التسميات

الاثنين، 17 فبراير 2014

موت (خديجة) وانتحار الأنا المفرد


حينما حمل أحد المنشورات نبأ موت (خديجة)، اتشحت ْ ساحة (الفيس بوك) بالسواد، أخذ أصدقاؤها وصديقاتها يتبارون في نشر الخبر وهم يواسون بعضهم البعض ويذكرون محاسن الفقيدة ويدعون لها بالرحمة والمغفرة. قالوا أن موتها كان مفاجئا ً فلقد كانت تنعم بالحياة حتى الجمعة الماضية. ولم استطع إلا أن أتجاوب مع فيضان الحزن الذي طغى على ساحة المشاركات ، فنشرت ُ مشاركة اترحم فيها على الفقيدة تجاوب معها الكثيرون. الشاب الذي يحبها كان أكثرنا حزنا ً، فنشر عدة قصائد تفيض بالألم والشجن مما زاد في بؤسي وانقباضي وبدأت ُ أبحث عن وسيلة ٍ لتكذيب الخبر رغم تصديقي له. ولم يكن أمامي سوى (سميرة) فخاطبتها قائلا ً: 
-  هل تأكدتم من صحة الخبر؟؟ 
جرت بها أصابعي على الشاشة الباردة أمامي ثم ضغطت ُ على زر الإرسال بتشنج لأدفع بالعبارة على الخاص إلى (سميرة). أتاني الرد متوشحا ً بالسواد كما هو متخيل في مثل هذه الأحوال، يقول: 
-  نعم. لقد ماتت منذ أكثر من أسبوع. لاحظنا أن لا منشورات، لا تعليقات، لا إعجابات..! 
ارتسم ذلك الرد المتيقن على الشاشة أمامي مؤكدا ً موت الفتاة. ولكن شكي القديم دفعني لأتساءل مرة ً أخرى فضغطت على الزر لأقول: 
-  وهل هذا دليل ٌٌ كاف ٍ؟! 
-  وماذا تريد أكثر من ذلك؟! نعم. لقد ماتت (خديجة) ..! 
-  أقصد ........ 
دفعت بتلك الكلمة عبر الأثير إلى وجهتها دون أن أجد ما اكملها به. ليأتيني رد الفتاة يفيض باللوعة والشجن كما خيل لي قائلة ً: 
-  وهل ينتابك شك بعد كل ما قلت لك؟! فلنتحل َ بالإيمان ونتقبل الأمر. إنا لله وإنا إليه راجعون. ارجع إلى صفحتها وسترى أنها قد ماتت منذ أسبوع دون أن يلاحظ أحد ذلك. ارجع إلى منشوراتها وستلاحظ أنها كانت تنعم بالصحة والعافية ككل الأحياء. عشرون مشاركة في اليوم ومئات التعليقات والإعجابات، لم تكن تشكو من شيء. كان موتها فجائيا ... آهـ يا قلبي ..! 
قالتها الفتاة وهي تنخرط في البكاء كما هو متخيل. 
تركتها تمسح دموعها المفترضة وعدت اراجع المحادثة والتبلد يحيط بي من كل جانب. هل ما تقوله (سميرة) حقيقيا ً؟ هل ماتت (خديجة) حقا ً، هل سكان (الفيس بوك) يموتون؟ وكيف يحدث ذلك؟! ولماذا يبدو لي الأمر غير مفهوم؟! لماذا تحيطه الضبابية؟! وما الذي يدعوني لتصديق (سميرة) ومن معها من الأحياء؟! بل من هي (سميرة)، من تكون؟! هل هي (سميرة) حقا ً؟ وكيف السبيل للتحقق من ذلك؟! ربما كانت شيئا ً آخر، ربما هي (سعاد) أو (زينب) ربما كانت (أحمد) أو (جاد الرب)، بل ما الذي يمنع أن يكون من يتواصل معي على (الفيس) طوال هذه السنوات كائن ٌ من الفضاء الخارجي يسمي نفسه (سميرة) ..! 
  فجأة ً احسست الرعب يتملكني. فلقد تجلت أمامي المأساة في أبرز صورها، ما هذه الحياة التي نعيش؟! من أين جاءت وإلم َ تنتهي؟! ما هو أصلها؟ ومن يقف وراءها؟  لماذا تبدو ضبابية ومراوغة، لماذا تخلو من يقين؟! وما الذي يجبرني على تحمل هذا العبث الذي يسمى حياة؟! بل كيف تحملته طوال السنوات الماضية من عمري دون أن أصاب بالجنون؟! 
   ظلت هذه الأسئلة ومثيلاتها تضغط على عقلي طوال اليوم وأنا أصارع أمواج الشك تارة ً وتصرعني أمواج اليقين تارة ً أخرى. وفي المساء كنت قد اتخذت قراري الشجاع بعد دهر ٍ من الشك والألم والاحساس العظيم بالإثم. فعدت اجري أصابعي على لوحة المفاتيح لأخاطب (سميرة) بقولي: 
-  سأغادر (الفيس بوك)، سأذهب إلى غير رجعة..! 
وهتفت الفتاة والألم يخنق حروفها كما هو مفترض: 
-  حرام، حرام. الحياة نعمة ولا يجوز تبديدها، إنه الكفر ..! 
قرأت ردها دون تأثر ثم صففت حروفي على الشاشة الباردة قائلا ً: 
-  شكي يقتلني ..!
-  استغفر الله يا حبيبي. أين عهودنا؟ أين وعودنا؟ بل أين إيمانك. العن الشيطان، إنه عدونا منذ القدم ..! 
-  ليس للشيطان دخل في الأمر. لقد سئمت من الحياة وعذبني الشك لا أستطيع مواصلتها. ادعو لي بالرحمة. سنلتقي في العالم الآخر. وداعا ً ..! 
قلتها وأن اتحول نحو مربع حذف الحساب. وبضغطة على الماوس صعدت روحي إلى بارئها.  
 الخرطوم – فبراير 2014م.  

الخميس، 13 فبراير 2014

بين الزكاة والضرائب في دولة متعددة الأديان

والضرائب عرفها الانسان منذ القدم وعمل بها ولأسباب كثيرة ومعقدة اتخذت تلك الكلمة في ذهن شعوب الشرق الأوسط معنى كريها ً ومنفرا ً. فلقد كانت غالبا ً ما تؤخذ دون مقابل خدمي وتستعمل القوة الغاشمة في جبايتها. ونجد أن اليهود قديما ً يساوون بين الخطاة وجباة الضرائب فلا يخالطونهم أو يشاركونهم الطعام  بل إن السيد (المسيح) نفسه يعتبرهم في مصاف الخطاة. وحينما عاب عليه اليهود مخالطة الجباة ومشاركتهم الطعام رد عليهم (ليس الأصحاء هم المحتاجين إلى الطبيب بل المرضى، ما جئت لأدعو للتوبة أبرارا ً بل خاطئين). ومن أهم تلك الأسباب التي أدت لاكتساب كلمة الضرائب هذا المعنى الشائه والمنفر - في تقديري - هي أن من فرضها على شعوب تلك المنطقة هو الأجنبي الغاصب المحتل، حيث كانت الامبراطورية الرومانية تتمدد وتفرض على تلك  الشعوب ما تشاء من ضرائب ومكوس وأتاوات وغض النظر عن الحاجة لتلك الضرائب لتسيير شئون الإمبراطورية أو مدى عدالتها فإن ارتباطها بالآخر الأجنبي المحتل الغاصب في تلك العصور السحيقة ساهم بصورة كبيرة في تشويه الكلمة وارتباطها في العقل الجمعي بالإثم، خاصة أن إنسان تلك المنطقة أبعد ما يكون عن المدنية والتحضر ومفهوم الدولة. كما أن الكثير من العصابات والمتفلتين كانوا يفرضون الضرائب والأتاوات على الناس. وظل الحال على ما كان عليه حتى ظهور الاسلام في جزيرة العرب. فظهر لأول مرة مصطلح الزكاة كبديل للكلمة ولكنه يقوم بذات وظيفتها كما ينحى هذا المقال ويكون الإسلام بذلك قد رد َّ للضرائب مكانتها المهمة في إقامة الدولة وتسيير شئونها ورعايتها لمصالح المواطنين وأبعد المصطلح عن التشويه الذي شابه على مر العصور، خاصة بعد أن سماه زكاة مبتعدا ً به عن تلك الكلمة المنفرة لغويا ً وما تبعها من دلالات ورثتها من العصور الغابرة وأفرغ داخله معان ٍ ودلالات لغوية وروحية سامية مجترحا ً إياها من ذات القاموس السائد في تلك الفترة.
وفي عصوره الأولى لم يعرف المجتمع المسلم هذا التناقض الذي نعيشه اليوم في الجمع بين إخراج الزكاة بمفهوم ديني ملزم لكل مسلم وبين سداد الضرائب للدولة بحكم القانون وماينتج عن ذاك الجمع من تساؤلات شرعية وقانونية إذ لم يكونوا يعرفون غير الزكاة كفريضة دينية واجبة الأداء للدولة وتمثل أحد أركان الإسلام الذي لا يتم إيمان المسلم إلا به، فكانوا يؤدونها تحت هذا المفهوم دون أي تساؤلات مثلها مثل الصلاة والصوم إلخ أركان الاسلام الخمس. وباعتماد تشريع الضرائب بواسطة الدولة في فترة تاريخية لاحقة وتطبيقه جبرا ً على جمهور المسلمين برز التناقض وانبرت التساؤلات حتى يومنا هذا وأهمها: ( هل يجزيء سداد الضرائب للدولة عن إخراج الزكاة؟). 

وضع ٌ غير عادل : 

  والضرائب المقصودة في مقالنا هذا هي الضرائب بمعناها الحديث المعمول به في عصرنا هذا والتي أصبح وجودها واقعا ً في حياة المسلمين لا سبيل لإنكاره، فالمكوس والأتاوات وما يفرضه الحاكم على الناس من ضرائب في الظروف الخاصة مثل الحرب والجدب والجفاف وغيرها مما كان شائعا ً قديما ً وما ورد حولها من فتاوي من علماء تلك العصور لا يخدم موضوعنا كثيرا ً للإختلاف الكبير بينهما في ثبات المقدار الآن ودوريته وتحديده بصورة دقيقة وعلاقته بوضع الفرد ومستوى دخله إلخ شروط فرض الضريبة كما أن أوجه صرف مال الضرائب أضحى محددا ً ومعلوما. ورغم ذلك نجد أن علماءنا المعاصرين يستشهدون بتلك الفتاوي القديمة لمقاربة واقعنا الحاضر ويقيسون عليها فتاويهم مع أن الفارق بين ضرائب الأمس وضرائب اليوم جد كبير. ويخرجون بذات النتيجة القديمة وهي أن الزكاة والضرائب شيئان مختلفان تمام الاختلاف وينتج عن ذلك أن سداد الضرائب لا يجزيء وعلى المسلم إخراج زكاة ماله وإلا .....!
هذا ما سارت عليه فتاوى جمهور العلماء. والواقع العملي لجمهور المسلمين يضعهم في حرج ٍ عظيم خاصة ً طبقة التجار إذ أن التجارة هي وظيفتهم الأساسية ومصدر كسبهم ومعاشهم وأي اختلال يحدث في معادلة الربح يمتد تأثيره على الوظيفة نفسها ومدى جدوى ممارستها فما يدفعونه من مبالغ مالية مضاعفة من زكاة وضرائب مقارنة برصفائهم غير المسلمين يجعل ميزان السوق وقواه الاقتصادية يميل ترجيحا ً ناحية غير المسلمين مما يفتح الباب أمام التاجر المسلم للكثير من الشرور وليس غريبا ً أن يشتهر التجار غير المسلمين بالأمانة والصدق وجودة البضاعة ورخص ثمنها على عكس التجار المسلمين في ذات السوق وهذا يجعل الإقبال على بضائعهم جد كبير فيسوء وضع التاجر المسلم مما يلاقيه من ربح ٍ شحيح يضاف إليه الكساد الناتج عن سوء السمعة. وعلماؤنا الأجلاء - غفر الله لهم - حين يفتون يتناسون الواقع تماما ً ولا يمنحونه ما يستحق من دراسة هذا إن رأوه أساسا ً فهم لا ينظرون إلا لما بين أيديهم من كتب ونصوص يقرأونها ويطبقونها بحرفية يحسدون عليها ويغمضون أعينهم عن ضرورة الواقع وحراكه ومقاصد التشريع.

 علمت أن بعض فسقة التجار:

  وفي القديم كانوا يتشددون جدا ً في التشنيع على من يقول أن الضرائب أو المكوس تجزيء عن الزكاة ويبدو أن علماء المسلمين أنفسهم لم يسلموا من التأثير الموروث لكلمة ضرائب التي سادت في عصور ما قبل الاسلام وارتباطها بالخبث والظلم. وترد الكثير من الأخبار الطريفة في ذلك مثل قول أحد العلماء: (علمت أن بعض الفسقة من التجار يدفعون المكس بنية الزكاة ..... إلخ). وفي نهاية هذا التوبيخ يفتيء مولانا بأن هذا لا يجزيه وعلى ذلك التاجر الخبيث أن يخرج زكاة ماله ليتطهر وينمو وإلا ....!
وكما نرى فلقد لجأ مولانا هذا إلى الحل السهل وهو التشنيع على أولئك التجار ووصفهم بالفسق وأن الشيطان هو من زين لهم سوء عملهم هذا ليضلهم عن الطريق القويم ولو كان مولانا منصفا ً لتساءل أولا ً ما الذي دفع أولئك التجار لمثل هذا السلوك الذي يراه مشينا ً ولا يتسق مع الإسلام الحق كما يلوح له. ولو منح نفسه بعض الوقت ليخرج من صومعته ليعيش بين الناس ويتجول في السوق ويبحث أوضاع التجار المسلمين لما وصفهم بالفاسقين فليس للشيطان يد ٌ في الأمر، بل هو الواقع قد أمضى حكمه. والغريب في مثل هذه الفتاوي أنها تتجاهل أس المشكلة وهي فرض ضرائب غير الزكاة بواسطة الحاكم. فكما ترى فإن كلمة فاسق هذه كان أحق بها من فرض ذاك المكس على التجار فجعل ميزان القوى يختل ولكن علماء الإسلام يبررون تناقضهم هذا مستشهدين بقوله صلى الله عليه وسلم: (فلتسمع وتطع لو جلد ظهرك وأخذ مالك). بمعنى أن تدفع الضرائب تحت هذا التبرير غض النظر عن عدالتها واتساقها مع صحيح الدين بل يختم بعض العلماء المعاصرين الفتوى بقولهم: (ويجب أن لا تتخذ مثل هذه الأمور وسيلة للقدح في ولاة الأمور وسبهم في المجالس أو شيء من ذلك ولنصبر وما لا ندركه في الدنيا ندركه في الاخرة). 

في وجه من قالوا نعم :

   رغم ذلك نجد بعض علماء الإسلام في القديم افتوا بأن دفع الضرائب بنية الزكاة يجزيء عن إخراج الزكاة بل على المسلم أن يجري عملية حسابية ليقارن بين زكاته المستحقة وما سدده للحاكم من ضرائب فإن تعادلا فلله الحمد وإلا عليه إكمال الفرق ولكنها كانت أصواتا ً خافتة مستحية وفتاوى لا تصمد أمام الرأي الآخر الذي يقول بأن سداد الضرائب لا يجزيء عن إخراج الزكاة بل لا تصمد حين مراجعتها لاحقا ً بواسطة المفتي نفسه إذ نجد (ابن تيمية) في الفتاوي الكبرى لا يجيز ذلك مع أن له فتوى أخرى تجيزه والسبب في تقديري هو التسليم بمقولة أن الزكاة والضرائب شيئان مختلفان وأن الأولى مقدسة والثانية دنسة لذا يكون الرأي الأول هو الأكثر اتساقا ً مع هذا التفريق فما دام أن لا علاقة بين الاثنين بل إن إحداهما طاهرة والثانية خبيثة فكيف يجزيء الخبيث عن الطيب ؟! 

الإسلاميون واخراج الزكاة جبرا ً:

   ويبرز هذا التناقض وانعدام العدالة بصورة أوضح في الدول التي يسيطر على حكمها الإسلاميون إذ أن الشكلية التي تميز منهج الاسلاميين بصورة عامة قضت أن تجد ديوان الزكاة تشمخ بناياته وفارهاته وأمينه العام والعاملين عليه جنبا ً إلى جنب مع ديوان الضرائب وفارهاته ومديره العام وموظفيه. ولا يحتاج الأمر إلى كبير ذكاء لنكتشف أن هذا التباين بين المسميين شكلي فقط فمن يسمى بـ(الأخ/ الأمين العام) في ديوان الزكاة هو (سعادة/ المدير العام) في ديوان الضرائب وأن (الإخوة العاملين عليها) في الزكاة يسمون بـ(السادة الموظفين) في ديوان الضرائب وكلهم إخواننا في الله والبنايات الشامخة هي البنايات والفارهات هي الفارهات بذات ماركاتها وموديلاتها المستوردة من وراء البحار. وكلا النظامين يأخذ ما يليه من حق جبرا ً فيضطر المسلم للدفع مرتين الأولى لديوان الزكاة (بنية الطهارة والنماء) والثانية لديوان الضرائب (ربما بنية النجاسة والنقصان – لا أدري). بينما يدفع رصفاؤهم المسيحيين مثلا تجارا ً أو غيرهم ضرائبهم فقط.

الزكاة هي المصطلح الإسلامي لكلمة الضرائب يا سادة :

  ولنرى مدى صحة فرضيتنا هذه يجب مناقشة ما يقول به السادة العلماء من أسباب ويتخذونه حججا ً للتفريق بين النظامين لينتج ذاك الواقع غير العادل للمسلم في دولة متعددة الديانات. وهذه الأسباب تنحصر حسب قولهم في المقدار المخصوص (عشر، نصف عشر، ربع عشر)، والنية المخصوصة (القربى إلى الله) والمصرف المخصوص (الأصناف الثمانية) في الزكاة التي فرضها الخالق جلا وعلا فهي شعيرة تعبدية وتطهير للمال وتزكية له وتخرج من جنسه إضافة ً إلى شروط خاصة كالنصاب وحولان الحول، بينما الضرائب التزام مدني خال من العبودية والقربى إلى الله ولا يتحقق فيه ما سبق ذكره. 
   ونلاحظ أن جل ما ذكر من الفروق غير ذي خطر إذ تعتمد على كلام مرسل والكثير من الإنشاء باستثناء المقدار المخصوص والمصارف. وينتج عن ذلك ثلاثة أسئلة مهمة إن جاز الاجابة عليها بنعم سقطت تلك الفوارق المدعاة ووجدنا أن الزكاة والضرائب هما مسميان لمعنى واحد وبالتالي تتحقق العبودية والقربى من الله والتطهير والنماء في سداد الضرائب أيضا ً، والنية أمر ُ ذاتي يختص بها الفرد وليس هنالك ما يمنعه من أن ينوي ما يشاء من خير والله أعلم بما تخفي الصدور حتى ولو لم يلهج لسان المرء بتلك النية. والأسئلة هي:
1/ هل يجوز إضافة مصارف أخرى للزكاة غير الثمانية الذين حددتهم الآية الكريمة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)؟!
2/ هل يجوز أداء الزكاة من غير جنس المال. بمعنى بدل أن تخرج أربعة شياه مثلا ً تخرج ثمنها؟ وماذا لو اشتريت تلك الشياه الأربعة التي زكيتها حين يعرضها ديوان الزكاة للبيع في السوق؟ هل يجوز ذلك، أم أكون آثما ً؟!
3/  هل يجوز زيادة ذلك المقدار المخصوص عشر، ونصف عشر، وربع عشر إن دعت حاجة المجتمع الاسلامي لذلك؟!

وقبل أن نجيب عن تلك الأسئلة بنعم ونورد أسباب ذلك فلنقف بين يدي أحد عظماء المجتهدين والذي لا زالت وستظل أخباره ومواقفه التي تنبع من فهم عميق لروح الاسلام هاديا ً ونبراسا ً وبوصلة نحو العدل والقسط في وجه الشكليين والحرفيين من علمائنا المتأخرين.

لقد انقطع سهمهم بعزة الاسلام :

  إنها قولته كما ورد في التاريخ وهذا ليس بغريب عن (الفاروق) رضي الله عنه فالكثير من مثل هذا الفهم المتقدم والمستنير كان ديدنه في الكثير من المواضع فلقد منع رضي الله المؤلفة قلوبهم سهمهم في الزكاة المنصوص عليه في الآية المتقدمة فهو يرى أن الله أغنى دين الاسلام بكثرة اتباعه فلا مصلحة للإسلام في دفع أموال لتأليف من لم يتمكن الاسلام في قلوبهم. ولم يرد أن هنالك من أنكر عليه ذلك مما يشكل إجماعا ً. وبه قال من المتأخرين (الشعبي) و(الحسن) و(مالك) و(أبو حنيفة). ولا يعنينا في هذا المقال ما ثار من جدل لاحق بين العلماء هل سقط ذاك السهم أم لا زال باقيا ً ويمكن العمل به إذا دعت الحاجة، فكلا الاجابتين لا تتناقض وما نسعى إليه.

فما دلالة هذا المنع :

   دلالته أن الزكاة ليست فريضة طقوسية غيبية حتى تطبق الآية بحرفيتها بل هي تشريع قانوني من الله عز وجل يراعي المصالح وحاجات المجتمع المسلم حال زمانه وما يطرأ عليه من تغيير في حراكه الدائم المتفاعل بما حوله وأن الأصناف الثمانية التي وردت في الآية هي النموذج الكامل في ذلك المجتمع لحظة تشريع الحكم ويجوز مراجعتها إن تغيرت الظروف. وهذا ما يختلف عن الطقوسية فالمتصوفة مثلا ًحين يقولون أن ترديد اسم الله تعالى اللطيف 316 مرة مثلا ًينتج عنه كذا وكذا فهذه عبادة طقوسية فالعدد 316 مطلوب لذاته ولن تحصد النتائج ما لم تلتزم به حتى ولو رددته ملايين المرات.
  ولفهم ذلك بصورة أكثر وضوحا ً لنستحضر مجتمع المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم وستجد أن هذه الأصناف الثمانية شاملة كل مسئولية الدولة في ذلك الواقع الحياتي البسيط بل إن الآية الكريمة لم تغفل حتى ما استحدث من وظيفة جديدة لم تكن معروفة عند العرب وهي العاملين عليها بل إنها في سبيل مصلحة المجتمع المسلم ودولته الناشئة فرضت سهم المؤلفة قلوبهم. بمعنى أن هذه الأصناف الثمانية هي كل ما يمكن أن يواجه الراعي لتسيير شئون رعيته أو دولته ولتقدح ذهنك ما شاء الله لك ولن تجد سوى هذه المصارف الثمانية. لن تجد مدارس أو جامعات أو سفلتة طرق ولا إنشاء مطارات ولا مستشفيات متخصصة ولا ضحايا كوارث طبيعية ولا ملاجيء أطفال ولا تأمين صحي و لا .. إلخ. ببساطة لأنها لم تكن معروفة ولا حاجة لها وليس لأنها خارج واجبات الخليفة أو أن الله تعالى يراها أقل شأنا ً من الأصناف الثمانية المذكورة فحرم مال الزكاة عليها. وبالتالي تسقط حجج عبدة النصوص الذين يزعمون أن هذه الأصناف الثمانية مخصوصة لذاتها مقتربين بها من الطقوسية وأن الحياد عنها إثم، فما دام أنه من الممكن منع أحدهم كما فعل (الفاروق) فالأولى إضافة آخرين وإذا سلمنا بهذا فلا حدود لهذه الإضافة وليس هنالك ما يمنع أن تمتد تلك الإضافة لتشمل كل بنود المنصرفات في الميزانية العامة للدولة الحديثة. 
وحيث أن ذلك كذلك تكون إجابات الاسئلة الثلاثة جميعها بنعم ويسقط تبعا ً لذلك ما يدعيه الحرفيون من فوارق، فالزكاة والضرائب مسميان لتشريع واحد ينتج عنه حقوق مالية دورية يجب أن تدفع للدولة ولا يمكن الجمع بينهما. وبعبارة أخرى فإن الزكاة هي الصورة الأولية لضرائب اليوم في مجتمع ٍ بسيط وضرائب اليوم هي نفسها الزكاة بعد أن تم استيعاب ما انتجه الواقع داخلها.

علبة ٌ من الدهان وخطاط ٌ بارع :

   وهذا كل ما نحتاجه – في تقديري - للخروج من تناقضنا هذا، خطاط بارع يبدل كل اللافتات المرفوعة تحت اسم ديوان الضرائب أو مصلحة الضرائب في بلادنا إلى ديوان الزكاة.
الخرطوم فبراير 2014م