التسميات

السبت، 3 نوفمبر 2012

لعنة الشيخ "حسن ود حسونة" 2

                             5
   قالوا: وكان بعض عربان "الضَّهَارِي" ذوي الأنوف الطويلة المستقيمة والشوارب الكثة الفخيمة وهم ثلاثة إخوة أشقاء، ورثوا المجد كابراً عن كابر وزادوا عن حياضه غابراً إثر غابر، ذهبوا مغاضبين أهليهم فنزلوا بمواشيهم في سهل "الكريزاب" قريباً من جبل (أَنْطَاكَا) منذ مائتي عامٍ ونيف. ولم يكن في صحبتهم أحد من الإنس سوى شقيقتهم الوحيدة (بقارة). وهي فتاة في ميعة الصبا بلغت من الجمال وحسن الأدب مبلغاً عظيماً لم تبلغه أية من فتيات ذلك الزمان. كان الإخوة الثلاثة يحبون شقيقتهم حباً جمَّا ولا يرون في الدنيا من تماثلها عزةً ومنعة أو تدانيها شرفاً ورفعة. حب زاد في ناره وألهب أواره وفاة والدهم الرقيق العطوف والذي لم تسلمه شجاعته من الحتوف. فكان أن قضى في مبارزة مع أحد فرسان (الهِضَيلابْ) وهي قبيلة تسكن تلك الناحية في ذلك الزمان. وجاءت وفاة الأب بعد وفاة زوجته بنحو شهر، فكان موته على الفتاة قاصمة الظهر. فقتلت نفسها هماً وغماً ونواحا ولبثت في كربٍ عظيم. فألتف إخوتها حولها يتعهدونها بالرعاية والاهتمام محاولين تخفيف المصاب على الفتاة. ثم عزموا على أن يكون هذا ديدنهم إلى آخر الزمان حتى يعوضونها فَقْدَ أولئك الكرام. فعاشت (بقارة) بين إخوتها الثلاثة كملكة غير متوجة.
قال الراوي: ومضى على الفتاة حينٌ من الدهر وهي تتمرغ في حب أخوتها الثلاثة ورعايتهم وتدليلهم إلى أن جفت تلك البلاد وأصبح سهل "الكريزاب" قفراً يباب لا ماء فيه ولا شجر ولم يعد يسكنه إلا الحجر فلقد خاصم تلك الناحية المطر ولم يعد يزورها إلا لماما. ففكر الأخوة الثلاثة في الرحيل إلى بلاد الأحابيش ذات الخير الوفير والماء النمير. وحينما عزموا على الذهاب وأعدوا العدة والركاب أُسقط في أيدهم وتلاشت أمانيهم فلقد أهمتهم أختهم الوحيدة اليتيمة (بقارة) وما يمكن أن يحدث لها في غيابهم الذي قد يطول.
جلس الإخوة الثلاثة يتبادلون وجوه الرأي علَّهم يخرجون بأحسن التدبير. رأى أصغرهم (حمدان) أن يصطحبوا أختهم معهم إلى بلاد الحبش. خاطب شقيقيه بقوله:
-  هذه الرحلة ستفيدها كثيراً وخير لها أن ترى بلاد الله الواسعة وتمرح قليلاً.
-  ليس هذا بالرأي يا أخي. كيف ستحتمل أختنا وعورة الطريق ورهق الأسفار وأنت تعرف ما في بلاد الأحابيش من أخطار.
هكذا كان تعليق الشقيق الأكبر (حامدين) على مقالة أخيه. وتدخل (أبو المكارم) شقيقهما الأوسط بقوله:
-  أنا من رأي أخي (حامدين). شقيقتنا لا تحتمل رهق الطريق ولكن إذا لم نأخذها معنا فكيف ستعيش وحيدة في هذه القفار وأنتما تعلمان أن عربان (الهِضَيلابْ) يحقدون علينا كثيراً ويتربصون بنا الدوائر وقد يحدثون أمراً في غيابنا.
-  لن يجرأوا يا أخي. فلنترك أختنا مع نعاجها السبع ولنكثر لها من الدخن والسمسم ولن يمسسها سوء بإذن الله.
-  بئس الرأي ما تقول يا (حامدين) كيف نترك شقيقتنا وحيدة وسط هذه البيد والقفار؟! ماذا لو هاجمها ذئبٌ أو أسد أو حتى حيَّة.
قالها (حمدان) ثم صمت هنيهة ليضيف:
-  الرأي عندي أن نترك أختنا مع رجل صالح وديعة يحفظها إلى أن نعود.
-  وأين نجد هذا الرجل الصالح في هذا الزمان؟!
تساءل (حامدين) مشككاً ليجيب (حمدان) مباشرة:
-  الشيخ (حسن ود حسونة).
-  ونعم من ذكرت يا أخي.
قال الراوي: وكان الشيخ المذكور هو قطب ذلك الزمان وتجري على يديه خوارق العادات ويسكن تلك الناحية منذ حين وكان في  جواره رحمة للعالمين.  فأودع الإخوة الثلاثة شقيقتهم لدى القطب الكبير وارتحلوا إلى بلاد الأحابيش وهم مطمئنون على شقيقتهم الوحيدة. 
ولبث الإخوة الثلاثة ما شاء الله لهم أن يلبثوا في تلك البلاد الغريبة يتاجرون ويتبضعون وتحسنت أحوالهم واغتنوا. ثم قفلوا بعد عامٍ ونيف عائدين إلى سهل "الكريزاب" وهم يحملون غرائب الأشياء والمخلوقات والكثير من الهدايا لشقيقتهم الوحيدة وللشيخ (حسن ود حسونة).
قال الراوي: وكان أن نفذ أمر الله في الجارية قبل ثلاثة أيام من قدوم إخوتها فغسلها القطب الكبير وكفنها بقماش من الكتان باعه من حر ماله ودفنها قريباً من خلوته. وحينما عاد الإخوة الثلاثة أطلعهم على ما كان من أمر شقيقتهم وأن أمر الله قد نفذ فيها.
وكان للخبر وقع الصاعقة على الإخوة الثلاثة فجنَّ جنونهم وهاجمتهم ظنونهم وأحدثوا في قلوبهم أمراً نُكرا وهاجوا وماجوا وكادوا أن يفتكوا بالقطب الشيخ وهو لا يفتأ يراجعهم ويتلو من الآيات ما يُبَلِّغُهُمْ حتى هدأ الشقيقان الأصغران فأكثرا لشقيقتهما الراحلة الدعاء ثم أجهشا بعد حينٍ بالبكاء.
 أما (حامدين) الكبير فلقد اتهم الشيخ بالكذب وتحدث بما لا يليق ثم أنشد يقول:
وأفجع من فقدنا من وجدنـا           قُبيـل الفقــد مفقــود المثـالِ
وليست كالإناث ولا اللواتي          تعد لها القبور من الحجالِ
وما كانت (بقارة) أخت مِيِلٍ         ولكنـَّا الأسنة في النصالِ
ولو جاءت لها (عدنان) طراً        لما عـادوا بشسع من نعـالِ
ولكنـَّا خَدعنـا شيبُ شيخٍ            يقول الناس عنه خيـر قالِ
وقد كانت مقالتـهم خبالاً           وغُمِّسَ ناظراهم في الضلالِ   
فلا تأمن لحسن ود حسونة       فتدخل يدك في جحر الصلالِ      
قال الراوي:
فغضب الشيخ غضباً عظيماً حتى أحمرت حدقتاه وارتجفت من هول غضبه يمناه ولكنه لم ينبث ببنت شفة بل تقدم إلى قبر الفتاة والإخوة الثلاثة يخبّون في إثره وكأنهم العوز المطافيل. ووقف الشيخ وتفكَّر ثم تلى من القرآن ما تيسَّر وهتف:
-  يا (بقارة).
-  سيد أم (بقارة).
ردت الفتاة من داخل القبر بصوتٍ رخيم ثقب جلاؤه أذن الحاضرين. ليعود الشيخ يخاطبها آمراً:
-  قومي واذهبي مع إخوتك.
وإذا بالقبر ينشق في جلجلة مزلزلة وتخرج الفتاة تجر أكفانها لتنتصب بينهم ونظراتها تتجول في ما حولها في عجب وحيرة وإخوتها حولها ساكنون صامتون وكأن على رؤسهم الطير وقد ألجمهم الخوف وهم يظنون بالهلاك. والتفت الشيخ نحو (حامدين) قائلاً:
-  كل أنثى من صلبك إلى أبد الآباد. تقوم قبل التناد. وتستبيح الديدان جسدها إلى يوم المعاد.
وأسرع (حامدين) يتمرغ في التراب ويحثو على رأسه الرماد وهو يبكي وينوح. وشقيقاه يراجعان الشيخ حتى يخفف العذاب عن نسل الرجل. وأنشأ (أبو المكارم) يقول مخاطباً القطب الكبير نسأل الله حسن المصير:
أيا من عاش بين الناس دهراً        كتوم السـر صدّاق المقـالِ
ويُستسقى الغمام بناظـريه            تـذل لحكمه عنـق الرجالِ 
وعشتَ تعلِّم النـاس التآخي          وأخذ العفو في الحرب السجالِ
وحالات الزمان عليك شتى         وحـالك واحـــدٌ في كــل حــــالِ
فأعفو عن شقيقي، كن عطوفاً      أيا أسدٌ على ضعف الرئـالِ
وأعرض عن جهالتنا وأصفح       فإن العفـــو صنـــوٌ للكمـــــالِ
وبعض الرزء يُفقد كل عقلٍ         فكيف الموت في هذا الجلالِ
هي المدفون قبل الترب صوناً      وقبل اللَّحد في كـرم الخلالِ
ولو كان النسـاء كمن فقدنـا         لفُضلت النسـاء على الرجــالِ
فآسي في مصيبتنا وأصفـح         ومـا عهدي بمجدٍ عنك خالي
فلا غيضت بحارك يا جموماً       علـى علل الغرائب والدخالِ
رأيتك في الذين أرى شيوخاً         كأنك مستقيـم في المحـالِ
فإن تفق الأنـام وأنت منهم          فإن المسك بعض دم الغزالِ
قال الراوي: فرق الشيخ بعدها لحالهم وأكرم جوارهم فأردف يقول:



-  من تَعْبر منهنَّ إلى ما وراء جبل (أَنْطَاكَا). تحظى بالقبول ولا تخشى الهلاكا.
فأسرع الإخوة الثلاثة يشكرون الشيخ معترفين بفضله مقرين بحلمه ثم شدَّوا بغالهم وأردفوا شقيقتهم ميممين صوب الجبل المقصود حتى عبروه بسلام. هناك ماتت (بقارة) في الحال. فحفر لها إخوتها قبراً واسعاً تحت دوحة سامقة ودفنوها لتنعم بالراحة كبقية خلق الله.
قال الراوي: وظلت تلك عادة راتبة في أسرة الرجل (حامدين) والذين سموا بـ"تَرَبْ البِنَيَّة"، يعبرون بنسائهم بعد قيامتهن الأولى إلى ما وراء جبل (أَنْطَاكَا) فيمتن في الحال فيواروهن الثرى خلف الجبل، فينعمن بالراحة ولا يقمن بعدها إلا يوم المعاد كسائر الأناسي.
من رواية (لعنة الشيخ حسن ود حسونة) أغسطس 1998م - مارس 2011م الصفحات 28 - 31 

هناك تعليقان (2):

  1. الشيخ حسن ود حسونة نفعنا الله بكم في الدارين واكرمنا بزيارتكم .
    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صلاة دائمة بدوامك يا حفيظ
    اللهم آمين يارب العالمين

    ردحذف