......................................................................................................................................................................
وسار ما شاء الله له أن يسير على تلك الحال في
معجزةٍ غير مفسرة. ثم أحس (الجزمجي) بالعطش الشديد يحرق جوفه. ماء، أريد ماء.!
غامت المرئيات أمام ناظريه. ماء.! جزَّ على أسنانه بقوة وهو يتقدم. ماء.! لم يعد
يرى وجهته. ماء يا الله، ماء.! لسانه يلتصق بحلقه الجاف كقطعةٍ من الصخر. ماء، أين
الماء.! قدماه ترتجفان. ماء.! ركبتاه ترتعشان. ماء يا إلهي، ماء!
كان يعلم أنه إذا ضَعُف وتهاوى فسيغمى عليه،
وحينها سيهلك لا محالة. سيسد لسانه مجرى تنفسه بعد قليل فيموت اختناقاً. ماء يا رب
.. أين الماء؟!
لكل شيء حدود كما يُؤثر وللجسد حدود لا يستطيع
تخطيها، ومهما بلغ صاحبه من قوة العزيمة
والإصرار فسينهار لا محالة و(جابر الجزمجي) ليس سوى كائن بشري ضعيف لا يشذ عن تلك
القاعدة الأبدية، فسقط الرجل على الأرض أخيراً. سقط وهو يرفس بقدميه كحملٍ ذبيح.
سقط (الجزمجي) رغم قوة عزيمته وإصراره وصدق قلبه واتساع روحه. سقط على جحيم
الرمضاء المحرقة لتكوي صفحة وجهه وجسده. آلامٌ هائلةٌ لا طاقة له باحتمالها ولكنه
لم يكن يقوى على الصراخ. سلم جسده للقدير ولبث ينتظر النهاية. ومن عمق الفراغ هتف
هاتفٌ بصوتٍ عميقٍ مجلجل:
- (جابر) ...
يا (جابر).
حاول
الرجل أن يرفع بصره ليرى من بحضرته فلم يستطع، ظلت عيناه مغمضتين وَهَنَاً رغما
عنه وعاد الصوت يهتف باسمه منبِّهاً:
- (جابر) .. أيها الجزمجي الشجاع. هنيئاً لك
الفوز. تقدم لتنال جائزتك.
وكان
من المستحيل على الرجل في تلك اللحظة أن يقوى على تحريك جفنيه دعك من الوقوف والتقدم.
عاد الهاتف يخاطبه مكملاً:
- قل لنا ما تريد وسآتيك به قبل أن يرتد إليك
طرفك.!
وتمنى
الرجل لو أنه يستطيع النطق أو به قدرة على الكلام أو حتى الإشارة. إذاً لتمنَّى
على مخاطبه من كل كنوز الدنيا ماء، قطرةً واحدةً من السائل المقدس يبلل بها شفتيه،
ويطعم جوفه المحترق. وعاد الصوت يقول:
- نحن نعرف ما تريد. وحق علينا مكافأتك. اضرب
بعصاك الحجر يا (جابر).
فتح
الرجل عينيه بصعوبةٍ بالغةٍ وقد شحنه الأمل بقدرٍ من القوة ضئيل ولكن كان كافياً
ليرى الصخرة الضخمة ترقد أمامه على بعد خطواتٍ قليلة. ولم يكن يستطيع أن يستوي واقفاً
لذا أخذ يزحف كالأفعى نحو الصخرة المقصودة وهو يبذل جهد الجبابرة في الإمساك بعصاه
الصغيرة والمحافظة عليها. إنها حياته تلك العصاة، وإن أفلتها يفقد كل شيء. أخذ
الرجل يزحف متقدماً نحو الصخرة المعنية وهو يجرُّها إلى جانبه بصعوبةٍ فلقد أُنهكت
يداه حتى الشلل. وعلى الرغم من أن الصخرة الموعودة لم تكن تبعد عن مكان سقوطه إلا
بضع يارداتٍ إلا أن الوصول إليها استنفذ من الوقت أكثره ومن الألم أقساه.
رفع (جابر) العصا على قدر ما ارتضته قواه
الخائرة، كانت ثقيلة وكأنها تزن آلاف الأطنان ثم بيدٍ واهنةٍ ضعيفةٍ ضرب الصخرة المقدسة
لتتفجَّر بالمياه، عينٌ رقراقةٌ تأتلق على ضوء الشمس الباهر. ماءٌ حلوٌ شهيٌ
وعذبٌ. أدخل الرجل يديه الجافتين في الماء وهو يحمد الله في قلبه. كان عذباً
سلسبيلاً يرطب جلده المتيبس وينفذ من مسامه فيشحنه بالقدرة. ملأ الرجل كفيه
الواهنتين بسائل الحياة وهو لا زال مستلقٍ على بطنه ثم رفعهما نحو شفتيه وهما
تهتزان والماء ينسرب من بين أصابعه الواهنة. ومن عمق الفراغ عاد الهاتف يحذره
بصوتٍ عميقٍ مشحون:
- فمن شرب منه فليس مني.!
توقفت
يدا الرجل الكليلتان في منتصف المسافة إلى شفتيه. أحس (جابر) بالألم العميق يقطع
نياط قلبه والبؤس يسوِّد وجه الدنيا. كان الماء قد تسرب من بين أصابعه الواهنة
ليعود إلى مجراه. عاد (الجزمجي) يغترف مرةً أخرى ويداه تتجهان إلى فمه بلا أرادةٍ
وعاد الصوت يهتف وقد اكتسى بلهجة سلطويةٍ مخيفة:
- ليس مني .. ليس مني .. ليس مني.!
كان يعلم أنه الموت لا محالة ولكن لم يملك إلا
أن يطيع الهاتف الغامض. همس الرجل بالشهادتين كآخر ما يحدثه به قلبه ثم ترك الماء
ينسرب من بين أصابعه في هدوء واستلقى ينتظر مصيره.
من رواية (الرسالة إلى مؤمني توكتو) - مارس 2009 - أكتوبر 2011م الصفحات 63 - 65
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق