمة ٍ عادلة ٍ ويستفيد مما أباحه له القانون من دفوع وأضيف على سبيل الاستطراد أن غالبية الذين يقعون في قبضة الشرطة هم قتلة بالصدفة أو حتى مجبرين وفقا ً للموقف الذي وجدوا أنفسهم فيه دون ترتيب أو تدبير، ولو عادت بهم الأيام لتجنبوا الموقف ذاك بكل ما يقدرون عليه من جهد. وبالتالي فإن الظروف التي وضعتهم في هذا الموقف يجب أن تبحث وينظر إليها بعين ٍ منصفة. وهذا الواجب يقع على عاتق محامي الدفاع والذي يجب أن لا يجعل لعاطفته سبيلا ً تحول بينه وبين أداء واجبه بنزاهة ٍ واقتدار وهذا ما يتباين فيه المحامون وتظهر فيه تفاوت القدرات وطريقة استجواب الشهود وحضور البديهة داخل قاعة المحكمة للإستفادة من الدفوع القانونية المتاحة لتدعيم قضية الدفاع. 
   والدفوع القانونية هي ما يسميه العامة بـ(الثغرات) ويقولون على سبيل الذم والتجريم (القانون ثغرات والمحامون يستغلون الثغرات). وهذا ليس صحيحا ً فهي ليست ثغرات وإنما قواعد قانونية تنحى نحو العدالة استغرق الوصول إليها وتقنينها وإفراغها في القالب القانوني المنضبط مئات الأعوام من التجارب والكثير من التخبط والحيف. وتنقسم الدفوع في جريمة القتل إلى قسمين، الأول تكون نتيجته البراءة التامة للمتهم وإطلاق سراحه مثل حق الدفاع الشرعي والقسم الثاني من الدفوع يحيل الجريمة إلى قتل شبه عمد فتكون العقوبة السجن بضعة أعوام ٍ بدلا ً عن الإعدام، ومثاله القتل تحت تأثير الاستفزاز الشديد المفاجئ. فحين يثبت محامي الدفاع أن المتهم قد قتل المرحوم دفاعا ً عن نفسه أو ماله فإنه لا يستغل ثغرة ً بل يسد ثغرة كان من الممكن أن تتسرب منها العدالة بإعدام بريء وحين يثبت أمام المحكمة أن المرحوم كان يمارس الجنس مع زوجة المتهم في مجتمع محافظ وأن المتهم فقد السيطرة على أعصابه عند رؤية هذا المنظر وهجم على المرحوم وخنقه حتى الموت في مشهد ٍ أقرب إلى فقدان العقل فإن المحامي أيضا ً لا يستغل ثغرة بل يسد ثغرة كان من الممكن عند تجاهلها أن يستوي الحكم على هذا الرجل المعتدَى على عرضه بقطـَّاع الطرق. وكذلك حين يثبت محامي الدفاع أن المعركة بين المتهم والمرحوم امتدت لعدة كيلومترات تخللتها سبعة اشتباكات كان المتهم يتملص ويهرب والمرحوم يطارده فإنه يسد تلك الثغرة التي كان من الممكن أن تتسرب منها العدالة. 

ولكننا قد نقتل بريئا ً:

  قلنا ليس بوسع أي محام ٍ أن يبريء قاتلا ً وفقا ً لمعنى القتل أعلاه ولكن بذات الفهم قد يتسبب محامي الدفاع في إعدام موكله البريء إذا فكر بطريقة العامة وترك ممثل المدعي العام يختزل القضية في فعل القتل فقط والذي غالبا ً ما يكون ثابتا ً على موكله ففي هذه الحال يا روح عليك السلام. 
 إن عدم الاستفادة من تلك الدفوع أو هذه الثغرات كما يسميها العامة التي أفرزها واقع التطبيق وتجارب القانونيين الثرة في طريقهم نحو بلوغ العدالة هي الظلم والذي قد يؤدي إلى إعدام المتهم الذي كان سيبرأ إذا ما استطاع محاميه الاستفادة من تلك الدفوع واستجواب الشهود ومناقشة البينات ببديهة ٍ حاضرة وعقلية قانونية تربط بين وقائع وبينات وقواعد قانونية وأسباب إباحة يراها الآخرون بعيدة عن بعضها بعد الأرض عن السماء، عقلية قانونية تفرق بين القتل كفعل ٍ مادي والقتل الذي يستحق التجريم كما يراه القانون. وبالتالي فإن المحامي الذي يستطيع تكييف الأفعال والأقوال تكييفا ً قانونيا ً سليما ً ويقود المحاكمة من مراحلها الأولى نحو ذاك التكييف هو القادر على إنقاذ موكله من حبل المشنقة محققا في ذات الوقت العدالة وبالتالي يستحق هذا الماجد التكريم والتبجيل والثناء فلقد أنقذ بريئا ً من الإعدام حتى وإن بدت الصورة للآخرين غير ذلك. أما حين التقصير في هذا الواجب فإنه يتسبب في إعدام رجل ٍ برئ ٍ وفقا ً لقواعد العدالة، حتى وإن ارتكب ذلك الرجل القتل كفعل، وفي هذه الحالة فقط يستحق هذا المحامي أن يدعى عليه بالعذاب والويل والثبور فهو ليس سوى قاتل حتى ولو لم ينفذ فعل القتل بيديه بل نفذته السلطة على رجل ٍ كان يمكن بقليل من الجهد واليقظة والتحلي بالمسئولية من جانب محاميه أن ينعم بحياته.

وأين الإثنا عشر ؟! :

   قد يتساءل البعض أين أولئك القضاة الإثنا عشر الذين قلنا أنهم يحيلون دون تبرئة القاتل؟ أين هم من إعدام هذا البريء الذي خذله محاميه؟! فأقول إنهم حاضرون ولكن ليس بذات التأثير السابق إذ أن السادة القضاة يقضون بما هو ثابت في محضر المحاكمة المقامة أمامهم وبإشرافهم ملتزمين الحياد قدر استطاعتهم وليس لهم من الوقت بل ليس من اختصاصهم دراسة حالة كل متهم على حدا واعداد خطة دفاع لصالحه فهم ينظرون عشرات القضايا في اليوم الواحد وقد لا يرون محضر المحاكمة إلا عند حجز المحضر لإصدار الحكم أما ماذا يوجد في ذاك المحضر من بينات وأقوال ودفوع فهذه مهمة محامي الدفاع من جانب وممثل المدعي العام من الجانب الآخر والذي يسعى جاهدا ً لإعدام المتهم. وبالتالي ففي الحالة الأولى تتعرض تلك الدفوع المقدمة من محامي الدفاع وبيناتها والتي تؤدي للبراءة للفحص والتدقيق والنقد بواسطة السادة القضاة بينما في الحالة الثانية (عند تقصير المحامي وعدم إثارة تلك الدفوع وحشد البينات التي تدعمها) فإنه لا توجد في محضر المحاكمة دفوع أساسا ً حتى يتم فحصها أو تقييمها بواسطة السادة القضاة إنما توجد قضية إتهام تبدو محكمة أعدتها النيابة العامة والشرطة كأبدع ما يكون الإعداد لتقود إلى تجريم المتهم وإعدامه. وحتى حين يتم إثارة تلك الدفوع أو الثغرات كما يسميها العامة بواسطة السيد قاضي محكمة الموضوع كما هو معمول به في المحاكم السودانية عند تسبيب الحكم فغالبا ً ما يكون الغرض هو مناقشتها بغرض استبعادها إذ لا توجد في محضر الدعوى بينات ٌ تؤدي إلى استفادة المتهم من أحد تلك الدفوع.
الخرطوم – يناير 2014م        

الأحد، 19 يناير 2014

الزندقة في القانون الإنجليزي

 مقدمة :

  هذا المقال هو استعراض لتطور التكييف القانوني لفعل الزندقة في القانون الإنجليزي من القرن السابع عشر وحتى القرن العشرين ويعتمد على سعادة اللورد (ديننج) في (معالم في تاريخ القانون) كمرجع ٍ وحيد. وتأتي أهمية الحديث عن تجريم الزندقة بصفة عامة، أنها من الأفعال التي لها علاقة مباشرة بالرأي والحرية الشخصية للأفراد إذ هي تعبير عن قناعة أو عدم قناعة بوقائع أو آراء معينة قد يؤثر التزام الفرد أو عدم إلتزامه بها على علاقته بمن حوله سلبا ً أو إيجابا ً وبالتالي فإن تجريم هذا النوع من الأفعال بواسطة القانون يعتبر أقصى درجات الرفض للفعل والذي هو نابع بالضرورة من نظرة المجتمع المعين لمرتكبي هذه الأفعال ومدى ملاءمة ما أتوه بما هو سائد من قيم في الزمان والمكان المحددين، تلك القيم التي تختلف باختلاف المجتمعات وثقافتها وعاداتها وتقاليدها، فبعض المجتمعات تجرم أفعالا ً معينة تبيحها مجتمعات أخرى، بل قد تتغير النظرة للفعل نفسه داخل مجتمع معين بمرور الزمان وفعل قوانين التطور فيغدو ما كان مجرما ً في الماضي من المباحات التي لا تشكل جريمة في الوقت الحاضر، على عكس بعض الجرائم الأخرى التي تتميز بالثبات مثل السرقة والقتل والاغتصاب فهي جرائم منكرة في كل المجتمعات وستظل كذلك مهما تغير الزمان والمكان. بينما نلاحظ أن بعض الأفعل كالزندقة وممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج وتناول الكحول وغيرها من الأفعال التي لها علاقة أو شبه علاقة بالحرية الشخصية تتغير النظرة لها بتغيير المجتمعات ومرور الزمان.
  وفي كتابه الشيق (معـالـم فـي تـاريـخ القـانـون) والذي ترجمه إلى العربية صاحبا السعادة : (هنري رياض سكلا) و الدكتور: (محمد محمود أبو قصيصة) القاضيان بالمحكمة العليا السودانية يفرد سعادة اللورد (ديننج) بعض القضايا التي نظرتها المحاكم الإنجليزية تحت تهمة الزندقة. أولها قضية تايلور 1687م وآخرها عام 1976 وهي قضية صحيفة (أخبار المرح).
 
ودراسة ما قضت به المحاكم الإنجليزية من أحكام في هذه القضايا مجتمعة وكيفية تسبيبها لهذه الأحكام لهو مرآة عاكسة لتطور القانون الإنجليزي في هذا المنحى ورؤيته لحدود الحرية الشخصية وحرية التعبير عن الرأي والذي هو خاضع بالضرورة لتطور ذاك المجتمع خلال حركته الدائبة بين هذين التاريخين وتغير المفاهيم وصعودها وهبوطها نحو تجريم أو عدم تجريم فعل ما ، أو مقياسها لما هو مقدس أو غير مقدس أو مفهوم التقديس في حد ذاته وحدوده. ورغم أن المقياس الأخير حول القداسة قد لا يكون مما يعول عليه الحقوقيون كثيرا ً إلا أن التهمة محل البحث وهي الزندقة شئنا أم أبينا مرتبطة في الضمير الجمعي بمفهوم القداسة. وحيث أن السادة القضاة واللوردات هم جزء من ذاك المجتمع الدائب الحركة فهم يعبرون بطريقة ما عن رؤية ذاك المجتمع في ذلك التاريخ. وهذا الافتراض بالطبع قابل لإثبات العكس عند مناقشة كل قضية على حدا.

عبارات زندقة روَّعت الآذان :

  يترجم صاحبا السعادة: (هنري رياض) و(أبوقصيصة) عن اللورد (ديننج) قائلين: تعريف الزندقة كما ورد في قاموس أكسفورد الصغير هي: (ذكر الذات العلية أو المقدسات بسوء).
  والقضية الأولى التي يتعرض لها اللورد (ديننج) كما أسلفنا هي قضية (تايلور) في العام 1687 حيث تفوه الرجل بعبارات زندقة روَّعت الآذان - على حد تعبير اللورد (ديننج) - وهي أن المسيح ابن سفاح وأن الدين خداع وأنه (تايلور) لا يخشى الله ولا الشيطان ولا البشر.
فجاء قرار رئيس القضاء (هيل) قائلا ً: (ليست هذه الكلمات المنطوية على الزندقة والفسق خروجا ً على حكم الله والدين فحسب، بل تعتبر جريمة أيضا ً في مواجهة القانون والدولة والحكومة، وتعاقب عليها هذه المحكمة. ذلك أن وصف الدين بالخداع إنما هو إهدار لكل المثل التي تعلقت بها الجماعات المتحضرة، ومن بينها أن المسيحية مصدر من مصادر القانون الإنجليزي. ومن ثم فإن التعرض للمسيحية على هذا الوجه هو بمثابة تقويض للقانون). أ.هـ.
وعلى ذلك صدر الحكم ضد (تايلور) بأن ينصب على شعبة في ثلاثة أماكن عامة وأن يغرَّم ألف مارك وأن يقدم ضمانا ً بحسن السيرة والسلوك مدى الحياة.
 

إنه إجتهاد ٌ يا سعادة اللورد

  ومن أشهر قضايا الزندقة التي وردت في كتاب اللورد (ديننج) أعلاه و التي تستحق البحث - في تقديري - قضية  (وولستون) حيث لم يشتم هذا الرجل أو يسب أو يتحدى أو يهين المسيحية أو السيد المسيح ولم يذكره بسوء وما ذكر الذات العلية أيضا ً بأي سوء. إذ لم يكن هذا الرجل بذات تحدي  (تايلور) السافر الذي وصفه رئيس القضاء (هيل)  بالفسق. وما كان هازئا ً جارحا ً في سخريته بالمقدسات كما فعل المدعو (قوت) في العام 1921م والذي شبه السيد المسيح لدى دخوله بيت المقدس بمهرج السيرك الذي يركب حمارين وإنما كان ما قاله (وولستون) مجرد إجتهاد فقهي - حسب تقديري يشابه من وجه ما تساؤل بعض المسلمين هل الاسراء والمعراج حدث بالروح أم بالروح والجسد؟. وحيث أن الغرض من هذه الورقة ليس نقد المفاهيم التي أدين بموجبها المدانون وإنما بيان تطور نظر القانون الإنجليزي لفعل الزندقة فإنني أمسك عن مناقشة هذه النقطة وأحيلكم إلى وقائع القضية. 
 أنه في ذاك العام 1742م نشر (وولستون) عدة أحاديث قال فيها: (أنه لا يلزم أن تؤخذ معجزات المسيح مأخذ الحقيقة إذ أن كل ما نسب إلى حياة المسيح ومعجزاته في الكتاب المقدس لا يعدو أن يكون مجازا ً). أ.هـ.
وحينما اتعقدت المحاكمة كان دفاع (وولستون) يقوم على أنه حتى ولو كانت هذه الكلمات تشكـِّل قذفا ً في حق المسيحية كدين، فإن القانون الإنجليزي لا يعرف جريمة بهذا الاسم. أي أن الرجل يعتمد في دفاعه على مبدأ : (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص). وهو من المبادئ الفقهية الراسخة إذ أن أي فعل لم يرد نص بتجريمه قبل ارتكابه يعتبر مباحا ً ولا عقوبة على مرتكبه بل يجب شطب الدعوى وإطلاق سراح المتهم.
ولم يقبل منه ذلك وقال رئيس القضاء (ريموند) :( إن المسيحية تعتبر بصفة عامة منبع القانون الإنجليزي وعليه حمايتها. وعلى ذلك فإن من يتعرض للمسيحية بسوء إنما يوجه ضربة قاصمة للحكم المدني). أ.هـ.
ونلاحظ أن اللورد (هيل) قال مثل هذا القول في قضية (تايلور). ومن ثم أدانت المحكمة (وولستون) وعاقبته على ما صدر منه.

قضية الجمعية العلمانية 1917م :

  وتعتبر هذه القضية نقلة هائلة عما سار عليه عمل المحاكم الإنجليزية ونظرة قضاتها للزنادقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين فلقد رأينا كيف أن القضاء الإنجليزي كان متشددا ً في هذه التهمة يستوي عنده من تميز بالوقاحة وسلاطة اللسان في التعرض للدين مثل  (تايلور) ومن حاول الاجتهاد في الدين (إن صح هذا التعبير المأخوذ من الفقه الاسلامي) مثل (وولستون) ووصل هذا التشدد إلى أن يحاكم المتهمون تحت مفاهيم عامة مثل حماية المسيحية والمحافظة على المجتمع المدني المؤمن من الانهيار. وبلغ الخوف من إنهيار المجتمع والاشفاق على القيم المسيحية إلى الحد الذي عطلت فيه المحاكم قواعد قانونية راسخة كما جاء في قضية (وولستون) والذي اعتمد دفاعه كما أسلفنا على أن الفعل لم يكن مجرما ً وقت ارتكابه.
ولا يحدثنا اللورد (ديننج) عما كان الوضع عليه في القرن التاسع عشر بل يتخطاه في قفزة شاسعة نحو القرن العشرين متجاوزا ً مائة عام لينقل لنا وقائع قضيتين تمثلان تحولا ً جزريا ً وخروجا ً على المفاهيم التي سادت في القرنين السابع عشر والثامن عشر هما قضيتي (الجمعية العلمانية) و (صحيفة أخبار المرح). ولا أدري سبب هذه القفزة الزمنية الهائلة وأرى أنه لا يجب أن تفسر على أساس أن القرن التاسع عشر قد خلا من الزنادقة ولكن قد يكون الاستنتاج السائغ لمثل هذه القفزة أن الوضع القانوني للزنادقة قد ظل كما كان عليه في القرنين السابع عشر والثامن عشر ولكن هذه الاستنتاج في تقديري يصطدم بعقبة كبيرة مستنتجة من القضية محل البحث  (قضية الجمعية العلمانية ) فطالما أن هنالك جميعة تحمل هذا الاسم في هذا التاريخ فإن هذا يعد مؤشرا ً نحو تحول القيم والمفاهيم نحو منحى ً آخر يبتعد عن التدين الرفيع الذي كان سائدا ً في القرنين السابقين وهذا التحول بالتأكيد نتاج لتراكم كمي ، فأين هذا التراكم الكمي ولماذا لم ينعكس في أحكام القضاء ؟ وبالتأكيد إذا حدث هذا الانعكاس لأورده اللورد  (ديننج).
ولكن حين نتذكر قضية  (قوت) 1921م وهي قضية لاحقة لهذه القضية محل البحث والتي أدانته فيها المحكمة على أنه زنديق بتسبيب لا يختلف في جوهره عن تسبيب المحاكم لأحكامها في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، أقول حين نتذكر هذه القضية تنحل هذه المعضلة. إذ يبدو لنا من الوهلة الأولى أنها نكوص عما سار عليه القضاء في (قضية الجمعية العلمانية) ولكن هذا ليس صحيحا ً بسبب اختلاف وقائع كل من القضيتين فلقد كان (قوت) سليط اللسان ووجـَّه تهكما ً لازعا ً وسخرية جارحة تخلو من الأدب لشخص السيد المسيح بينما وقائع القضية السابقة (الجمعية العلمانية) لا علاقة لها بالشتم والسب وسوء الأدب. ومن هنا نستنتج أن الانعكاس القانوني لحركة المجتمع القيمية ونظرته للزنادقة اتجه نحو تجريم العبارات المؤذية للشعور وليس عدم الإيمان في حد ذاته أو التشكيك في الدين وهذا ما سنراه في القضية محل الطرح. قضية (الجمعية العلمانية).
يترجم صاحبا السعادة عن اللورد (ديننج) في كتابه المذكور ما يلي : 
حرر " شارل بومان " وصية جعل أمواله وقفا ً للجمعية العلمانية وهي جمعية مناهضة للمسيحية ومن أغراضها : " النهوض بالمذهب الذي يدعو إلى أن يكون مدار النشاط البشري هو العلوم الطبيعية وليس الاعتقاد في الغيبيات وعلوم ما وراء الطبيعة ".
رأى رئيس القضاء (فنلاي) وهو مسيحي مخلص- على حد تعبير اللورد (ديننج) - رأى أن أغراض هذه الجمعية هي أغراض غير مشروعة وأنها هيئة غير قانونية. - نوضح أن هذا الرأي يؤدي إلى بطلان الوصية وحرمان الجمعية من تلك الأموال.- ولكن اللوردات الأربعة الآخرين كان لهم رأي آخر صاغه اللورد (سمنر) في حيثيات حظيت بالشهرة قال فيها :  
(لم تدرج محاكمنا لدى ممارسة سلطاتها القضائية على اعتبار الكلمات المجافية للتقوى جريمة في حق المولى سبحانه وتعالى فجزاء ذلك عند رب العالمين، بيد أن المحاكم تتناول مثل هذه الكلمات من ناحية غلظتها أو عنفها أو نزعتها إلى تعكير صفو الأمن أو الإخلال بالآداب العامة أو هز كيان المجتمع. ويختلف أثر الكلمات التي تمس سلامة الجماعة مثلما تختلف أثر الأفعال من وقت إلى آخر حسب ظروف كل جماعة ومدى استقرارها واستجابتها أو تقبلها لما تواجه به. وفي هذا العصر تعتبر التجمعات والمواكب أفعالا ً مشروعة في حين انها كانت جرائم قبل مائة وخمسين عاما ً. ولم يأت ِ ذلك من ضعف اعترى القانون أو انصراف عنه بل لأن الزمن قد تغير وأصبح المجتمع في تركيبته أقوى مما كان عليه. ففي هذا العصر لا يتصور العقلاء أن ينهار المجتمع إذا شن بعضهم حملة على الدين لم تستخدم فيها وسائل خسيسة. ولسنا في وضع نتحدث فيه عما يحدث في المستقبل إذا استهدفت الحملات المناوئة للدين أسس البناء الاجتماعي إلى حد تعرضه للخطر ، ذلك ان تحول الآراء بناء على تجارب سابقة لا يمنع من تحولها إلى وجهة أخرى إذا نشأت ظروف أفرزت تجارب مختلفة وتصبح الأجيال المتعاقبة في حل من التقيد بالآراء السابقة. وننتهي إلى القول بأن مدى خطورة رأي معين على سلامة المجتمع هو أمر يخضع للتقدير وفقا ً لظروف الزمان والمكان بالنسبة لكل بلد على حدا. ولا أود أن أقول شيئا ً يحد أو يقيد من حق الجماعة في حماية نفسها عن طريق القانون من المخاطر المحدقة بها في وقت ما وإنما أردت القول بأن التجارب دلت على أن ما كان يعتبر ذات يوم خطرا ً جسيما ً أضحى أمر غير ملفت للنظر. ومن ثم ليس هناك ما يمنعنا من أن نعيد النظر في القواعد المتعلقة بالزندقة والتحلل من العقائد على ضوء الظروف الماثلة في المجتمع الحالي والتجارب السابقة). أ.هـ.
وطبعا ً كسبت (الجمعية العلمانية) دعواها وفقا ً لهذا الفهم المتقدم وحكم لها بتلك الأموال الموصى بها. 

قضية صحيفة (أخبار المرح) 1976م :

   وما نشرته تلك الصحيفة يصفه اللورد " ديننج " بأنه " سم ٌ موذ ٍ ..! ولكن قبل الدخول في وقائع القضية نفسها كما أوردها اللورد ، ننوه إلى أن القاضي الذي نظر هذه الدعوى التي تم التعرض فيها للدين المسيحي لم يكن مسيحيا ً بل يهوديا ً  ويبدو أن ذلك لم يرق للكثير من المسيحيين ربما من العامة ورجال الصحافة مما دعى القاضي اليهودي (آلان هامليتون) أن يستشهد بخطبة اللورد (ماكولي) أمام البرلمان الإنجليزي حين قال :
(قيل أنه من الغريب أن يحاكم قاض ٍ يهودي قضية زندقة ويبدو لي أنه من الغريب أن يحاكم أي قاض ٍ قضية زندقة في الوضع القانوني الحالي أما إذا كان القانون ثابتا ً ومستقرا ً فلا عجب أن يحاكم قاض ٍ يهودي منصف أي زنديق. إن لكل شخص في نظري الحرية في أن يناقش المسائل الدينية وبراهينها لكن ليس لأحد ٍ أن يفرض على مسامع وأنظار الآخرين ما لا يرغبون في سماعه أو مشاهدته أو ما يسبب لهم المضايقة أو يثير مشاعرهم. هذه يا سادتي هي المبادئ التي نضع قانون الزندقة في إطارها. ولو وضع القانون في هذا الإطار فإنني أعجز عن فهم لماذا لا يحاكم القاضي اليهودي قضية زندقة شأنه في ذلك شأن القاضي المسيحي؟! لست كاثوليكيا ً لكنني لو كنت قاضيا ً في " مالطا " لما تورعت عن معاقبة بروتستاني مارق يهم بحرق صورة البابا أمام أعين آلاف الكاثلوليكين. لست مسلما ً لكنني لو كنت قاضيا ً في " الهند " لما ترددت في معاقبة مسيحيين يعتدون على مسجد. لماذا أرتاب إذا ً في يهودي رفعته قدرته وعلمه ونزاهته إلى منصة القضاء إذا كان عليه أن يحاكم شخصا ً يسيء إلى المسيحية في بلد مسيحي؟). أ.هـ.
يقول اللورد " ديننج " : ولقد توفرت للقاضي (آلان هاملتون) هذه الصفات ، القدرة والعلم والاستقامة وقد أحسن محاكمة قضية (أخبار المرح).

  وحي ٌ من السماوات العلا :

  ويبدو أن ذاك القاضي (آلان هاملتون) من متعاطي الأدب فلقد استعمل لغة أدبية رفيعة جدا ً في تلخيص القضية نال معه تقريظ اللورد (ديننج). كما وصفه مجلس اللوردات على لسان اللورد (ديبلوك) بأن التلخيص كان في غاية الروعة وأيده في ذلك اللورد (سكارمان) ولكن سعادة القاضي لم يقف عند ما ناله من تقريظ أرضي مصدره مجلس اللوردات بل يذهب إلى أكثر من ذلك حين يفيد أنه أحس لدى تلخيص القرار (وكأن وحيا ً هبط عليه من السماء). يقول سعادة القاضي : 
(أما عن تلخيص الدعوى فإني على ثقة من أنني لم يسبق لي أن أتيت بما يضارعه. أقول ذلك دون حرج لأنني كنت أحس أثناء إعداد التلخيص وتلاوته كأنني مدفوع بصوت ٍ وحي ٍ هابط ٍ من السماوات العلا).

عن القضية

  وصحيفة (أخبار المرح) التي تحاكم بتهمة الزندقة هي صحيفة تصدر من أجل أصحاب الشذوذ الجنسي ونشرت في ذلك العام قصيدة عنوانها " الحب الذي يفضح نفسه " وبجانبها رسم مصاحب. ويتحرج اللورد (ديننج) في نقل ما جاء بتلك القصيدة أو إيراد أبيات منها بل يكتفي بوصفها بصورة عامة ويقول أنها كانت سما ً مؤذ ٍ. إذ تصور السيد المسيح في وضع شاذ قبل الصلب وبعده مع أحد حراسه الرومان. وكان تداول تلك الصحيفة مقصورا ً على الشواذ وقد يكون ما ورد يؤذي مشاعرهم أو لا. يقول اللورد (ديننج) في هذه النقطة : (أحسب انها لا تؤذي مشاعرهم وإلا لما صدرت من أجلهم). 
بيد أن إحدى نسخ الصحيفة وقعت في يد باحث إجتماعي مرموق وقع بصره على هول ما نشر عن السيد المسيح فحمل الصحيفة إلى المسز (ماري وايتهاوس) فقامت الأخيرة برفع دعوى ضد صحيفة (أخبار المرح) تحت تهمة الزندقة. وجاء في ورقة الإدعاء أن التهمة هي نشر إساءة موجهة للدين المسيحي تمثل في نشر قصيدة بذيئة ورسم حط من قدر السيد المسيح حال حياته وبعد موته.
امتلأت المحكمة بالحاضرين حتى فاضت. واستمرت المحاكمة لمدة سبعة أيام. وانتشرت أخبارها داخل وخارج بريطانيا. ولم يكن هنالك نزاع حول الوقائع وإنما أشتد النزاع حول القانون. وكان مدار الخلاف الرئيسي هو ما إذا كان للمحلفين أن يتحققوا من القصد الحقيقي للناشر أي حالته الذهنية ليتسنى لهم معرفة إن كان قصده أن يؤذي أو يفزع "جمهور المسيحيين" أم أن عليهم أن ينظروا إلى الأثر الذي تخلفه المادة الصحفية المنشورة "غض النظر عن قصد أو عدم قصد الناشر " أي إذا كان من شأنها أن تفزع أو تؤذي المسيحيين، وهذا ما يعبر عنه بلغة القانون بعبارة : (هل يؤخذ بالمعيار الذاتي أم الموضوعي؟).
وقدم كل من الطرفين ما لديه من كتب ومراجع تسند قوله. ثم أصدر القاضي قراره وقد أخذ فيه بالمعيار الموضوعي إذ ذهب إلى القول : (يعد الشخص مرتكبا ً جريمة الزندقة إذا نشر عبارة تتعرض للذات العلية أو للمسيح أو الدين المسيحي بعبارات مشينة أو مسيئة أو مهينة تؤذي مشاعر المسيحيين ومن يتعاطف معهم ويكون من شأنها أن تؤدي إلى الإخلال بالأمن. وكنت ُ على استعداد لأن اتوسع في هذا التعريف ليشمل ما يوجه نحو الأديان الأخرى حيث إنـَّا أصبحنا دولة متعددة الديانات ولكن لا ضرورة لذلك في ما يتعلق بالدعوى المعروضة أمامنا). أ.هـ.
طبعا ً من هذا التعريف الذي أخذ بالمعيار الموضوعي حتما ً ستدان الصحيفة. إذ ليس لديها أي دفوع قابلة للإثبات وكان سيكون لديها خط دفاع واضح جدا ً إذا ما أخذ المقياس الذاتي في الاعتبار، أي قصد الناشر في أن يؤذي أو يفزع جمهور المتدينين. وكما أورد اللورد من بعد، كان يمكن للناشر أن يدفع بأن احتمال وصول تلك الصحيفة إلى أيدي المؤمنين بعيد ٌ جدا ً لا يمكن توقعه بسبب أن تلك الصحيفة موجهة للشواذ فقط الذين لن تفزعهم تلك المادة المنشورة. ومع ذلك يقول اللورد (ديننج) : 
(انصرف المحلفون بعد تلخيص الدعوى لهم بواسطة القاضي إلى غرفة المداولة ثم عادوا بعد أربع ساعات ونصف دون الوصول إلى اتفاق فأخبرهم القاضي بأنه على استعداد لقبول الرأي الذي يصدر بأغلبية الثلثين. فذهبوا للمداولة مرة أخرى وبعد ساعة ونصف جاء قرارهم بالإدانة بأغلبية عشرة أصوات مقابل صوتين. فصدر الحكم على الصحيفة بغرامة قدرها ألف جنيه تدفع أربعة أخماسه لتغطية مصروفات الإتهام كما حكم على المحرر بغرامة قدرها خمسمائة جنيه على أن يدفع خمسها لتغطية مصروفات الاتهام. 
وايدت محكمة الاستئناف قرار الإدانة في حكم نطق به اللورد (روسكيل) وكان محكم التسبيب وأيضا ً أيده مجلس اللوردات بأغلبية ثلاثة أصوات في مواجهة صوتين. حيث ذهبت الأقلية وهما اللورد (ديبلوك) واللورد (ادمون ديفز) أن على الاتهام إثبات سوء نية الطابع والمحرر في تسبيب الهلع وإثارة مشاعر المسيحيين. بينما ذهبت الأغلبية إلى أن القصد ليس ضروريا ً بل يكفي أن تكون العبارات المنشورة وفقا ً للمعيار الموضوعي مما يحتمل أن تثير الذعر لدى المتدينين.
ونجد أن اللورد " ديننج " في كتابه هذا لا يقف مع رأي الأغلبية حيث أن من رأيه أن تتاح الفرصة للناشر لإثبات قصده كما أسلفنا.
الخرطوم - أكتوبر 2012م