التسميات

الجمعة، 14 نوفمبر 2014

(سلمـى) ، حوريـة البحـر الزرقـاء

   يريد أن يأتي بتصرف ٍ غريب، أن يسلك سلوكا ً غير متوقع، أن يصرخ أو يقهقه وسط الشارع دون سبب، أن يبكي لمشاعر غامضة ً لا يجد لها تعليلا ً. يريد أن يثرثر بلا طائل، أن يحكي لأحد ٍ ما عن كل شيء وعن اللاشيء دون أن يشعره المقابل بسخافة ما يقول، أن يحكي بعض الطرف البذيئة لأحدهم دون أن يتهم بقلة الحياء أو تهتز شخصيته في عين محدثه، أن يعاكس فتاة ما، أن يلقي برأسه على كتفها ويبكي أو ينام، دون أن يحس أنه قد أصبح مثارا ً للسخرية أو الاشفاق، أن يتخطى إشارة المرور دون أن يفكر في احتمال أن يراه البوليس فيوبخه. عشرات الأشياء كم فكر الرجل في فعلها ولكن هذا النظام الصارم يحاصره من كل جانب، وكل تلك الأقنعة الكثيفة التي يحافظ بها على شخصيته المفترضة وتمنحه أعلى قدر من الاحترام والمهابة تمنعه من ذلك، هذه القوة المفتعلة وردود الفعل الباردة والخطوات المحسوبة بمنتهى الدقة لتتوافق وتلك الحياة، إنها تهد روحه، تحطم أعصابه وتكتم أنفاسه ولكن كيف السبيل للخلاص منها، كيف السبيل للإنعتاق من ربقتها؟. وظل الرجل حائرا ً يمني نفسه بحدوث معجزة ما تهد كل ما عرفه من حياة وتستبدلها بأخرى.

وكان أن التقى بها في "الفيس بوك" بعد أن ارسلت إليه طلب صداقة تقبله شاكرا ً. لم يعرف عنها سوى اسمها الرمزي (حورية البحر الزرقاء) والصورة الرمزية لشاطيء بحر مهجور. طلبته للدردشة فأدمن "الفيس" بعد تلك المحادثة التي لم تتعد َ بضعة أسطر. ورغم أنه كان يسمي نفسه باسمه الحقيقي ويضع صورته الحقيقية إلا أنه اندفع بعدها يثرثر في ثقة دون تهيب ٍ أو وجل ٍ وكأنه يتحدى خوفه السابق أو يثأر لتلك السنوات من عمره التي التهمها الصمت البارد. بادلته بوحا ً ببوح وحنانا ً بحنان وثقة ً بثقة ليمزق كل الاقنعة ويقف أمامها عاريا ً بكل إنسانيته وينقل إليها كل ما يدور في دواخله، التمس من جرأتها شجاعة ومن وضوحها وبراءتها قوة ً وثباتا. ظل يحكي ويحكي وكأنه يغترف من نبع لا ينضب، وفي كل مرة كان يحس بأنه أضحى خفيفا ً، شفيفا ً وكأنما يوشك على الطيران، بدا وكأنه يتخلص بعد كل محادثة ٍ من أحمال ٍثقيلة تربطه بالأرض. كانت عباراتها صغيرة وبسيطة تشع بالصدق فتحمله إلى عوالم أخرى لم يختبرها من قبل. نادته يوما بحبيبي ، كان للكلمة وقعا ً سحريا ً في قلبه هد َّ كيانه هدا ً فناداها بحبيبتي وقلبه يرتعش. ولم ينم ليلتها. تذكر انه لم يستعمل هذه الكلمة قط، تزوج ببنت عمه الجميلة قبل عامين. تم كل شيء ببساطة ودقة، لا نظرات مسروقة تتخللها الرعشات، لا مواعيد خائبة تعقبها الدموع، لا استعطاف أو تذلل. تمت الخطبة والموافقة والزواج كما يقضي النظام ، أمر ٌ تولاه كبار العائلة، حدث ٌ لم تكن له فيه من صولة ٍ أو جولة. حدث ٌ عادي ٌ كحالات الميلاد اليومية أو الوفاة. لم يحس يومها أن زواجه مكسبا ً خاصا ً به يستوجب الاحتفاء ، ولم يعده بعد ذلك انتصارا ً تعقبه أكاليل القار. لقد تم كل شيء كما هو مفترض، كشروق الشمس وغروبها كل يوم.
   
   حبيبتي ، كان يرددها كتعويذة مفتتحا ً بها كل محادثة وكانت تكتبها له فيحس للكلمات وقعا ً مختلفا ً ويتزلزل ثباته. عجبا ً، كيف تستطيع هذه الحروف التي يرسلها غريب ٌ مبهم ُ الملامح على شاشة ٍ باردة ٍ أن تجعلنا عجينة ً طائعة ً بين يديه، تشكلنا كيفما تشاء ، تسعدنا، تحزننا، تجرحنا، تفرحنا، فنتألم في سعادة أو نسعد ونحن في منتهى الألم ويكاد أن يتوقف منا النبض؟!!. 
   
   وتمر الأيام والشهور ليحزم الرجل أمره ويقرر أن يلتقي بها. لقد أصبحت حياته التي لا حياة له غيرها. وافقت بعد أيام من الإلحاح والمطاردة المثابرة. اختارت مطعما ً شعبيا  صغيرا ً وسط المدينة مكانا ً للقاء. أسعده ذلك كثيرا ً وأحب تلك البساطة التي لم يعتدها ممن حوله. ذهب قبل الموعد بقليل، جلس ينتظرها واجف القلب، كيف يكون شكلها ، مظهرها،  لون عينيها وطريقة تبسمها، هل هي بيضاء أم سمراء، طويلة أم قصيرة، وهل ستتعرف عليه بمجرد أن تراه؟ ثم فاجأته الفكرة بغتة ً، هل ما يحدث الآن حقيقيا ً؟ ربما هي خدعة دبرها له بعض الأشقياء، ربما اتصلوا بزوجته وستظهر فجأة بصحبة أبيها وأبيه وتهد المكان على رأسه وتؤذي حوريته الزرقاء. 
   
   وما لبث إلا قليلا ً حتى كان الرجل يرتجف من قمة رأسه حتى أخمص قدميه وعيناه شاخصتان نحو المرأة التي ولجت من الباب الأمامي متجهة نحوه في ثبات، يا لصواعق السماء، لابد أنها عرفت امره بطريقة ما، فكر الرجل، لا مكان للتراجع،  إنه الوقت المناسب ليتخذ قرارا ً شجاعا ً ويعيد ترتيب حياته كما يشتهي، قرارٌ يخصه وحده ويتحمل نتائجه. لن يعود لحياته الجافة الباردة المصطنعة تلك، لن يضحي بحوريته الزرقاء من أجل حياة لا طعم لها ولا لون أو رائحة. سيقاتل الجميع من أجلها، من أجل حياته الجديدة وحوريته الجميلة، سيقاتل زوجته، عمه ، أباه، عائلته والحكومة. التقط أنفاسه بصعوبة وهو يستقبل زوجته بوجه عابس مهيئا ً نفسه للنزال، تقدمت (سلمى) نحو المائدة بخطوات ٍ مياسة، كانت جميلة، أجمل من أي وقت ٍ مضى ، متوردة الخدين وعيناها تلمعان ببريق صاعق، ابتسمت في رقة ٍ وهي تمد يدها تحتضن كفه في حب وتهمس : حبيبي، بإمكانك أن تضع رأسك على كتفي قدر ما تشاء ، أن تبكي وتنوح أو تردد بعض الكلمات البذيئة إن شئت ، إنها أنا ، أنا هي حورية البحر الزرقاء.
                           الخرطوم – نوفمبر 2014م  

الخميس، 7 أغسطس 2014

أحـن ُّ إلى ذاك الغبـاءِ الجميـل

يوم ُ أمس ْ،
كنت ُ في حدائق ِ الشعب ِ وسط َ (الخرطوم) ،
تلك التي تعرفونها جيدا ً ،
حيث ُ لا شيء  سوى العشب ِ الندي ،
الذي يتمدد في حرية ٍ تحت سماء ٍ على مد ِّ البصر ،
والكثير ُ من الهواء النقي ،
الذي لم تلوثه يد ُ المستثمرين بعد
ولم تلاحظه عين ُ الحكومة ..!
كنت ُ في حدائق ِ الشعب ِ وسط َ (الخرطوم) ،
حيث لا ربطات ُعنق ٍ خانقة ٍ
ولا أحذية ٌ عالية ُ الكعب ِ تجعل ُ الحبيبة َ تتعثر ..!
كنت ُ في حدائق ِ الشعب ِ وسط َ (الخرطوم) ،
حيث لا بوابات ... 
حيث لا "أتكيت" ولا "برتوكول" عاطفي
ولا أي من تلك الأشياء ِ السخيفة
كقوائم ِ الطعام ِ الإفرنجي والجرسونات ذوي الابتسامة المتكلفة ..!
كنت ُ في حدائق ِ الشعب ِ وسط (الخرطوم) ..!
إنه الحنين ُ لأيام ٍ مضت ْ وأصبح َ من المستحيل ِ استحضارها ..!
كنت ُ في حدائق ِ الشعب ِ وسط َ (الخرطوم) ..!
إنها حدائق ُ العشاق ِ الفقراء
اللصوص ِ والمخمورين َ والشعراء ..!
حدائق ُ المنبوذين َ والملعونين َ والطلاب ِ الطيبين ..!
إنها حدائقنا ..!
حدائقكم ..!
كنت ُ مخنوقا ً بعض َ الشيء وأحن َّ إلى زمان ٍ غير الزمان
كنت ُ اتحايل ُ على الفرح ..!
جلس أمامي فتى ً وصبية
أجمل من رأيت ُ في حياتي
أجمل أثنين يمكن أن تبصرهما العين
في هذه الأيام ِ المرة ..!
كانت تهمس ُ له بشيء ٍ ما
شي ٌ رائع ٌ لم استطع سماعه من موقعي البعيد
لكن لا بد من أنه شي ٌ رائع ٌ بالفعل
كدفء ِ الأوتار
كحنين ِ الكمنجة
كعيون ِ الصادقين ..!
شيء ٌ رائع ٌ همست ْ به الصبية لرفيقها
لم استطع سماعه
لكن  ...
لابد من أنه شيء ٌرائع ٌ جدا ً
فلقد رأيت ُ عيني الفتى تشعان بذاك البريق
ذاك البريق ُ الذي كم خبرته،
وألفته ،
وكم سعدت ُ به ... 
وكم افتقده هذه الأيام ..!
كان الفتى ينصت ُ لهمسها ولها ً
ثم رأيت ُ قامته تطول ُ وتطول
رأسه ُ يعانق ُ السماء
رأيت ُ يده الكبيرة ُ الخشنة ُ تمتد ُّ في بساطة ٍ نحو النجوم
يجوس ُّ بينها في سهولة ٍ ويسر
يتخير ُ نجمة ً وضـَّاحة ً
يقطفها ...
وبأدب ٍ عظيم ٍ وحب ٍ كبير ٍ 
ينحني ويعلقها على صدر ِ الحبيبة ِ العامر
وذاك البريق ُ يشع ُّ من حوله ...
ثم يهمس ُ لها بشيء ٍ ما
شيء ٌ لم استطع سماعه
لكن ...
لابد من أنه شيء ٌ رائع ٌ جدا ً
فلقد رأيت ُ ساقي الفتاة الممتلئتين وهما تضجان بالحياة فجأة ً
تموجان بالحركة ِ في تناغم ٍ مثير
نعم ...
آلاف ُ الأطفال ِ الحلوين رأيتهم من موقعي المتلصص
وهم يمرحون داخل َ الساقين ِ الجميلتين
إني أشم ُّ رائحتهم الحلوة َ المميزة
رائحة ُ الأطفال ..!
مزيج ُ اللبن ِ الدافيء والريق ِ المعسول
يسيل ُ من جانب ِ الفم ِ الصغير ِ اللطيف
وهم يستلقون على ظهورهم يزقزقون
والأمهات ُ يناغينهم وهن َّ يبتسمن من القلب
الأيدي والسيقان الصغيرة ُ النظيفة
تمرح ُ في الفراغ ِ يمينا ً ويسارا ً بلا هدف
على حفيف ِ الأصوات ِ الحلوة
والفتاة ُ تنصت ُ لهمس ِ حبيبها وقلبها يخفق بعنف ..!
وأنا أراقب لهو الصغار داخل ساقيها الفاخرتين ،
حينها تذكرتك يا رفيقتي ..!
كنت ُ الفتى وكنت ِ الفتاة وكانت تلك الأيام ..!
كنا مثلهما سعداء َ بجهلنا الذي لم نكن لنتبينه
لم تهجم ْ علينا التساؤلات الكبرى 
ولم يهاجمنا الشك ُ المهلك ُ بعد ..!
نؤمن بكل ما حولنا من حياة
كما تبدو ...
أو كما أرادوا لها أن تبدو ..!
كنا سعداء َ في جهلنا ... متفاخرين به ..!
كنت ُ أفيض ُّ بالحماس ِ وكنت ِ تضجين بالحياة ..!
شارع ُ الجامعة ِ ورائحة ُ المطر ِ في "أغسطس"
قطراته ُ الرقيقة ُ التي تلسعنا بادئ الأمر
ثم لا نلبث أن نعتادها ونسير على الإسفلت ِ بخطوات ٍ راقصة
وثيابنا المبللة ملتصقة بأجسادنا الدافئة ..!
كنت ِ تبدين مثيرة ً في تلك الثياب التي بللها المطر
مثيرة ٌ جدا ً ،
وكنت ِ تلاحظين ذلك فترتبك خطواتك ويخفق ُ قلبك بعنف
وكنت ُ أتظاهر بأنني لم ألاحظ ..!
كنا نخرج ُ إلى الشارع ِ ونهتف ُ ضد الظالمين ..!
لم نكن من كبار ِ السياسيين ..!
كذلك لم نكن من صغار ِ السياسيين ..!
لا ، بل لم نكن لنفهم مثل هذه الأمور المعقدة ..!
كنا أبسط َ من ذلك كثيرا ً وأشدَّ بريقا ً
كنا فقط نغني للحياة ِ ونهتف ُ ضد الظالمين ..!
كنت ُ أكتب ُ شعرا ً جميلا ً تلك الأيام ،
وارتدي ثياب َ الفارس ِ لأبهرك ،
وكنت ِ راويتي وأميرتي ..!
كنت ُ أمشي منفوخ َ الصدر ِ
وأضع خنجرا ً تحت الحزام ِ كما تقضي التقاليد الطلابية
ذلك الخنجر ُ الذي لم استعمله قط ..!
ذلك الخنجر ُ الذي كم أطاحت ْ بصاحبه هراوات ُ الشرطة ..!
ذلك الخنجر ُ الذي كم سلبه ضباط الأمن الغلاظ الشداد ،
بعد أن أكل صاحبه ُ علقة ً ساخنة ً على أيديهم ..!
ومع ذلك كنت ُ فارسك ِ النبيل ِ وكنت ِ أميرتي الجميلة
وكان كل منا يتقن دوره جيدا ً
وحين افترقنا كنا لا زلنا طيبيـَن
نعيش الحياة ونفهمها كما تبدو
أو كما أرادوا لها أن تبدو
لذا كانت أسباب ُ فراقنا بسيطة ً وسخيفة
لكنها أسباب ٌ كافية ٌ وفقا ً لتلك الحياة ،
فانصرفت ُ غاضبا ً ورحلت ِ مجروحة ً ..!
هل لا زلت ِ في مدينتك الباردة تعيشين تلك الأيام ،
أم أن لعنة َ الشك ِ والتساؤلات ِ المربكة ِ
طالتك أيضا ً وسلبتك طعم َ الحياة ؟..!
           الخرطوم – أغسطس 2014م

الأربعاء، 28 مايو 2014

الخـرافـــة

ذلك القيـد ُ الحالـم ُ ...
إنها تسيطـر ُ على عقـولنا ،
ترسـم خطواتنـا ،
ملامحنـا ،
ونظراتنـا ..!
قصـة ٌ مـا،
أو حكايـة ٌ ،
أو أحجيـة ،
ابتدعـها شخـص ٌ مـا
في لحظة ٍ تجـل ٍ أو يأس ٍ أو نشوة ٍ أو هذيان ْ ،
وقـد لا يكـون يعنيـها حقـا ً ..!
شخـص ٌ مـا ،
ربما لصـا ً فاتكـا ً
أو أفـَّـاقا ً أو أحـد الحمقـى أو الأوغـاد ْ ،
ربما أحـد ُ الطيبيـن حتـى ،
الباحثيـن عـن الحـق ْ
الضاليـن َ عـن الحقيـقـة ْ ..!
بـذرة ٌ صغيـرة ٌ،
ألقاها أحـدهم بقصـد ٍ حسـن ٍ أو شـريـر ْ ،
فتعهدها القطيـع مـن بعـده بالسـُّـقيـا
فامتـدت ْ جـذورها حتى صياصـي الأرض ْ،
وتشابكت ْ أغصانها حتى السمـاء ْ ،
فأزهرت ْ حقيقـة ً لا يجـرؤ أحـد ٌ على التشكيـك ِ فيـها ،
وإلا مـات أو قــُـتـل ْ ..!
قـوة ُ الخـرافة ِ تكمـن في عـدد ِ المصفقيـن لهـا ،
السائـرين َ فـي ركـابها
هـؤلاء المتحمسـون جـدا ً لنشـرها،
لا يهـم ُّ مـن هـم أو مـاذا يكونـون ْ
لا يهـم ُّ مـا يحملـون َ مـن شهـادات ٍ،
أو ما طالعـوه مـن كتـب ْ ..!
لا يهـم ُّ إن كانت عقولهـم كحبة ِ خـردل ٍ أو صخـرة ٍ،
أو باتساع ِ الفضاء ِ العريض ْ ..!
ربما استطاع َ كـم ٌ مهمـل ٌ من المثابرين – 
وكلهـم مثابرون فـي هـذا المنحـى
أن يجعـل َ الوهـم حقيـقة ً ،
ويحيـل َ الشـاذ َ إلى قاعـدة ْ ..!
الأوغاد ُ المستنيرون َ كما المتدينـون َ الحمـقى هم سدنة ِ الخـرافـة ْ ..!
وحين يقـود ُ أحـد ُ هؤلاء الأماجـد ِ موكـب َ الخرافـة ِ
يصبح ُ الوضـع ُ بالـغ َ السـوء ْ ،
فمعارضـة ُ هـؤلاء إمـا ضـلالا ً أو خيانة ً وطنيـة ً،
وكلاهما يقــود إلى حبـل ِ المشنقـة ْ
فمـن يجـرؤ على التشكيـك ِ في خطـة ِ سيـر ِ القطيـع ْ
لـن يجـرؤ أحـد ٌ سـوى مبتدعي الخـرافة أنفسهـم
وحدهـم القادرون َ
على ابتداع ِ خرافة ٍ جديدة ٍ ،
أو ترقيـع ِ الخـرافـة ِ القديمـة ِ لتصبح َ أكثـر َ تشويقا ً وإثـارة ْ
وأكثـر تضليـلا ً
لا أدري من أيـن تستمـد الخرافة ُ قدرتها على التواؤم المستمـر ْ
تجديد َ نفسها والمسيـل في نبـع ِ الحيـاة ْ
ربما هنالك جرثـومة ٌ صغيـرة ٌ فـي عقـول ِ البشـر ْ
عاهـة ٌ وجـودية ٌ تستدرجهـم نحـو هـذا الطـريـق ْ ..!
كذلك لا يستطيع أحـد ٌ أن يجـزم َ بمقدار ِ الضرر ِ الناتج ِ عن الخـرافة ْ
أو الخيـر ِ المنبثـق مـن ثنايـاها..!
ولكننـا جميعا ً نعلم أنها أحـد ُ الأعمدة التي ترتكـز عليها حياتـنا
وامتزجت ْ بها كالدخـان ْ ..!
حياتـنا ...
تلك البائسـة ُ أو العظيـمة ْ ...
المزرية ُ أو الجميـلة ْ ...
لا أدري ..!
ولن تجـد رجـلا ً راشـدا ً يستطيـع أن يفتيـك ْ ..!
عقول ُ البشر ِ تــُستـدرج ُ نحو تصديق مـا لا يكـون ْ
إنها تتعـامى عن الحقيقـة أو تتجاهلها عمـدا ً، جهــلا ً، مكابـرة ً،
أو ربما يريدون َ أن يغيظـوا الوجـود ،
حقيقـة لا أدري ،
ربما يشوقهم الحـل ُ السهـل ُ لمشاكـل مستعصـية ْ
أذكـر أن أحـد َ الأوغـاد ِ المستنيـرين ْ
وقف َ على جسـر ٍ فـي (بغـداد) يعـظ ُ النـاس َ قبـل ألف عام ٍ أو يزيـد ْ
كان اجتمـاعا ً محضـورا ً
جاءه الناس ُ من كل ِّ الفجـاج ِ زرافات ٍ ووحـدانـا ،
نسـاء ٌ جميـلات ٌ وعجـائز ُ شمـط ْ ..!
رجـال ٌ راشــدون َ
صبية ٌ وأطفـال ٌ طيبـون ليستمعـوا قولـه ..!
كان الشاعـر ُ الحكيم ُ يريد أن يسخـر َ مـن القطيـع ِ علـى طريقـتـه ، ِ
كان يهـزأ ُ ويسخـر ُ وقلبـه ُ يدمـي ...
كان يبتـدع ُ خرافـة ْ ..!
قـال َ – لحاه ُ الله –
بلغنا عن غيـر ِ واحـد ٍ مـن صالـح ِ السلـف ِ،
أن َّ مـَـن وصـل َ لسانـه ُ أرنبـة َ أنفـه ُ،
دخـل َ الجنـة َ بغيـر ِ حسـاب ٍ ،
ولا سابـق ِ عـذاب ْ ..!
فأخـرج َ الجميـع ُ ألسنتهـم جاهديـن َ ليصلوها بأرنبـة ِ أنوفهـم ..!
بعضهم طرب َ وصفـق َ وبات ليلتـه مطمئـنا ً
وبعضهم اغتـم َّ وانخرط في التمريـن ِ جاهـدا ً لبلوغ ِ المقـام العـلي ..!
ومات شاعـرنا غما ً وهما ً في (بغـداد) قبـل ألـف عام ٍ أو يزيـد ْ ..!
ولكـن ليـس هـذا هـو المهـم ْ
فلقـد رأيـت ُ ابني وزمـلاءه في الصـف قبـل يوميـن ِ
يتمرنون بكـل ِ حمـاس ٍ ليصلوا ألسنتـهم بأرنبة ِ أنوفـهم ..!
نعـم ، ابني وزملاؤه بعـد ألـف عـام ٍ أو يزيـد.
                              الخرطوم - أبريل 2014م

الأربعاء، 16 أبريل 2014

فـارس والشيـماء

   بقيادة الحامية العسكرية الوسطى تعالت في تلك الأمسية القهقهات الصاخبة والصيحات القوية من ثكنة (مصعب بن عمير) والتي يشغلها ضباط صف وجنود سلاح المدفعية فلقد كان الجميع يحتفلون بترقية زميلهم وكيل عريف مدفعجي (فارس الكلنكيت) إلى رتبة العريف. كانت من اللحظات النادرة التي يجتمع فيها أفراد الكتيبة  من مختلف الرتب بعيدا ً عن أجواء العمل الرسمية الباردة ليحتفلوا معا ً. أخذوا يتبادلون الطرف والمـُلح وبعض ذكريات الحرب وقد علت أصواتهم في حبور. وكان الصول مدفعجي (عبد الله المانجل) والذي يقترب من سن المعاش بخطوات حثيثة يرتشف مشروبه الغازي بتأفف وهو يدير عينيه الثاقبتين في ما حوله محنقا ً. ثم بدا له أن يردد لازمته المشهورة في مثل هذا الموقف فقال: 
-  آخر زمن. الجيش أصبح زي الحريم ما يشرب إلا البيبسي ..! 
قالها ليعم الصمت أرجاء العنبر الواسع ثم أضاف قائلا ً وهو يحرك عصاه الصغيرة في الهواء يمينا ً ويسارا ً وكأنه يهش بها شيئا ً غير منظور: 
-  شركة يهودية معروفة. لكن ما في زول يقدر يتكلم. آخر زمن ..! 
   وكان الجميع يعلمون أن موقف حضرة الصول من مشروب البيبسي لا علاقة له بما يشاع عن مصدره وإنما يرتكز على حنين الرجل لمشروبات أخرى حل البيبسي محلها في الحفلات الخاصة والعامة في السنوات الأخيرة بعد أن أصبح تناولها جريمة يعاقب عليها القانون، ولكن أي من ضباط الصف والجنود لم يعقـِّب على ذاك القول احتراما ً لرتبة قائله كما تقضي القوانين العسكرية. الرقيب (جعفر الحسين) رغم أنه أدنى رتبة من (المانجل) إلا أن لحيته الكثة التي تدل على قربه من القيادة العليا للجيش وصانعي القرار تمنحه الجرأة دائما ً على مقاطعته ومعارضة أفكاره الهدامة كما يسميها ولكنه لم يفعلها هذه المرة ربما احتراما ً للاحتفال وصاحبه فلقد كان (فارس الكلنكيت) من المشهود لهم بالشجاعة والإقدام وأنقذت جسارته وسرعة بديهته زملاءه من الموت والأسر في الحرب عدة مرات. ظلوا يتسامرون في حبور لبعض الوقت ثم انفرط عقدهم ليتحلق البعض حول طاولة الدومينو والبعض الآخر حول الكوتشينة واكتفت البقية بالتفرج على المتبارين بينما انسحب الرقيب (جعفر الحسين) من الحفل بعد أن ألقى على الجميع موعظة حول علاقة الكوتشينة بالشيطان والماسونية واليهود والنصارى والشيوعية.
   وما كادت عقارب الساعة تقترب من الثامنة حتى أسرع (فارس) مغادرا ً مقر الكتيبة متوجها ً إلى قشلاق البوليس والذي يقع قريبا ً من قيادة الحامية لا يفصل بينهما سوى الجدول الصغير الذي يروي مزرعة الجيش. تخطى الشاب الجدول قفزا ً ثم سار نحو وجهته ومشاعره بركان ٌ هادر. كان ممتلئا ً بها حتى القلق وبه توق لا يبلى لرؤياها. وجدها تنتظره شرق القشلاق وقد اسندت ظهرها على جذع الشجرة الضخم المطلة على القشلاق والبدر أمام وجهها يضفي عليها غموضا ً ومهابة وقد غاصت عيناها في الفضاء البعيد وكأنها تناجي السماء. كانت (شيماء) غائبة عن كل ما حولها وهي ترنو إلى السماء بتلك النظرة التائهة. اقترب (فارس) من محبوبته ذات التسعة عشر ربيعا ً بخطوات حذرة ثم دنا من عنقها حتى غمرتها أنفاسه وكادت شفتاه تلامسان أذنها وهمس فجأة ً: 
-  مبروك ..! 
أطلقت الفتاة صرخة ً حادة ً افزعت الشاب نفسه. ثم تمالكت نفسها لتستدير وتواجهه لاهثة الأنفاس. أخذت تحدق فيه برعب. أضاعت الكثير من الوقت لتستوعب ما حدث ثم تخاطبه بقولها : 
-  (فارس). خلعتني. الله يجازيك ..! 
-  الترقية يا (شيماء) ... الترقية ... الحمد لله. اترقينا ..! 
استعماله لضمير الجمع جعل الرعشة الحلوة تنتظم جسدها، أحست الفتاة في تلك اللحظة أن قلبها سيطفر من بين ضلوعها فجأة ً ليعانق وجه الحبيب. خاطبته بصوت مهموس وهي تطرق إلى الأرض : 
-  الحمد لله. يعني خلاص ؟! 
-  أيوه خلاص. ح أجيء أخطبك الأسبوع الجاي. 
قالها وهو يحتضن كفها بين كفيه ثم تغوص عيناه عميقا ً في عينيها. كان قد وعدها منذ أكثر من عام بأنه سيتقدم لخطبتها حين يتم ترقيته إلى رتبة العريف. كان يقول لها ليس من الأدب أن يتقدم وكيل عريف لخطبة ابنة رقيب أول مثلها ومن الخير لها وله أن ينتظر قليلا ً حتى تتم ترقيته.
وما لبثا إلا هنيهة ً في مناجاتهما الصامتة حتى علا الصوت الأجش من خلفهما هاتفا ً:
-  انتباه. اثبت مكانك يا مدفعجي يا قليل الحيا ..! 
والتفت العاشقان نحو مصدر الصوت وقد أخذتهما البغتة. ليجدا العريف شرطة (عبد المجيد دلدوم) يرمقهما باستنكار. والذي واصل حديثه وهو يقترب منهما بخطوات بطيئة وموقعة تنذر بالشر: 
-  قشلاق الشرطة ليهو حرمته يا وكيل عريف مدفعجي. وبنات الشرطة ما يقدر زول يقرِّب منهن أبدا ً مهما كان. خليك من وكيل عريف جيش جاهل زيك. 
-  أملأ يمينك يا بوليس. علي الطلاق بعد عقد، أصغر مجند عندنا في الجيش أعظم من مديرك العام  يا كـُهـْـنـَة ْ يا دلقان. 
انفجر (فارس الكلنكيت) بهذه العبارة بعد أن ذهب عنه وقع المفاجأة وهو يشمر عن ساعديه استعدادا ً للعراك. وما كان من الرقيب (دلدوم) إلا أن أمسك بصافرته ونفخ فيها وفي الحال برز سبعة من رجال الشرطة انهالوا على (الكلنكيت) لكما ً وركلا ً حتى أغمي عليه ثم اقتادوا الفتاة إلى منزل والدها بقشلاق الشرطة وهي تبكي وتنوح.
   حين وصل الخبر إلى كتيبة المدفعية زلزلت الأرض زلزالها أطلقت الضابط النوبتشي صفارات "الكبسة" ليسرع الجميع إلى أرض الميدان بكامل عدتهم وعتادهم ويصطفوا مشكلين قلعة مهيبة انتظارا للأوامر. وخطب فيهم الصول (عبد الله المانجل) وشرح ما حدث في عبارات مؤثرة ثم ختم حديثه قائلا ً: 
-  آخر زمن. البوليس يرفع عينه على الجيش. علي الطلاق، بوت أصغر عسكري عندنا بي رسينهم أولاد الـ .... لكن الليلة يشوفوا شعاع. 
والتهب حماس الجنود بعد هذه العبارة لتطول صيحاتهم عنان السماء.
الرقيب (جعفر الحسين) حذر زملاءه من العصي الكهربية التي تستعملها الشرطة في مثل هذه الأحوال ليقاطعه (المانجل) هاتفا ً: 
-  عصي شنو يا رقيب؟! الليلة يوم الرجال. الليلة يوم الرصاص الحي. تعليمات يا جيش. زخيرة حية. أضرب في المليان. 
قالها ليهتف الجميع بصوت ٍ مزلزل: 
-  تمام سعادتك. 
   وما هي إلا دقائق معدودة حتى حاصرت كتيبة المدفعية قسم الشرطة ثم انهالوا على المبنى بالرصاص في سخاء حاتمي. ويبدو أن رجال البوليس كانوا يتوقعون هذا الهجوم وأعدوا له عدته إذ أخذت قنابل الغاز المسيل للدموع تنهمر وسط صفوف المهاجمين من خلال النوافذ مع سيل من الشتائم المقذعة. رجال الجيش فوجئوا بالتأثير الحارق لهذا السلاح الذي لم يختبروه من قبل فانسحبوا بعد حين ليرتبوا صفوفهم استعدادا ً لجولة أخرى وهم يسعلون ويعطسون وأنوفهم وأعينهم تجري مدرارا فتغيم المرئيات أمام ناظريهم فلا يدرون صرفا ً ولا عدلا. وشوهد الصول (عبد الله المانجل) يعدو نحو قيادة الكتيبة وهو يردد سبابا ً بذيئا ً. ولم تنقض سوى لحظات حتى عاد وهو يقود المجنزرة 55 لتتعالى الصحيات الحماسية من جنوده وهم يلوحون له مهنئين وقفز الرقيب (جعفر الحسين) إلى الدبابة وهو يكبِّر الله ليختفي داخلها إلى جانب قائده ومن ثم تنهال القنابل الضخمة على مبنى الشرطة وتدكه دكا ً. وكأنما كان بقية الجنود ينتظرون مثل هذه الإشارة إذا هرول الجميع إلى قيادة الكتيبة مسرعين ولم تمض سوى دقائق معدودة حتى أحيط مبنى الشرطة بمختلف الأسلحة الثقيلة من مجنزرات وكومندرات وراجمات ومدافع لم يرها الناس من قبل ولا يعرفون لها اسما ً. وأخذت القنابل تنهال على قسم الشرطة والمباني المجاورة. البوليس أسرع يخلي المبنى وينسحب أفراده مهرولين بعد أن فتحوا أبواب الحراسات وأطلقوا سراح السجناء. وما هي إلا دقائق حتى أصبح قسم الشرطة وما يحيط به من مبان ٍ أثرا ً بعد عين فلقد سوى به الجيش الأرض. ثم انصرفوا إلى قيادتهم وهم يهللون ويكبرون ويرددون الأناشيد الطلابية التي تذم البوليس وتسخر من أفراده.
   ولم يكن لهذه الأحداث أن تمضي دون نكير فبعد عدة أيام أوردت الصحف أن كل أفراد الكتيبة قد أحيلوا إلى محاكمات عسكرية أوقعت بحقهم عقوبات متفاوتة. ولكن الكثيرين ممن لهم علاقة شخصية بالجنود يقولون أن تلك المحاكمات كانت صورية لم ينفذ أي من أحكامها. آخرون يقولون أن سعادة القائد العام قد منح كل أفراد الكتيبة ترقيات استثنائية. ولكن الثابت للجميع أن العريف مدفعجي (فارس الكلنكيت) قد تم نقله إلى القيادة العامة للجيش في عاصمة البلاد برتبة ملازم ليتخطى ثلاث رتب دفعة واحدة ويصبح في سلك الضباط. كما أحيل الصول (عبد الله المانجل) إلى المعاش لبلوغه السن القانونية برتبة رائد متخطيا ً ثلاث رتب أيضا ً ومنح وسام الفروسية من الطبقة الأولى ووسام الخدمة الطويلة الممتازة في احتفال مهيب شرفه سعادة القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع وثلة من كبار الضباط.
الخرطوم - مارس 2014م