20
سمَّى الله
بصوتٍ هامس ثم مد يديه نحو "الجردل" الكبير وأخذ يغترف منه ويصب الماء
على رأسه وسائر جسده في تؤدة وهو يتمتم بالشهادتين وبعض الأدعية المأثورة. توضأ
أولاً وضوءه للصلاة ثم غسل رأسه ثلاث مرات ولم ينسَ أن يخلل شعره عند كل غسلةٍ حتى
يصل الماء إلى فروة رأسه. ثم بدأ بغسل ميامنه مبتدئاً بالأعلى حتى الأسفل ثم
مياسره بذات الترتيب. ثم عمم جسده جميعاً بالماء. فجأةً بُصر بها وهي تتمدد بين
فخذيه في سفورٍ وقح. وومض البرق ودوى الرعد وتألقت عينا الشاب بالفهم العميق.
- اقتل الحيَّة تنجو.
أسرع (محمود) يعدو نحو
الحجرة عارياً. فتح الدولاب الصغير في اضطراب وأخذ يقلب داخله وهو لا يكاد يملك
زمام نفسه من الإنفعال. يداه ترتعشان وصدره يعلو ويهبط في "كريرٍ" طامٍ
وكأنَّه حصان يعود من سباق طويل. وجد ضالته أخيراً فقبض عليها بيمناه في قوةٍ ثم كرَّ راجعاً إلي الحمام وقد تبدل حاله إلى السكون
المهيب والطمأنينة الشفيفة.
أخذ الشاب يتأمل الحيَّة
الذي تمدد بين فخذيه وكأنَّه يراها لأول مرة. وضع الخنجر على الأرض ثم أمسك
بالكائن يقلبه في دهشة، هذه هي الحيَّة سر شقائه الأبدي، هذا هو الضعف والهوان.
رفع (محمود) الخنجر
عالياً سَمَّى الله وكَبَّر بصوتٍ مهيب، وكلمح البصر كان قد فصل الحيَّة السامة عن
جسده.
أحس الشاب بروحه يتسع ويكبر
ليحوي كل الكون داخله. أمسك بعضوه المقطوع، تأمله في فضول وكأنَّه يحاول أن يستشف
سره الخفي ثم لفَّه بقطعة من القماش ولبث ساكناً يترقب وقد تكوم الثعبان أمامه
كمليكٍ مطرود.
أخيراً توقف
النزيف. اغتسل (محمود). ثم حمل ثعبانه وخرج إلي الشارع المشمس. اختار شجرة ظليلة
في وسط القرية أخذ ينكش تحت جذعها حفرةً عميقة. ألقى الحيَّة داخلها في هدوء، أهال
عليها التراب ثم تسلق الشجرة في خفة. وقف على أعلى أغصانها مشرفاً على القرية وهو
يهتف بصوتٍ جهوري:
- هلموا إليَّ يا معشر الحزانى، هلموا إليَّ..!
أخذ يرددها في انفعالٍ
مثنى وثلاث ورباع دون كلل، وهم يتجمعون حوله زرافاتٍ ووحداناً والتساؤل يلوح في
أعينهم.
اجتمعت القرية كلها
هناك تستمع للخطبة الأخيرة التي يلقيها الشاب في حماس الأنبياء والأبصار شاخصةٌ
نحو شفتيه، بينما أصحابها ساكنون صامتون وكأنَّ على رءوسهم الطير وقد ضاق بهم ظل
الجميزة الضخمة على اتساعه.
بدا (محمود) هادئاً ملء
ثيابه ثباتاً وقوة. حمد الله وأثنى على نبيِّه ثم انبرى قائلاً:
- (أيها الناس، سار المثل وحقق العمل وقدم الوجل.
وصمت الناطق وضاق الزاهق. وثقلت الظهور وضاقت الأمور وحجم المقدور. وأرغم المالك
ومنعت المسالك وسلك الحالك. وعمرت الفترات وكثرت الحشرات. ولجت الأمواج وحفت
العجاج وضعف الحجاج وأطرح المنهاج. واشتد الغرام وألحق الآرام ودلف القثام وازدلف
الخصام. وصحب الوصب ونكص من الهرب. وطلب الديون فبكت العيون وفتن المفتون وسكت
المغبون. وشاط الشطاط وهاط الهياط ومط الغلاط. وقدحت الحوادث ونفث النافث وعبث
العابث وهجم الدابث. وظهر الإيجاز وبهر الرجاز. واختلفت الأهواء وعظمت البلوى
واشتدت الشكوى. وقرض القارض ورفض الرافض. وتأضل البازخ ونفخ النافخ. وزلزلت الأرض
وضيع العرض وحكم الرفض. وقام الأدعياء ونال الأشقياء وتقدمت السفهاء وتأخرت
الصلحاء. وغلس العبوس وكسكس العموس ونافس المعكوس وحلب الناموس.).
صمت الشاب برهةً يلتقط
أنفاسه المتسارعة لتندفع (السُّرَّة) في زغرودةٍ مجلجلةٍ عانقت السماء. ليسود
الهرج والمرج بعد أن نفض الجميع عنهم غبار الذهول.
عاد الشاب يواصل خطبته وهو
يتفحصهم واحداً واحداً وعيناه تبرقان:
- أتدرون من أنا؟!
صمت برهةً يحدق في
الوجوه المتسائلة وكأنَّه يمنحهم فرصة للرد. ثم عاد يجيب بصوتٍ يهدر كالشلال:
- (أنا آية الجبار، أنا حقيقة الأسرار، أنا سخي
الأنوار. أنا دليل السماوات، أنا أنيس المسبحات. أنا خليل جبرائيل، أنا صفي
ميكائيل، أنا قائد الأملاك، أنا سمندل الأفلاك. أنا سائق الرعد، أنا شاهد الوعد.
أنا سرير الصراح، أنا حفيظ الألواح. أنا قطب الديجور، أنا البيت المعمور. أنا زاجر
العواصف، أنا محرك المعاصف. أنا سبب الأسباب، أنا أمين الحساب. أنا مدد الخلائق،
أنا محقق الحقائق. أنا شريف الذات، أنا محدث الشتات. أنا البرق اللموع، أنا السقف
المرفوع. أنا مؤول التأويل، أنا مفسر الإنجيل. أنا أم الكتاب، أنا فصل الخطاب، أنا
صراط الحمد، أنا أساس المجد. أنا مبيد الكفرة، أنا أبو الأئمة البررة. أنا قالع
الباب، أنا مدير الشراب).
وعادت (السُّرَّة)
وبقية النساء يشحن الأفق بالزغاريد وتعالى تكبير الرجال وتهليلهم ثم فرقعت
الدراويش سياطها في الهواء وهي تهتف:
- يا منصور تقدم بنا صوب السور ... يا منصور..!
سار الشاب مبتعداً في هدوءٍ
وهم لا زالوا يهتفون. عاد إلي حجرته والهدوء الشفيف يلتحفه. أخرج المصلاة والمسبحة
ثم غرق في لجة النور.
ولم تمض
دقائقٌ معدودات حتى تعالى صراخ (سالم النَّضِيف) وهتافه وهو يشير نحو السماء:
- (محمود) .. يا (محمود) .. ما معقول .. أنا
مجنون..!
كان (سالم النَّضِيف)
يصرخ في هستريا وهو يتابع ببصره الشبح النحيل الذي يخترق الفضاء سابحاً في رشاقة.
واستمر (سالم) يصرخ وهو يشير بيده نحو الفضاء. وخرجت القرية كلها إلي الشارع.
أخذوا يرقبون الشاب الذي أخذ يبتعد ويبتعد مخترقاً الفراغ حتى اختفى خلف السحاب
الأزرق.
من رواية (لعنة الشيخ حسن ود حسونة) أغسطس 1998م - مارس 2011م الصفحات 120 - 123
* الخطبة التي ألقاها بطل الرواية هذه منقولة من كتاب "تبرئة الزمة في نصح الأمة" لمحمد عثمان عبده البرهان وهو يسندها لسيدنا على كرم الله وجهه.
* الخطبة التي ألقاها بطل الرواية هذه منقولة من كتاب "تبرئة الزمة في نصح الأمة" لمحمد عثمان عبده البرهان وهو يسندها لسيدنا على كرم الله وجهه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق