..........................................................................................
ظل (أبو
السُّرَّة) ساهراً والألم والحيرة تأخذان بقلبه وعقله. ماذا يحدث لهم وما هي تلك
القوة الخفية الخبيثة الماهرة التي تسيطر عليه وعلى بقية الرجال فتجعلهم ألعوبةً
في يد الحاج (حامد)؟ إنه يعرف نفسه جيداً، (أبو السُّرَّة) وهذا يكفي ويعرف بقية
الرجال، يستطيع أن يحصي آباءهم جميعاً حتى الجد العشرين. فما بالهم اليوم وأي سحرٍ
يسلطه عليهم هذا العجوز المتهالك؟ أي سحرٍ غامضٍ وشريرٍ هذا الذي يجعلهم يتحركون
بلا إرادة. يبتسمون والقلوب تنزف دماً. يلعنون من يحبون ويدعون بالخير لأعدائهم وغاصبيهم.
وتعالى شخير (سكينة)
زوجته وكأنَّها تصرفه عن هذه الأفكار الغريبة، لتدوي الصرخة الحادة مخترقة حجب
الظلام والصمت تنبئ عن كارثة مخيفة.
هبَّ (أبو السُّرَّة)
منتصباً في الظلام وقد توترت عضلاته وأخذت أطرافه ترتعش وهو يمد سمعه منصتاً وقد
حبس أنفاسه، ولكن لا شيء، عاد الصمت الثقيل يطبق على القرية من جديد. وعادت الحيرة
تغلف عقل الرجل، ماذا يحدث حولهم؟ لقد دوت الصرخة حادةً وكأنَّ صاحبها يعاني من
إلمٍ خرافيٍ مميت ولكن ما بال السكون يبسط رداءه هكذا ؟ وكيف لم يصل الصوت سمع
بقية الرجال؟ فكر أن يخرج إلى الشارع يستجلي الخبر. جمع أشتات نفسه الخائرة،
استجمع تاريخاً طويلاً من البطولات وإرثاً خالداً من الكبرياء ولكن ما بال التردد
يقيد خطواته؟ ما بال هذا الشيء الكريه يجعل أطرافه باردةً خائرةً وضعيفة؟!
أضاع وقتاً ثميناً في
محاولته اليائسة للسيطرة على نفسه دون جدوى، كان شخير (سكينة) يزيد في حدة التوتر والقلق. فكر الرجل أن
يوقظها أو ينهرها أو حتى يكتم أنفاسها، حينما خيل إليه أن هنالك ثمة من يطرق على
باب الدار.
أخذ (أبو السُّرَّة)
ينصت وقد حبس أنفاسه عادت الطرقات بعد هنيهةٍ تخترق أذنيه في إلحاح، ليعود الرجل
يستعيد ذلك التاريخ الحافل متشجعاً ليخطو نحو باب الدار متسائلاً:
- ده منو؟
خرج الصوت ضعيفاً
واهناً وكريهاً. رد الطارق والانفعال يقيد صوته:
- ده أنا (محمود) يا (أبو السُّرَّة). افتح
الباب.
فتح الرجل الباب والخجل
يلجمه ليندفع الشاب إلى الداخل كسهمٍ طائشٍ ويطيش عقل الرجل بما يروي له من أخبار.
.......................................................................................
أخذت هذه الأحداث تحاصر (أبو السُّرَّة) طيلة الأيام التالية. قضى الرجل أسبوعاً وهو يحبس نفسه عن الجميع مفترشاً تراب الحجرة والألم يصرعه. كان يجلس على أرض الحجرة المتربة وحياته السابقة تتحرك أمامه كشريطٍ سينمائي ناصعٍ ومشرق. طفولته الشقية وهو يجري إلى جانب أبيه في أزقة القرية قوياً ومهاباً من بقية الأطفال. شبابه الزاهر في المدينة الكبيرة والعراك مع زملاء المهنة الذي كان بطله الأوحد. زواجه من (سكينة) بنت زعيم "الْعَرْبَجِيَّة" السابق. (السُّرَّة) مولوده الأول التي يكنى بها. (الحاج) وفتاة القبور. حُلول (بابكر) و(محمود) في القرية وصراعهم العادل مع (الحاج). وقوفه المشرِّف إلى جانبهم ثم تضعضعه وتخاذله الأخير حين واجهه الرجل. ويعود (أبو السُّرَّة) يغلق عينيه في ألم. إنه ليس جبانا. إنه (أبو السُّرَّة) أسد البلد وزعيم "الْعَرْبَجِيَّة". "أب شنباً يكتف الدود" فكيف يخشى ذلك العجوز المتهالك. كيف ينسى نفسه وتندفع عبارات الثناء والحمد من فيه في سخاء حينما يقف أمام حاج (حامد). لشد ما يكره تلك اللحظة ويندم عليها بعد ذلك أشد الندم. لقد كان ذلك الشاب رجلاً حقيقياً فتح بصيرتهم وعبَّد الطريق أمامهم ودفع حياته ثمناً لخيرهم والدفاع عنهم، ولكنه خذله بكلماته الجبانة تلك، ليلة احتفال الناس بعودة (الحاج) من الأراضي المقدسة. ولو كان (بابكر) مكانه ذلك اليوم لوقف في شجاعةٍ وأعلن لـ(الحاج) أنه .... أنه .... أنه ..... وأخذ عقل (أبو السُّرَّة) يضج وهو يبحث عن الكلمة التي كان سيقولها (بابكر) في وجه (الحاج) دون جدوى. بذل ذهن الرجل مجهوداً خارقاً لا عهد لأدمغة البشر به، بحثاً عن تلك الكلمة الصادقة والمعبرة فلم يعثر عليها. واشتعل دماغ الرجل، تقدمت بعض الخلايا وتأخرت أخرى واحترقت البقية ثم أخذت عينا (أبو السُّرَّة) تومضان ببريقٍ غريب. هبَّ الرجل مندفعاً إلى الشارع وهو يصرخ:
.......................................................................................
أخذت هذه الأحداث تحاصر (أبو السُّرَّة) طيلة الأيام التالية. قضى الرجل أسبوعاً وهو يحبس نفسه عن الجميع مفترشاً تراب الحجرة والألم يصرعه. كان يجلس على أرض الحجرة المتربة وحياته السابقة تتحرك أمامه كشريطٍ سينمائي ناصعٍ ومشرق. طفولته الشقية وهو يجري إلى جانب أبيه في أزقة القرية قوياً ومهاباً من بقية الأطفال. شبابه الزاهر في المدينة الكبيرة والعراك مع زملاء المهنة الذي كان بطله الأوحد. زواجه من (سكينة) بنت زعيم "الْعَرْبَجِيَّة" السابق. (السُّرَّة) مولوده الأول التي يكنى بها. (الحاج) وفتاة القبور. حُلول (بابكر) و(محمود) في القرية وصراعهم العادل مع (الحاج). وقوفه المشرِّف إلى جانبهم ثم تضعضعه وتخاذله الأخير حين واجهه الرجل. ويعود (أبو السُّرَّة) يغلق عينيه في ألم. إنه ليس جبانا. إنه (أبو السُّرَّة) أسد البلد وزعيم "الْعَرْبَجِيَّة". "أب شنباً يكتف الدود" فكيف يخشى ذلك العجوز المتهالك. كيف ينسى نفسه وتندفع عبارات الثناء والحمد من فيه في سخاء حينما يقف أمام حاج (حامد). لشد ما يكره تلك اللحظة ويندم عليها بعد ذلك أشد الندم. لقد كان ذلك الشاب رجلاً حقيقياً فتح بصيرتهم وعبَّد الطريق أمامهم ودفع حياته ثمناً لخيرهم والدفاع عنهم، ولكنه خذله بكلماته الجبانة تلك، ليلة احتفال الناس بعودة (الحاج) من الأراضي المقدسة. ولو كان (بابكر) مكانه ذلك اليوم لوقف في شجاعةٍ وأعلن لـ(الحاج) أنه .... أنه .... أنه ..... وأخذ عقل (أبو السُّرَّة) يضج وهو يبحث عن الكلمة التي كان سيقولها (بابكر) في وجه (الحاج) دون جدوى. بذل ذهن الرجل مجهوداً خارقاً لا عهد لأدمغة البشر به، بحثاً عن تلك الكلمة الصادقة والمعبرة فلم يعثر عليها. واشتعل دماغ الرجل، تقدمت بعض الخلايا وتأخرت أخرى واحترقت البقية ثم أخذت عينا (أبو السُّرَّة) تومضان ببريقٍ غريب. هبَّ الرجل مندفعاً إلى الشارع وهو يصرخ:
- يا ناس الحلة عووووك، (الحاج) إنتهازي ...
(الحاج)
إنتهازي ...
أنا (أبو السُّرَّة) والحاج إنتهازي.
من رواية (لعنة الشيخ حسن ود حسونة) أغسطس 1998م - مارس 2011م صفحة 89 و 95
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق