التسميات

الأحد، 22 سبتمبر 2013

الغـرفــة الخلفـيــة

رجـل ٌ يحبـو نحـو َ الخمسـين ْ،
يتلفـع ُ شالا ً أبيـض َ فـي يـوم ٍ كـان ْ
يبـدو فـي ضـوء ِ الغسـق ِ الآن ْ،
كنثـار ِ رمـاد ٍ فرشتـه ُ أيـدي الأحـزان ْ..!
رجـل ٌ يحبـو نحـو َ الخمسـين ْ،
بهيئتـه ِ الناحلـة ِ وساقيـه ِ المتعبتيـن ْ،
يجلـس ُ قـرب َ النـافـذة ِ المفتـوحـة ْ
يـراقـب ُ أشبـاح َ الجيـران ِ وهـم يمشـون ْ،
بنشـاط ٍ نحـو نهـايات ِ الدرب ِ المقروحـة ْ
فيضحـك ُ ملء َ البـؤس ِ لـدوران ِ الأرجـوحة ْ..!
يا ابـن َ الإنسـان ْ،
مـا أقسـى هـذيان ُ الأزمـان ْ،
وتعـاقب ُ صبـح ِ الأمـل ِ وليـل ِ الأحـزان ْ
ذاك َ المجهـول ُ ، الطوفـان ْ..!
رجـل ٌ يحبـو نحـو َ الخمسـين ْ،
يتنسـم ُ رائحـة َ الطيـن ِ العطـِنـَة ْ
وميـاه ٍ نتـنـة ْ،
تـدلقـُها فـي وسط ِ الشـارع ِ جـارتـُه ُ الثرثارة ْ
تارات ٍ يـرنو أو يسعـل ُ تـارة ْ
ويمـد ُّ النظـر َ الواهـن َ في جنبـات ِ الحـارة ْ
أطفـال ُ الحـارة ِ يمشـون ْ
يـراهم فـي جلسته ِ العـاجـزة ِ ، على فرح ٍ، يعــْدون ْ
فـي ذات ِ الدرب ِ الملعـون ْ..!
رجـل ٌ يحبـو نحـو َ الخمسـين ْ ،
داخـل عينيـه ِ سكنت ْ آلاف ُ الأحلام ِ الميـْـتـَة ِ
آلاف ُ الأطيـاف ِ الزرق ْ
ومشاهـد ُ مسـرعة ٌ تتـرى
آلاف ُ الخيبـات ِ وآلاف ُ شمـوع ٍ سكـرى
انطفـأت ْ، شاخـت ْ
فـي دورتها الصغـرى ..!
رجـل ٌ يحبـو نحـو َ الخمسـين ْ،
الليـلة ُ لاهـبـة ٌ ، سحـريـة ْ
فـي الغـرفة ِ رسـم ُ امـرأة ٍ ورديـة ْ
أنثـى كاملـة ٌ مـن فيـض ِ النـور ْ
أنثـى بـريـِّة ْ
رائحـة ُ الأنغـام ِ الحلـوة ِ والنسـم ُ الخمـرية ْ
تتـأرجـح ُ فـي مـوج ِ الأنفـاس ْ
يـسقيـها غنـج ُ العمـر ِ ودفـق ُ الإحسـاس ْ
نامـت ْ متـوسدة ً أحـلام َ الـروح ِ ، مخـاض َ القلـب ِ
وشبـق َ العمـر ِ وبعض َ لذيذ ِ الوسـواسْ ..!
مـا أقـسى أحـزان ُ الشمعـة ْ ..!
مـا أغلـى هاتيـك َ الدمعـة ْ..! 
فـي عينيـها دفء ُ الحلـم ِ الوردي
فـي ساقيها يلهـو طفـل ٌ خمـري
والرجـل ُ الصخـري ،
يقـدح ُ كـي يشعـل َ عقـب َ سيجـارتـِه ِ
فيئـن ُ شـراع ُ العمـر ِ وينطفـيء ُ المصبـاح ْ..!
تتمطـى فـي كسـل ٍ هـرَّة ْ ،
تتلمـَّظ ُ، وتمـوء ُ تمـوء ُ عـلى وجـع ٍ ريـَّان ْ
وتطـوِّق ُ ساقـي الرجـل ِ المحـزون ْ
بحثـا ً عـن قبـس ٍ فـي هـذا البـرد ِ المجنـون ْ..!
رجـل ٌ يحبـو نحـو َ الخمسـين ْ،
امـرأة ٌ تثـب ُ إلـى العشـرين ِ كفهد ٍ مهتـاج ْ
عصـفور ٌ يـرنـو نحـو َ العـش ِ بباطيتين ْ
كتكـوت ٌ ينظـر ُ نحـو الأفـق ِ بعينيـه ِ اللامعتيـن ْ
ويسكسك ُ يحلـم ُ فـي غفـوته ِ بالريش ِ الدافـيء ْ ..!
لـن يصلـح َ عطـَّار ُ العمـر ْ،
مـا أفسـد َ دوران ُ الدهـر ْ
والرجـل ُ المدلـوق ُ كحبـات ِ الرمـل ْ،
يتلفـع ُ شـال َ السنـوات ِ، ينـاجـي مـن رحلـوا
يبتسـم ُ لخـاطرة ٍ تبـدو
أو يقطـب ُ أحيـانا ً لجـراح ٍ تنـبوء
ويمسـَّد ُ بأصـابعه ِ اليابسـة ِ الهشـَّة ْ،
جبيـن السنـوات المتغضـن ..!
يا ابـن َ الإنسـان ْ،
مـا أقسـى دوران ُ الأزمـان ْ
وتعـاقب ُ صبح ِ الأمـل ِ وليـل ِ الأحـزان ْ
ذاك المجهـول ُ ،الطوفـان ْ..!
سامـرت ُ كثيـرا ً مـوج َ البحـر ِ وداعبـت ُ الأفلاك ْ
ناجيـت ُ ورود َ الحقـل ِ وجنيـات ِ النهـر ِ وخاصرت ُ الأسمـاك ْ
راقصت ُ طيـور َ الروض ِ، نصبـت ُ الأشراك ْ
اشعلت ُ بنيـران ِ الحـرف ِ اللحـظ َ الفتــَّاك ْ
وهأنذا أمـوت ُ وقلبي يخفـق ُ بالبـرد ْ
فـوق َ فراشـي البـارد ِ أتمدد ُ، أمتـد ّْ ..!
تأخـرت ِ كثيـرا ً يـا سيـدتي ،
وآخـر ُ البضـاعـة ْ،
تكـون ُ نصيـب َ البنـت ِ الطمـَّاعة ْ
هـذا قلـبي فخـذي منها مـا شئـت ْ..!
لـن تجـدي فـي كيـس ِ العمـر ِ سـوى بعـض ِ الأصـداف ْ
ومرارات ٍ لا حـد َّ لها
أحـزان ٍ بعـدد ِ الرمـل ْ
خيبـات ٍ تثقـل ُ كاهلـك ِ الغـض ْ
ورود ٍ ذابلـة ٍ ، أحـلام ٍ ميتـة ٍ وخفـوت ِ النبـض ْ
وجـروح ٍ لا زالت ْ تنـزف ُ يأسـا ً 
وبعـض ِ سهـام ٍ وخنـاجر َ صـدئة ْ
فخـذي منـها مـا شئـت ْ
نقـِّي مـا شـئـت ْ
فهـذا قسمـي ، هـذا مـا أملك ْ
فلا تلومينـي - يا سيـدتي - فـي ما لا أملك ْ..!
مـن علـَّم َ أحـزان َ العمـر ْ
أن تبسـم َ هازئـة ً إن جـاء َ الفجـر ْ ؟!
أن تسخـر َ مـن نـور ِ البـدر ْ ؟!
مـن علـَّم َ روحـي أن تـُلـْجـَم ْ
وأصيـل َ الخيـل ِ بأن يحجـِم ْ
مـن علـَّم فارسـَه ُ أن يتلجلج َ إن بان َ النـور ْ ؟!
مـن علمـَّه ُ أن يقبـع َ فـي الديجـور ْ ؟!
دوران ُ الفلك ِ، مـرور ُ الأيـام ْ،
يطفـيء ُ نـور َ العمـر ِ ويبلـي وجـه َ الأحـلام ْ
والعاقـل ُ مـن يمـلأ ُ رئتيـه ِ مـن عبـق ِ الأنسـام ْ
قبـل َ هبـوب ِ الريـح ِ وعصـف ِ الآلام ْ..!
شبـَّان ُ الحـارة ِ يمشـون ْ
يراهـُم فـي جلسته ِ العـاجزة ِ، عـلى عجـل ٍ، يعــْدون
فـي ذات ِ الدرب ِ الملعـون ْ..!
يا ابـن َ الإنسـان ْ،
مـا أقسـى دوران ُ الأزمـان ْ
وتعـاقب ُ صبح ِ الأمـل ِ وليـل ِ الأحـزان ْ
ذاك المجهـول ُ ، الطوفـان ْ..!
الخرطوم - سبتمبر 2013م

الأحد، 1 سبتمبر 2013

المطمـورة 1

3

- سالق ؟؟
تساءل (الزبير) في توتر وهو يلقي بنظرةٍ محذرةٍ نحو صديقه. مد (صالح) يده إلى وسطه يتحسس الخنجر مطمئنا ً بينما انحنى (حسام) يعالج رباط حذائه وعيناه ترصدان الرجال الذين يتبعونهم في إصرار ٍ مرعب. اعتدل قائما ً وهو يخاطب صديقيه قائلاً:
 -  سبعه، اتنين منهم طلاب مرشدين ومعاهم عربيه واقفه في نهاية الشارع.
 -  ما في داعي نصطدم بيهم، حاولوا اتصرفوا.
خاطبهما (الزبير) بصوت ٍ حاول أن يخرجه هادئا ً ففشل ليتوقف (صالح) في منتصف الإسفلت فجأة ً ويخاطبه باستنكار:
 -  نهرب يعني؟!
 -  ده ما اسمه هروب يا (صالح)، أنحنا ما عندنا عداء شخصي مع حد بعينه.
رد (حسام) بلهجة ٍ حادة ٍ على الرغم منه، وواصل (الزبير) مضيفا ً:
 -  الرجاله يا (صالح) بتاعة البلد، ده ما مكانها. وما تنسى أنحنا ضد العنف وبنحلم بالحق والخير والجمال لكل الناس حتى الماشين ورانا ديل.
 -  طيب فائدة السليقه شنو؟ ليه بنسلق؟!
تساءل الشاب وهو يثقبهما بنظراته وكأنه يتحدى منطقهما.
 -  بنسلق عشان ما نتمسك، عشان نقدر نزوغ.
رد (الزبير) وعلى محياه ظل ابتسامة ٍ باهتة، ثم أضاف وهو يضغط على نظارته الطبية بإصبعه:
 -  ولا بأس من خرشه خرشتين كده، لمه الزول ينزنق.
 -  طيب اتصرفوا انتو أول وخلوني أنا في النهايه.
خاطبهما وهو يضم مقبض خنجره بقوة.
 -  لا، أبدا ً.
رد (الزبير) في حدة. ثم واصل وهو يحيطه بنظراته:
 -  (حسام) يتصرف أول ويطلع بالشنطه.
 -  لكن كيف؟!
تساءل (حسام) وعيناه تطوفان بالشارع البارد في حيرة. الإسفلت الأسود يتوسطه كثعبان ٍ هائل ٍ والمصابيح الكهربية قد أحالت الليل إلى ساحة ٍ مكشوفة بينما الرجال السبعة يدبّون خلفهم في إصرار ٍ مثابر ومقابض مسدساتهم تلمع تارة ً فتارة.
 -  وجدتها، وجدتها.!
هتف (الزبير) بصوت ٍ مهموسٍ ثم واصل حديثه وعيناه تحيطان بعربات التاكسي التي توقفت في نهاية الشارع:
 -  (صالح)، أحسب لي العربات دي كم؟
 -  سبعه، لكن ليه؟
 -  حنؤجر تاكسي.
 -  حيلحقونا بالعربيه!.
علق (حسام) بصوتٍ حزين. ليرد (الزبير) في ثقة:
 -  ما حيقدروا.
قالها وهو يتقدم صديقيه نحو موقف التاكسي بخطوات ٍ هادئةٍ بينما توجه أحدُ الرجال السبعة نحو سيارة "لاندكروزر" فضية اللون، أدار محركها متجها ً نحو زملائه. وما أن تحرك التاكسي حتى انطلق الرجال السبعة خلفه على ظهر السيارة القوية ثم برز الأصدقاء الثلاثة من تحت عربات التاكسي وهم يقهقهون، ثوان ٍ وأطلقوا سيقانهم للريح.
 -  فكره مدهشه، إنك تؤجر تاكسي وما تركب فيه.!
 -  سواق التاكسي ما حيكون فاهم أي شيء.
 -  إنت قلت ليهو شنو؟
تساءل (صالح) وهو يخبط على ظهر صديقه بإعجاب ليرد (الزبير) بعد أن ضغط على نظارته الطبية التي أوشكت على السقوط بإصبعه:
 -  قلت ليه، رأيك شنو تشم هوا على حسابنا؟ والأجره مدفوعه مقدما ً، الراجل ضحك كتير لدرجة إني اتخيلته فاهم اللعبه كويس!
 -  أكيد زميل حزب.
 -  بكره نوزع المنشور وأهميتنا عندهم حتنتهي.
قالها (الزبير) وهو يلقي بالحقيبة السوداء على السرير ويعود ليغلق باب الغرفة بإحكام.
 -  وين (حسين)؟
 -  أكيد مع (أمَّوله)..!
 -  يا بخته!
قالها (الزبير) وهو يضغط على نظارته الطبية بلا داعٍ.
 -  فعلاً، (حسين) هو الوحيد فينا الما إتشوَّه، الوحيد العايش حياتو الطبيعيه، الدراسة والحبيبه والحلم بوظيفه محترمه.
قالها (صالح) في هدوءٍ واثق ثم اتجه نحو صديقيه قائلاً:
 -  رأيكم شنو أسمِّعكم قصيدتي الجديده؟
وقبل أن يرد عليه أيٌ منهما كانت الطرقات الراقصة على باب الغرفة تبشر بوصوله. أسرع (الزبير) يفتح الباب ليندفع الشاب إلى الداخل صائحا ً:
 -  ساعه وأنا بدق في الباب، بتعملوا في شنو؟ دايرين تقلبوا الحكومه؟!
قالها وهو يطلق ضحكته الرنانة ثم يدير نظراته داخل الغرفة وكأنه يبحث عن شيءٍ ما، ثم اتجه نحو (حسام) ليخاطبه بقوله:
 -  يا مناضل، مفروض حزبكم يشوف لينا حل للموضوع ده، لازم تحلِّوهو بأي طريقه، تفاوض، اعتصامات، مظاهرات، اغتيالات، المهم لازم تحلِّوه.
 -  موضوع إيه؟!
تساءل (حسام) وهو يحيطه بابتسامته الودود، ليعود (حسين) موضحا ً:
 -  موضوع الـ"ليت بيرمشن"، ما ممكن يكون الساعه تسعه، تسعه دي بدري خالص، شهر، تلاتين مساء، وأنا بحاول أحكي لـ(أمَّوله) قصة حياتي، داير أحكي ليها عن طفولتي السعيده في (عطبرة) وصبايا الباكر في (شندي) وقبل ما أبدأ،(أمَّوله) تعاين للساعه وبعد داك تعاين لي وتعتذر وترجع الداخلية.
وانفجر الثلاثة ضاحكين و(حسين) يواصل ثورته:
 -  وين حقوق المرأه، وين حقوق العشاق؟!
 -  حتنالوها في الديمقراطيه.
 -  ولي متين؟ أحلى سنوات العمر حتضيع، والزمن داك أنا و(أمَّوله) حنكون في المعاش.
قالها ونظراته تسكن على الحقيبة السوداء التي تتوسط الفراش ثم يعود قائلا ً وقد هدأ صوته وسكنت حركته فجأة ً:
 -  ده شنو؟!
 -  منشورات.
رد (الزبير) في هدوء ثم واصل حديثه وهو يحدجه بنظرةٍ ثاقبة:
 -  رأيك شنو، تطلع عليها؟
 -  لا، أبدا ً. أنا ما لي علاقه بالحاجات دي، بلاش سياسه ووجع دماغ.
رد الشاب بسرعةٍ ثم استدار يبدل ثيابه ليخاطبه (حسام) بقوله:
 -  صدقني ما حتقدر تحكي لـ(أمَّوله) عن طفولتك السعيده وصباك اللاهث ما لم تؤمن الناس كلها بأهمية الحب وشرعيته. ما لم تترفع الوصايه عن المرأه، وده ما بيحصل إلا بالطريقه دي ..............!
قالها وهو يشير نحو الحقيبة السوداء في ثقةٍ ثم يكمل عبارته بصوت ٍ عميق:
 -  النضال من أجل الديمقراطيه.
 -  والمنشورات دي وصلت لغرفتنا كيف؟!
تساءل الشاب متجاوزا ً تعليق (حسام) وقد نضح صوته بالكثير من الاهتمام.
أخذ الأصدقاء يقصون عليه مغامرتهم في عبارات مشوقة بعد أن أضافوا إليها الكثير من الخيال كالرصاص الذي أخذ ينهمر على رؤوسهم كالمطر كما ادعى (الزبير) و"قائد الكتيبة" الذي كان يخاطبهم عبر مكبر الصوت يطلب منهم الاستسلام كما قال (حسام). كان (حسين) يتتبع كل ذلك مبهورا ً ثم أطلق ضحكته الرنانة وهو يخاطب (الزبير) متسائلا ً:
 -  وأجرة التاكسي، دفعتها من وين؟!
 -  قروش الميس.
 -  قروش الميس؟؟!!
هتف الثلاثة بصوتٍ واحد و(الزبير) يضغط على نظارته الطبية في توترٍ بينما (حسين) يواصل التحقيق في جديِّة:
 -  وليه ما رجعت للجمعيه العموميه؟!
 -  كان معاي اتنين من أعضائها البالغ ثلاثة.
 -  استشرتهم؟ أخدت رأيهم؟
 -  لا، أبدا ً. لكن ضمنيا ً كانوا موافقين.
 -  إجماع سكوتي يعني؟!
 -  بالضبط.
أخذ الشاب يدير نظراته في ما حوله ثم يعود مخاطبا ً (الزبير) بقوله:
 -  في قاعده قانونيه بتقول: "لا يُنسب لساكت ٍ قول".
 -  ما سمعت بيها لأني بدرس فلسفه.
 -  الجهل بالقانون ليس عذرا ً.
قالها (حسين) بصوت ٍ عميق بينما الآخرون يتفحصونه في فضول. بدا حينها بجسده الضخم ونظراته العميقة النافذة وصوته الهادئ الوقور وسمته الجاد وكأنه أحد قضاة المحكمة العليا. ابتسم (صالح) وهو يشيح بنظراته بعيدا ً عن المنضدة التي احتلها (حسين) بهيئته تلك بينما كان (الزبير) يرقب الكراسة البيضاء التي انهمك (حسين) في تسويدها بتوتر.
 -  وجدتك مذنبا ً. استقيل عن رئاسة الغرفه أو تُقال.
قالها (حسين) وهو يجري يده بالتوقيع على المحضر ثم يهب فجأة ً ويلقي خلفه كل ذلك الوقار المصطنع ليسرع إلى صحن الألمونيوم الوحيد موقعا ً اللحن عليه وهو يردد في طفولية:
 -  استقيل يا ثقيل ... استقيل يا ثقيل!
أسرع الآخران ينضمان إليه ليحيط الثلاثة بالشاب متظاهرين:
 -  استقيل يا ثقيل ...
     لن ننقاد ... للفساد ..!
أخذوا يرددونها في حماسٍ طفولي مشاغب وهم يصخبون حتى أبواب السماء. أخيراً هدأ الجميع بعد أن أدركهم التعب ليعود الأربعة لاختيار رئيسٍ جديدٍ للغرفة وكانت النتيجة اختيار (الزبير) للمرة الثانية رئيسا ً بالإجماع.
الصفحات 20 -26 من رواية (المطمورة) -  أبريل 1995م – يناير 1999م
سالق : من الكلمات الحديثة التي انتجتها قريحة طلاب الجامعات السودانية وتعني : هل تحمل خنجرا ً تحت حزامك. ويسمون الخنجر بالسليقة.

المطمـورة 2

  أتساءل الآن، هل كل المحبين مثلي يتنفسون عشقهم؟ عندما نفترق أجد نفسي أعيش الزمن الذي كان بيننا، أخرج منه مكرهة ً لأعود إليه مسرعةً عند أول اختلاء بنفسي فتأتيني كلماتك، أحاديثك وأفكارك، أكمل معك حوارات لم تكتمل لسببٍ ما وأشياء لم استطع توصيلها لك وأتساءل عن أشياء قلتها أنت ومرت من أمامي لحظتها لسببٍ أو لآخر. أشعر أحيانا ً أن أماكن كانت خافتة الضوء قد جللتها الشمس. أتواصل معك وأنت بعيد وأشعر أحيانا ً أنك هنا في مكان ٍ ما من حولي وأنني لو أدرت رأسي قليلا ً لرأيتك. أشعر بحضورك ساخنا ً يحيط بي. هل تحدث لك مثل هذه الأشياء؟ أن تكتشف ثراء اللحظة، لحظة تشعر أنها تساوي العمر كله وأنك ما سرت طويلا ً هكذا إلا لتجدها، لحظة تنتشلك من حافة الهاوية إلى اتساع السهل، لحظة يتغير عندها شكل العالم وطعم الأشياء. لا أظنك تدري عن ذلك شيئا ً. أراك الآن تمد أصابعك ببراءة ٍ وتعيد تلك الخصلة النافرة إلى مكانها، ولا يمكنك أن تفهم ما فعلته هذه الحركة البسيطة في داخلي، تلك الشلالات الهادرة التي فجرتها أصابعك وهي تداعب خدي ونظراتك النافذة حتى شغاف القلب).
 -  (صالح)، أنا تعبانه وحأمشي الداخليه.
أوصلها حتى "الأستوب" الذي يفصل بيت الطالبات عن مبنى الجامعة، انتظرت (سميرة) الإشارة الخضراء ثم ودعته لتجتاز الإسفلت في خطواتٍ راقصة. فتحت باب الحجرة بأصابع مرتعشة ثم ألقت بنفسها على السرير لاهثة الأنفاس وكأنها تعود من سباقٍ مرهق. كان لديها الكثير المثير لتعيد اجتراره.
(أنا الآن أحسن حالا ً، استطعت أخيرا ً أن أسيطر على هذا الإحساس المجنون الذي فجرته أصابعك وهي تعيد خصلتي النافرة إلى موضعها. أضعت ساعات طويلة في اجترار ما حدث والاستمتاع به، منظرنا نحن الاثنين وقوفا ً تحت (الفايكس) العتيد وأنت تمد أصابعك ببراءة ٍ لتعيد تلك الخصلة التي سقطت على خدي. أنا أحب هذه الخصلة التي مستها أصابعك فأصبحت تتيه على رفيقاتها.
عدت منك لأستلقي على فراشي في بيت الطالبات وما يحدث لي يدهشني، استطعت أن ألملم جسدي أخيرا ً وانهض إلى الحمام. في هذه اللحظة بالذات أعرف كم أنا بحاجة ٍ إلى وجودك في حياتي وكم هي باردة ً خاوية ً بدونك، وهذا ما يدهشني، كنت طوال عمري أبني أحلاما ً وآمالا ً والكثير من المشاريع والخطط التي يمكن أن تسميها مجنونة وكنت آمل أن يتسع العمر لترجمتها إلى الواقع، ولم يكن الرجل حينها في بالي. كنت أرى حينها أن الرجل هو الجحيم بعينه وأن الارتباط بآخر هو قمة المهزلة، وأن الزواج والإنجاب هو الهاوية التي تؤد عندها أحلام المرأة، كنت أراه نهاية المطاف والمصير المؤسف الذي أعدوه لها مسبقا ً ليقضي على فعاليتها ويصرفها عن رؤية الحياة، الحياة بكل ما فيها من خلود. كنت أرفض مجرد التفكير في الرجل وما يتبعه من ملحقات، لم أكن لأستطيع أن أضع نفسي في إطار اللوحة. امرأة "تتلفلف بالتوب" و"تجلبط" يديها ورجليها بالحناء، تجلس فوق حفرة ٍ من الأرض لتشوي جسدها بنيران الطلح، فكيف أصبح ذلك المستحيل ممكنا ً، كيف رضيت أن أدخل نفسي في الإطار الغريب؟ ليس هذا فقط بل إنني الآن أعيش من أجل هذا الإطار. أعيش وأنا أحلم بك، بالحناء، بـ(الدلكه) ودخان الطلح، أحلم بذلك اليوم الذي يضمني إليك.
(صالح)، لقد اكتشفت أنني أحب الأشجار، تلك الكائنات المهيبة الضاربة بجذورها في الأرض حتى الماء والسامقة بأغصانها حتى السماء لتصبح ظلا ً لإنسان ٍ متعب أو وكرا ً لنسر ٍ أو عشا ً لعصفورٍ مقرور. أحب القمح، التمر والنيل. أحب الثبات وجاذبية الأرض. لا أريد الركض ولا أحب التسكع والتشرد على أرصفة الموانئ حتى ولو كان بحثا ً عن الحقيقة.
الأرض، وحدها هي الحقيقة، أريد أن أعمرها وأبقى فيها لأعلم الآخرين كيف يعمرونها، وكيف يحسون بها، مهيبة ً، عزيزة ً، مشحونة ً بالأسرار. أنا (حواء)، سعيدةٌ بإحساسي هذا وأتمنى أن أملأ الأرض بالعفاريت الصغار، مئات الأطفال يعمرون الأرض. إنه حبك، استطاع أن يعيدني من جديد، استطاع أن يعيد لي إنسانيتي الجميلة.
أيها القادم من خط الاستواء، كيف استطعت أن تتسرب لتدور مع دمائي؟ كيف استطعت أن تقنعني، صامتا ً، أن أصبح نحن؟ أن تسكن كل الأحلام والأماني والرؤى؟ أن تصبح الأشياء التي كانت غريبةً ومستحيلةً، حقيقة ً وواقع لا أستطيع الهروب منه أو التنكر لها، أن ..............).
فجأةً أحست الفتاة بخطوات ٍ تتسلل خلفها، أسرعت تغلق المفكرة الصغيرة بسرعة ٍ لتنفجر زميلاتها الثلاث في الضحك وهن يحطنها بنظراتهن في حب.
-  لقد جعلني حبك أكثر شفافيةً ورقه!
هتفت (صفاء) وهي تنحني بطريقة ٍ مسرحية ٍ متقنة، لتواصل (نجلاء) زميلتهن الأخرى في الحجرة الحديث وهي تتثنى في غنج:
-  أشتاقك يا نور عيني! آهٍـ من حبك اللذيذ!
وعادت الفتيات الثلاث ينفجرن ضاحكات وعيونهن تلمع ببريق الحياة.
-  هو منو؟
خاطبتها (شذى) وهي تبتسم في وجهها بعذوبة ٍ ثم واصلت وهي تنحني لتقرص خد الفتاة مداعبة:
-  عليك الله يا (سميره) ورينا اسمه!
وتدخلت (صفاء) قائلة:
-  يخصي عليك يا (سميره) نحنا صاحباتك، على الأقل نساعدك.
-  يووه من السخف..!
هتفت بها (سميرة) وهي تلوح بيديها في ضجر ثم أسرعت تحمل مفكرتها الصغيرة لتندفع خارج الغرفة وضحكات الفتيات الثلاث تطاردها.
الصفحات 42 -45 من رواية (المطمورة) -  أبريل 1995م – يناير 1999

المطمـورة 3

6

ها أنت تقولها أخيراً بعد ليالي من السهاد والأرق، الخوف، اللهفة والترقب. ها أنت تقولها أخيرا ً، وكنت انتظرها على أحر ٍ من الجمر كما يقولون في الكتب القديمة!
(يا حبيبتي، يا حياتي)..!
كنت أتلهف لسماعها من بين شفتيك لاهبة ً، حارقة ً، مشبعة ً بالحياة!
(يا حبيبتي، يا حياتي)..!
ها أنت تهمس بها أخيرا ً وعيناك تحتويني ولكنني لست سعيدة ً بها، لست سعيدة. هناك شيءٌ ما يكتم أنفاسي ورأسي يدوي وكأنهم يلهبونه بالمطارق، إلى جانب إحساسي الطاغي بالعار، المرارة والهزيمة!
(يا حبيبتي، يا حياتي)..!
أتساءل الآن، هل تقولها صادقا ً أم لاوعيك الذكوري قد اختار الكلمة المناسبة في الوقت المناسب أو قل السلاح المناسب في اللحظة الحاسمة أو فلنكن أكثر علمية ً لنقول أداة القهر المناسبة في الموقف المناسب!
ترعبني أفكاري، أكاد أتجمد من الخوف، وأرى مفكرتي الصغيرة ترتجف وريقاتها من هول ما أسرَّه لها!
(يا حبيبتي، يا حياتي)..!
لقد استعملتها كأداة ٍ للقهر وأتتك بنتائج مبهرة، كفلت لك النصر الحاسم.
تحزنني أفكاري، يبدو لي كل شيء تافها ً بلا معنى، كم أشعر بالغيظ والحنق منك، لماذا قلتها في تلك اللحظة غير المناسبة؟!
(يا حبيبتي، يا حياتي)..!
كنت أتوق لسماعها، انتظرها وقلبي يحترق فلماذا أحطتها بضباب ٍ كثيف، لماذا هدمت صرح أمنياتي وسحقت أجمل أحلامي، لماذا أفسدت عليَّ الاستمتاع بكلمة الحب وحرارة النجوى؟ لكم أتمنى لو أشبعك لكما ً وصفعا ً، أن أركلك بقدميَّ!
(يا حبيبتي، يا حياتي)..!
أذكر جيدا ً، لقد كنا حينها نتشاجر، كنا في معركة ٍ مصيرية ٍ وحاسمة، ولم أكن أمثل نفسي وحدها، لم أكن أدافع عن حقي في الاستمتاع بتحضير الفطور والمشاركة في إعداده، لا، لقد كنت أخوض حينها معركة ً مقدسة. كنت أناضل ضد القهر والتسلط والوصاية، كنت أمثل كل بنات جنسي، كل نساء الدنيا كن حاضرات في بالي، أمي أمك وأمهاتهم. أخواتي، أخواتك، أخواتهم. كانت مطالبنا عادلة ً، وحجتنا بينة ً وكفتنا هي الراجحة. كنا قاب قوسين أو أدنى من النصر فإذا بعقلك الخبيث يتفتق عن سلاح ٍ هائل ٍ ومدمر.
(يا حبيبتي، يا حياتي)..!
أطلقت سلاحك لتنقلب الموازين ويتحول النصر إلى هزيمة ٍ منكرة ٍ وأعود أتبعك كالغبية.
(يا حبيبتي، يا حياتي)..!
تؤلمني أفكاري. أحس أنني أحتقر نفسي حينما أتذكره ذلك الموقف المخزي. كيف استسلمت؟ كيف ألقيت سلاحي ببساطة ٍ وتركتك تأخذني سبيَّة؟ جارية ً مملوكة!
(يا حبيبتي، يا حياتي)..!
كيف استطاعت هذه العبارة اللزجة أن تدك حصوني، كيف استطاعت أن تعطل أسلحتي وتجعل راياتي البيضاء ترفرف دون قيد ٍ أو شرط، كيف استطاعت هذه العبارة أن تحيلني إلى مخلوقٍ غبي تافهٍ لا حول له ولا قوة؟!
(يا حبيبتي، يا حياتي)..!
لكم أكره هذه العبارة بقدر حبي لها وتوقاني لسماعها. إنها السلاح الذي استعمله كل الرجال حينما أعيتهم الحجة. أبي، أبوك وآباؤهم، حققوا بها كل ما يرجونه وعادت على دولتهم بالنصر المؤزر. مزيدا ً من السبايا، مزيدا ً من الجواري، مزيدا ً من الإرضاء لأحاسيس مشوهة.
ومع ذلك فأنا أحبك، أحبك ولست سعيدةً بحبك ولكنني لا أملك له دفعا ً. أحبك أيها المشوَّه المتسلط القاسي. أحبك ولا استطيع أن أدعي غير ذلك. أحب ذلك الرفيف الشفيف الذي يؤز داخل قلبي كلما بدوت قادما ً من البعيد وأحب أحلامي التي ينسجها تعلقي بك وتطلعي لحياةٍ أتقاسمها معك. أحبك لأسبابٍ كثيرةٍ أعرفها وأفهمها جيداً وأحبك أيضا ً لأسبابٍ أخرى لا أدرك كنهها ولكني أحس بها عميقة ً في داخلي.
(يا حبيبتي، يا حياتي)..!
فضلا ً فليكن هذا السلاح بعيداً في معاركنا المقبلة فمن العار أن تصبح أحلى الكلمات وأكثرها قداسةً سلاحاً في المعركة، أن تصبح أداةً للقهر والتسلط).
وضعت الفتاة القلم على الطاولة في هدوء ثم أخذت تعيد قراءة السطور باهتمام.
 -  خلاص يا (سميره)، المحاضره الباقي ليها عشره دقايق.
خاطبتها (صفاء) وهي تلوح بيدها في ضجر. ولم ترد، بل يبدو وكأنها لم تسمع العبارة وتدخلت (شذى) قائلةٍ بحدة ٍ مصطنعة:
 -  إنتي قاعده تبالغي يا (سميره)، ده حب ولا بحث بتاع تخرج؟ ما تخلصينا يا شيخه!
أغلقت (سميرة) المفكرة في هدوء ثم نهضت لتعيدها إلى داخل الدولاب. دقائق والفتيات الثلاث يجتزن البوابة الرئيسية لمبنى الجامعة.
الصفحات 56 -58  من رواية (المطمورة) -  أبريل 1995م – يناير 1999

المطمـورة 4

..................................

كانوا حينها يتربعون على أسرتهم بداخلية الطلاب وقد أغلقوا الباب بالمفتاح من الداخل. أقلقهم غياب (حسام) المفاجئ بعد تلك المعركة الشرسة مع قوات الأمن بالميدان الشرقي للجامعة فقلبوا الأرض بحثا ً عنه وكان أن هداهم أحد كوادر الحزب الشيوعي إلى منزل عمه حيث اختبأ. قادوه إلى داخلية الطلاب غاضبا ً وحزينا وهو يصب لعناته على عمه وأسرته، ولم يكن الأصدقاء الثلاثة ليفهموا شيئا ً حتى وصلوا إلى غرفتهم، أغلقوا عليهم الباب بالمفتاح من الداخل ثم انبرى (حسام) يحكي لهم تفاصيل الأيام الثلاث المنصرمة.
-  سيدي الرئيس..!
قالها (حسين) بلهجة ٍ متأدبة وهو يهب ليقف أمام (الزبير) مطأطأ الرأس في مشهدٍ تمثيلي بارع، لينفجر (حسام) في ضحكةٍ صافيةٍ بينما ابتسم (صالح) في غموض وكأنه يعرف ما سيقال. ضغط (الزبير) على نظارته الطبية بإصبعه وهو يلتفت متسائلاً في جدية:
 -  نعم، ماذا تريد أيها المواطن الصالح؟!
 -  لدي اقتراح أتمنى أن يوافق هواكم ويجد صدى في نفسكم الكريمة!
عاد (الزبير) يضغط على نظارته الطبية دون أن تكون بحاجة ٍ لذلك ثم رفع بصره نحو الشاب معنفا ً بقوله:
 -  الأمور لا تُعلق بهوى الأشخاص أيها المواطن الصالح مهما كان وضعهم، إنما تحكمها ظروف موضوعيه.
 -  ولكن لهواك تأثيرا ً كبيرا ً في هذا الأمر بالذات، سيدي.
 -  قُلْ.
قالها بلهجةٍ باردةٍ ومتسلطةٍ ليبتسموا جميعاً. كان (الزبير) وحده الذي يؤدي دوره فيهم بمثل هذه البراعة حينما يتعلق "السيناريو" بالميزانية والمصروف الأسبوعي، كثيرا ً ما ينسى الشاب نفسه ويتقمص دور الأب أمام أبنائه الصغار الذين لم يختبروا الحياة ولا يقدرون الظروف المعيشية كما كان يعنفهم دائماً.
أخفى (حسين) ابتسامةً صغيرةً كانت في طريقها إلى شفتيه ليتساءل بقوله وهو يظهر التردد:
 -  أقولُ وأنا آمن؟!
فكر (الزبير) لبرهةٍ ثم عاد يرفع رأسه ليخاطبه بقوله:
 -  قُلْ وأنت آمن.
 -  إنها الفراخ يا صاحب السعادة!
رد (حسين) وهو يخفض بصره إلى الأرض متحاشيا ً عيني (الزبير) اللتين اتسعتا من الذهول:
 -  ماذا؟ هل قلت الفراخ؟!
تمالك (الزبير) نفسه أخيرا ً ليهتف بالعبارة وهو يهب معتدلا ً في انفعالٍ حقيقي، لتسقط نظارته الطبية إلى جانبه على السرير، أسرع يلتقطها في اضطراب ٍ ظاهر ٍ ليتمتم (حسين) معتذرا ً:
 -  نأسف سيدي لإزعاجكم، ولكنها الفراخ، الفراخُ الكويتية!
قالها وهو يتنهد في لوعة.
 -  مالها؟ مالها الفراخ الكويتية؟!
تساءل (الزبير) في حدةٍ وهو يخلع النظارة ثم يعود فيضعها على عينيه محدقا ً في وجه الشاب وكأنه سيأكله. ليرد (حسين) بصوت ٍ مهموس ولوعة ٍ حقيقة:
 -  إني أحبها..!
 -  أتحبها؟! أتقول أنك تحب الفراخ؟! وكيف يحب مواطن ٌ صالح مثلك الفراخ؟!
وعاد الصمت يؤز في جنبات الغرفة و(حسام) يكتم ضحكاته بصعوبة، بينما عينا (الزبير) لا زالتا تلتهمان وجه الشاب في غيظ. تمالك نفسه ليواصل حديثه في برود ٍ مصطنع:
 -  ما دمت تحبها، فلتتزوجها إذا ً.
 -  بموافقة معاليكم.
رد الشاب متجاوزا ً سخرية الآخر ليهب (الزبير) صارخا ً:
 -  موافقة من؟!
 -  معاليكم طبعا ً.
 -  وما دخل موافقتي بهذا الموضوع؟
 -  الميزانية.
 -  الميزانية، هل جننت يا هذا؟ أتريد الفراخ على العشاء؟! ما شاء الله، وماذا سيبقى إذا ً؟! فلنطلب لك المقبلات والمشهيات ثم نتبع ذلك بالحلوى والمشروبات الروحيه، أو قل لي، ما رأيك في زجاجة ٍ من الويسكي؟
 -  لقد حرمها الدين.
 -  الدين؟! أتقول الدين وأنت تطلب الفراخ على العشاء؟ الدين الذي يقول: (ليس منا من بات شبعان وجاره جائع إلى جانبه)، أتقول الدين أيها الانتهازي؟!
خيل إليهم أنه سينسى نفسه ويهب ليصفع الشاب الماثل أمامه على وجهه فلقد بدا (الزبير) حينها صادقا ً في انفعاله وكأنه يفرغ أحزانا ً حقيقية، ليتجاوز (حسين) كل هذا ويعود محاولا ً إقناعه بقوله:
 -  إنها احتفالا ً بعودة (حسام) إلينا سالما ً يا صاحب السعادة.
قالها بلهجة ٍ مستعطفة ٍ وهو يرمق (حسام) في إشفاقٍ مصطنع ليلتفت (الزبير) نحو الأخير متسائلا ً بلهجةٍ جافة:
 -  وأنت، أتريد الفراخ على العشاء أيها السيد؟ هل كنت تنتظر أن تُقدَّم لك الفراخ؟!
 -  لا، أبدا ً. أنا أحب العدس.
رد (حسام) وهو يكتم ضحكة ً أبت إلا أن تنفجر. ليهتف (الزبير) في ظفر:
 -  هنيئا ً لك يا بني، هكذا يكون المواطن الصالح.
الصفحات 88 -91  من رواية (المطمورة) -     أبريل 1995م – يناير 199

المطمـورة 5

14

أشعر بالملل الفظيع يسكن دواخلي. تدهمني الرغبة في أن أفعل شيئا ًما، أصرخ أو أبكي، "أتشقلب" أو أشد شعري بكل ما أوتيت من قوة. لا أعرف ما الذي دهاني ولكن لقد بدأت الأعراض التي تصيبني عندما تصل أعصابي ذروة توترها في الظهور. أشعر الآن بآلام هائلة في أمعائي وطعم مر يسكن حلقي. الكهرباء مقطوعة منذ الصباح والهواء اللافح يشوي وجهي. أتمنى لو أنك هنا أو أنني هناك أو أننا معا ً في مكانٍ ما على ظهر هذا الكوكب نملكه سويا ً. مكان ٌ صغير ٌ من هذا الكون الممتد في غير نهاية يخصنا وحدنا. هل ستكون حينها قدرا ً على اكتشاف هذا الشيء الذي يحطم أعصابي وتخلصني منه؟!
مرهقة ٌ إلى حد الإنهاك. أشعر أن قواي تتسرب من بين يدي، الكآبة والصمت يتكاثفان من حولي، أمي تنام في الصالة بينما خرجت زوجة أبي الشابة في أحد "مشاويرها" الغامضة وسيعود أبي من مكتبه بعد ساعتين. 
  تدهمني الآن رغبة ٌ عارمة ٌ في الجري، أن أعدو في هذه الصحراء التي تطل على بيتنا بعيدا ً بعيدا، أن أرحل عدوا ً وسط الرمال المحرقة في صحراء (إفريقيا) الكبرى ولا أعود، أن أتحرر من كل شيء، أهلي، أحلامي، طموحي وملابسي. كلها تبدو لي الآن ثقيلة ً، تافهة ً بغير معنى. أشعر بهواء الشهيق والزفير في رئتي حادا ً ومؤلما ً. الضوء يزعجني، حفيف الأشجار وزقزقة الطيور على شجرة "البان" التي توسطت الفناء، كلها تصل إلي كصراخ ٍ داو ٍ، وباختصار أحس بالعالم من حولي بكل تفاصيله الصغيرة مرعبا ً مخيفا ً وكأنني أفحصه تحت المجهر. هل رؤية الأشياء تحت المجهر تسبب كل هذا الرعب؟ 
نحن عادة ًلا نفحص الأشياء، نكتفي دائما ً بإلقاء نظرة عابرة لذا يسهل خداعنا. من السهل التغول على حقوقنا واللعب بعقولنا، ومن السهل أيضا ً تخويفنا بما لا يخيف. فنحن دائما ً نخبئ شيئا ً ما، كلنا نخفي شيئا ً ما، سيئا ً ومنقصا ً للكرامة، الكرامة بمقاييسنا التي وضعناها نحن، تلك المقاييس الكاذبة التي لا يستطيع أي منا أن يزن نفسه بها، فلماذا نصر عليها ونهلل لها ونحن نفتضها ليل نهار؟! ما الذي يجبرنا على الزيف، ولماذا لا نضع مقاييس ممكنة، مقاييس الحياة بعيدا ً عن الطهارة الزائفة والقداسة المدعاة؟! هل الحقيقة مخيفة إلى هذا الحد؟ ولماذا نهرب دائما ً من مواجهتها، ونكتفي بعالمٍ من الوهم الزائف؟! لماذا تحكم الشكليات حياتنا وتسيطر على سلوكنا وتفكيرنا؟! وهل يمنحنا ذلك الوهم راحة، ولماذا يملؤنا الخوف، الخوف الدائم من شيءٍ مجهولٍ أتيناه أو قد نأتيه وسيكشف يوما ً وتكون الفضيحة؟ لماذا نتدثر بالزيف ونرهق أنفسنا في محاولةٍ مريرة ٍ ومؤلمة ٍ للتستر على ما ليس عيبا ً أو منقصة، ما نغترفه صباح مساء مع سبق الإصرار والترصد، لماذا نرهق أنفسنا؟!
لم نكن حقيقيين يوما ً. نسير في الشارع ونحن نتلفت فرقا ً، فقد يكتشف أحدهم بعضا ً مما نخبئه، ذلك المخجل عن طريق الصدفة فتكون الطامة الكبرى. فلماذا كل هذا التعب؟! لماذا لا نقول ما نفعل ونعترف به؟ نعترف بأنها الحياة، لماذا نترفع عن حياتنا التي نعيش في كبرياء ٍ وقح ٍ ومواقف مسرحية بائسة تدعو للموت؟!
لقد اكتشفت أنني غير قادرة على النسيان وأن جميع الأشياء بما فيها أنت موجودة ٌ في داخلي، في مكانٍ ما مني، تطل برأسها وقد ظننت أني وأدتها، تأتيني في ومضات ٍ خاطفة ٍ، دقيقة ولكنها كافية ً لزعزعتي. لماذا لم تودعني؟ أعرف أنك غاضب ٌ وربما حزين. أعرف أن حوارك الداخلي وصل إلى حد الدوي وأنني قد أدخلتك معي في المتاهة وأني قد جرحتك وآلمتك. أعرف كل هذا وأقدره كسببٍ لغضبتك، ولكن أن تذهب هكذا دون كلمة، أن لا تهتم بوداعي في آخر يوم لنا مع بعضنا، فهذا ما لا أحتمله. لماذا يا حبيبي، لماذا أيها الأحمق القاسي، أية قوة ٍ شريرة ٍ زينت لك أن تسافر دون كلمة وداع ؟! "وبالمناسبة"، ماذا تفعل مع تلك الفتاة الغبية، هل تخدعني، هل تظن أنني لن أعرف، "لا يا شاطر"، لقد رأيتك يومها وكدت أن أصفق لك. يالك من ممثل ٍ موهوب. جلستك المستكينة بين يديها كتلميذ ٍ صغيرٍ وأنت تستمع لشرحها متظاهرا ً بالاهتمام، هل تريد إقناعي بأنك تحتاج لمن يستذكر معك دروسك؟ ربما استطعت أن تقنع تلك الغبية ولكنك لن تقنعني. لقد أدهشتني فقط، أدهشتني إلى أقصى حد. كيف استطعت أن تتقمص تلك الشخصية الغريبة وتجيد هذا الدور الذي لا يشبهك، هذا الدور العجيب؟! صدقني لم أكد أعرفك، كيف استطعت أن تبدل جلستك المميزة، نظراتك النافذة وحتى ملامحك وكأن من يجلس مع (سارة النور) ليس أنت، ليس هو (صالح ود عبد النبي ود صالح). يالك من ممثل ٍ بارع ٍ يستحق أن يقرظ ولكنني سأحاسبك على ذلك يوما ً وسيكون حسابا ً عسيرا ً بقدر الآلام التي زرعتها في داخلي.
عاد أبي من مكتبه الآن. أسمع وقع خطواته الثقيلة وهي تعتصر الأرض وكأنه يسحق شيئا ً. إنه يتجه إلى الجانب الآخر من البيت، ذلك الذي يستغله وزوجته الشابة والتي عادت من "مشوارها" الغامض قبل دقائق. لا أدري ما الذي يدعو فتاة ً في العشرين من عمرها أن ترهن حياتها لرجلٍ في مثل عمر أبي؟ لا أظن أنها تحبه، بل أشك أن مثل هذه الفتاة تعرف شيئا ً اسمه الحب. أعرف أنها تستمتع بوقتها في مكان ٍ ما وتمارس لعبة البؤس تلك. إنه الشيء الذي يجعلنا نرهن وجودنا للخوف، لدينا دائما ً ما يهددنا، ما نخاف كشفه وافتضاح أمرنا. لماذا لا نكون حقيقيين ونفعل ما يجبل بنا، ما نريده، حتى لا نعرض أنفسنا لامتحان ٍ عسير من صنع أيدينا؟ لماذا نعرض أنفسنا للتجربة؟ لامتحان ٍ لم نعد له عدته، لماذا نتفنن في خلق عالم ٍ من المتناقضات، نصنعه ونضع أنفسنا بداخله ثم نتباكى ونحن نبحث لأنفسنا عن مخرج ٍ في متاهة ٍ نحن صانعوها، مبررين لخطايانا بالتناقض الذي اخترناه بمحض إرادتنا وشاركنا في صنعه؟ أتركك الآن فأمي تناديني.
أنا الآن أحسن حالا ً بعد أن ابتلعت قرصين من "الاسبرين". اجلس على سريري الذي يربض بجانب الدولاب الذي طالما حدثتك عنه، ذلك الدولاب الذي كنت أختبئ بداخله عندما كنت طفلة. يقترب موعد الغداء وأسمع أصواتهم وهم يروحون ويجيئون داخل المطبخ ولكنني لن اذهب لمساعدتهم وهم لا يطالبونني بشيء. أحس هنا بالأمان، سريري الحبيب، دولابي الخالد ومفكرتي التي أسرُّ لها بما يشغلني. وأشعر كذلك بالشوق، شوق ٌ هادر ٌ يجتاحني إليك، يزلزلني، ترى ما الذي تفعله الآن، وفي هذه اللحظة بالذات؟
أخافها أفكاري، أتخيل للحظةٍ أنك لن تعود لي فيدهمني الانقباض والرغبة في إفراغ كل ما في جوفي، أن تذهب وتتركني، أن ترحل تاركا ً لي البرد والريح والعدم. أن أصبح بين ليلة ٍ وضحاها خارج حبك للعالم وان أُطرد من الملكوت. هل تراك قادرا ً على فعلها، وهل تراودك الفكرة أحياناً؟ هل تعلم أنك لي؟ لي وحدي وأنك لو عشت ألف عامٍ فلن تجد من تحبك مثلي، وأننا بدون بعضنا قطرتان من ماء ضائعتان في سديم اللامنتهى، حيث لا شيء سوى الظلام والوحدة. أنت تعرف أنني أحبك رغم ما حدث ويحدث بيننا، وأعرف أنك تحبني وتحترمني وتخاف علي، وأنك لن تجد نفسك في أي مكانٍ في الأرض إلا معي. لن تجد من تفهمك وتحنو عليك وتتحمل حماقاتك سواي، وأعلم أنك لو رحلت فلن تمارس سوى التسكع على أرصفة الموانئ وستمشي عبر الزمن القادم بلا حبٍ أو رفقةٍ لأنني أنا وحدي من تعرفك، أنا نصفك الآخر الذي لن تطيب لك حياة من دونه. ولكنني خائفة، أخاف أن تفلت يدي وتختار وهم الحرية المطلقة. باستطاعتنا معاً أن ننبت حَبا ً، نخلا ً وسنابل، أن نصنع ثورة ً ونلون الآتي لنا وللآخرين بعصارة الشمس والمطر والحرية، كما باستطاعة كل منا أن يحيا بمفرده، ولكنها ستكون حياة ً بلون التراب وطعم الرماد. سأذهب فهم ينتظرونني على الغداء.
تناولت كمية ً كبيرة ً من السمك. كان لذيذا ً حتى وأنني الآن أشعر بالتخمة. جلست وسط أمي وإخوتي الصغار على المائدة الحافلة وحدنا، فكالعادة تغدى أبي مع زوجته الشابة في الجانب الآخر من البيت. أمي تناولت طعامها بشهية ٍ مفتوحة، يبدو أنها قد عودت نفسها على هذا الوضع الغريب.  أتساءل الآن هل يمكن أن يحدث مثل هذا لي يوما ً؟ ترعبني الفكرة، لا استطيع أن أتخيل نفسي وحيدة ً وسط أطفالنا وأنت تتناول طعامك بدوني ومع أخرى في الجانب الآخر من البيت، هل ستفعلها؟! ليس من المستبعد ذلك، فأنت لست خيرا ً من أبي وهو ليس أكثر سوءا ً منك. كلكم تافهون منحطون، تعانون من آلاف العقد ومركبات النقص وشيء من الذكاء البليد، ولكنني لن أمكنك من ذلك، سأقضي عليك بمجرد تفكيرك فيه.
الصفحات 115 -119  من رواية (المطمورة) -   أبريل 1995م – يناير 1999

المطمـورة 6


25
 -  حرام يا (سميره). حرام البتعمليه في نفسك ده..!
كانتا وحيدتين داخل غرفتهما ببيت الطالبات وقد خلا المبنى تقريبا ً إلا من بضع زميلات ٍ كن يتحلقن حول المغسلة منهمكات في الغسيل يلفهن الصمت. الشمس في طريقها للغروب. كل شيءٍ ساكن ٌ صامتٌ إلا غرفة الصديقتين حينما خاطبتها (صفاء) بالعبارة تلك. ألقت عليها الفتاة نظرة ً خاوية ً من عينين انطفأت فيهما شعلة الحياة. فواصلت (صفاء) حديثها قائلة:
 -  إنتي ليك يومين قاعده كده. بالصوره دي ح تجني.
 -  (صالح) ..!
هتفت بها وكأن روحها تنتزع من بين جنبيها. عادت (صفاء) تقول:
 -  دي إرادة ربنا. أنحنا ح نعمل شنو غير نصبر وبس؟!
 -  (صالح) ..!
وعاد الصمت المؤلم يجوس داخل الغرفة لتطرده (صفاء) بعد هنيهة ٍ بقولها:
 -  (صالح) ذاته لو شافك في الحاله دي ح يزعل منك، إنتي كده بتعذبيه في قبره.
التقطت (سميرة) العبارة لتهتف في انبهار:
 -  هو ح يشوفني؟ أكيد ح يشوفني.
دهمتها شعلة ٌ من النشاط المفاجئ فأسرعت تقفز نحو الحمام في رشاقة. أخذ صوتها يتسرب من خلال الباب المغلق نديا ً، عاطرا ً تجلله اللوعة والشجن:
 -   (بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق ...
     وتكتب اسمي يا حبيبي على رمل الطريق..!
     وبكره بتشت الدني،
     ع الأسف اللي مجرحه،
     ويبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحى ..!
     يبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحى ..!).
كانت (صفاء) تنصت إليها خارج الحمام كالمأخوذة، أحست وكأن الصوت الملائكي يأتي من السماء صادقا ً عاطرا ً ونديا ً فأخذت دموعها تنهمر على خديها ساخنة ً وغزيرة، ألقت بنفسها على السرير وما زال الصوت الحنون يتسرب إلى قلبها ليفيض باللوعة والشجن.
وقفت (سميرة) تحت "الدش" وسلاسل الماء تتدحرج على جسدها في نعومة ٍ وقد تبعثر شعرها على وجهها وكتفيها وانسدل فغطى صدرها لتبدو في وقفتها الساكنة بهيئتها تلك كآلهة رومانية قديمة. كانت تسمع زقزقة العصافير الملونة وهي تتواثب حولها في رشاقة، وقد امتد أمامها ومن حولها الأخضر فغطى على كل شيء وهناك في البعيد كان ثمة فارس ٍ يعدو على حصانه معانقا ً الأفق الأزرق على إيقاع اللحن.
ورق صوتها حتى غدا كالهمس ثم تلاشى و(سميرة) لا زالت تغني، تغني في قلبها، في أعماقها، تغني لآلاف العصافير الملونة التي حطت على الأغصان تستمع لتفاصيل حبها، والفارس يعدو مبتعدا ً حتى أضحى أمامها نقطة ً صغيرة ً على الأفق الأزرق، أخذت تتبعه بنظراتها حتى غاب خلف قرص الشمس الغارب.
أغلقت (سميرة) الصنبور، جففت جسدها في تأن ٍ، ارتدت ثيابها ثم هرولت إلى داخل الحجرة وعيناها تومضان. أخرجت مرآتها الصغيرة، تأملت وجهها طويلا ً وكأنها تكتشفه لأول مرة ثم وضعت المرآة أمامها على المنضدة وأخذت تصفف شعرها بعناية ٍ واهتمام. فجأة ً وكأنها تذكرت شيئا ً التفتت نحو صديقتها قائلة:
 -  (صفاء)، تعالي أعملي لي ضفيره، ضفيره واحده.
كانت (صفاء) تتبعها في دهشة فلقد بدت الفتاة حينها في أقصى درجة من السعادة، لامعة العينين متوردة الخدين والدماء تضخ في شرايينها لاهبة ً ومثيرة. وواصلت (سميرة) حديثها:
 -  بتعايني لي كده ليه، مش عارفه (صالح) بتكسَّر في الضفيره؟! يلا بسرعه الزمن قاعد يسرقنا..!
تحركت (صفاء) في آلية ٍ. جلست لتصفف شعر صديقتها شاردة الذهن.
 -  لسه إنتي؟ أسرعي عشان ما اتأخر على (صالح).
 -  خلاص انتهيت.
مدت (سميرة) يدها تتحسس الضفيرة لتبتسم في رضا وهي تسرع وتفتح الدولاب مخاطبة صديقتها بقولها:
 -  الساعه كم؟ أنا اتأخرت كتير. أكيد (صالح) ح يزعل. يا ريت ما يتحامق ويمشي السينما مع أصحابه.!
قالتها وهي تلقي نظرة ً على الساعة الملقاة على الطاولة لتتنفس في ارتياح وهي تقول:
 -  الجزمه السوداء ما لايقه مع الإسكيرت البني، أحسن ألبس الشبط.
كانت (صفاء) يصرعها التبلد تلك اللحظة، سألتها بصوت ٍ مرتعش:
 -  إنتي ماشه وين يا (سميره)؟!
رفعت الفتاة حاجبيها استنكارا ً لتجيب بقولها:
 -  ماشه وين؟ ماشه لـ(صالح) طبعا ً. مش قلت ليك عندنا موعد الساعه سبعه؟
عادت (صفاء) تتساءل في إشفاق:
 -  و(صالح) قال ح يلاقيك وين؟
 -  في الجامعه طبعا ً.
فكرت لبرهةٍ ثم واصلت حديثها قائلة:
 -  لأنه لسه طالب، ما ح نقدر نطلع حته تانيه، لكن لمه نتخرج ح نتزوج ونطلع كتير، ح نلف الدنيا.
 -  (سميره) خليني أمشي معاك.
 -  تمشي معاي؟!
هتفت الفتاة في استنكار ثم أخذت تقهقه في هستيريا وهي تخاطبها من بين ضحكاتها:
 -  دمك تقيل يا (صفاء). كيف تمشي معانا؟!
غطت (صفاء) وجهها بكفيها وهي تنشج بصوتٍ مكتوم.
 -  يا بنت إنتي عبيطه، والله لو تبكي للصباح ما ح أسمح ليك.
عادت (صفاء) تهمس من بين دموعها:
 -  أنا بقصد أنزل معاك الجامعه هسه.
 -  لا، كده، معليش، خلاص قومي ألبسي.
أخذت الصديقتان تطويان الدرب صامتتين إلا قلبيهما، كانت (سميرة) تمشي في نشاط ٍ وقد توردت وجنتاها وبرز صدرها إلى الأمام في شموخ ٍ بينما أخذت الضفيرة الضخمة تتمايل على وقع الخطوات النشطة وكأنها ترقص. بدت الفتاة جميلة ً، أجمل من أي يوم ٍ مضى وإلى جانبها سارت (صفاء) هامدة الخطوات.
جلستا في الـ(مين رود) ساكنتين و(سميرة) ترقب البوابة الرئيسية في لهفة. ألقت نظرة ً على ساعتها لتخاطب صديقتها وهي تبتسم في رقة:
 -  عامل فيها تقيل؟!
لفهما الصمت طويلا ً وعقرب الدقائق يتقافز في سرعة ٍ نحو اللاشيء. لتعود (سميرة) قائلة ً وهي تتنهد في ضجر:
 -  ربع ساعه تأخير؟ الليله ما ح أسامحه.
قالتها وهي تضم أصابعها الخمس متوعدة. غطت (صفاء) وجهها بكفيها وأخذت تنتحب من جديد لتهتف (سميرة) والاستنكار بادٍ في صوتها:
 -  يا بنت إنتي عبيطه؟!
قالتها وهي تضغط على يد صديقتها مواسية ً وحانت منها التفاتة نحو البوابة الرئيسية لتتهلل أساريرها وهي تتبع ببصرها الشاب الذي يتجه نحوهما بخطوات ٍ هادئة. ضغطت على كف صديقتها وهي تهمس بصوت ٍ يثقله الانفعال:
 -  أهو داك (الزبير) صاحبه جاء، أكيد (صالح) في الطريق.
أخذت تحدق في البعيد وقد جاشت عواطفها وعلى شفتيها تلألأت ابتسامة ٌ منهكة بينما أصابعها ترتعش وأنفاسها تتلاحق و(الزبير) يقترب بخطوات ٍ مترددة.
 -  مساء الخير.
 -  أهلا ً، (الزبير)، كيف حالك؟
أطرقت لبرهة ٍ ثم رفعت رأسها متسائلة في خفر:
 -  (صالح) اتأخر ليه؟
أشاح الشاب بوجهه بعيدا ً وكأنه يعالج ألما ً مميتا ً لتهتف (سميرة) في لوعة:
 -  (الزبير) مالك؟ (صالح) مالو؟ اتأخر ليه؟!
تمالك الشاب نفسه بمجهود ٍ خارق ثم عاد يحدق في العينين اللامعتين اللتين ترقبانه في تساؤل. غاص داخلهما عميقا ً وكأنه يجمع كل قوته في عينيه ليخاطبها بصوت ٍ خرج حادا ً على الرغم منه:
 -  (سميره)، في حاجه لازم تفهميها..!
 -  أيوه شنو؟
 -  (صالح) مات.
 -  مات؟!
هتفت بها وهي تقفز أمامه كنمر ٍ صغير، وارتفعت كف (الزبير) في الهواء ثم هبطت على خد الفتاة كالصاعقة وهو يصرخ:
 -  (صالح) مات، مات، مات، وإنتي عارفه الحقيقه دي، عارفاها، عارفاها.!
وانهارت (سميرة) على المقعد وجسدها يهتز في عنف. انفجرت تبكي في مرارة.
كانت (صفاء) تجلس إلى جانبها ساكنة ً صامتة ً وكأن أحاسيسها قد نضبت أو كأنها رحلت إلى زمان ٍ آخر، بينما عيناها تنسكبان على وجه صديقتها الذي تبلله الدموع، دموع المرارة، الهزيمة والخذلان. فجأة ً خيل إليها أن هناك ثمة من يبتسم ثم انطلقت الضحكات الساخرة من بين أغصان (الفايكس) العتيد تعلو وتعلو، خبيثة ً شامتة ً ولئيمة.
هبت (سميرة) تمسح الدموع من عينيها وتسرع نحو بوابة الخروج، دون أن تكترث لمن حولها.
استلقت على سريرها في بيت الطالبات وعقلها يصفو شيئا ً فشيئا. لقد مات (صالح)، نعم، دهسته إحدى سيارات المدينة الكئيبة منذ ثلاثة أيام وهي تعلم ذلك. في جزء من الثانية استطاعت الآلة القاسية أن تأخذه منها وتنفي وجوده ليختفي من حياتها. بضع ثوان ٍ فقط هي الفاصل بين الحياة والموت. بضع ثوانٍ ٍ، هكذا ببساطة ٍ تصبح الحركة سكونا ً والوجود عدماً. يا لها من سخرية ٍ مريرة ٍ وهوان ٍ مذل ٍ لكائن ٍ هو الدنيا وسيدها. كيف تحدد مصيره هكذا ببساطة ٍ آلة ٌ غبية ٌ أوجدها عقله وصنعتها يداه. إن الوجود لن يصبح عدما ً، والحركة لن تكون سكونا ً والفارس لم يمت رغم أنف المدينة الملعونة. إنه أقوى من الفناء، إنه باق ٍ حتى ولو تغيرت مادته واختلفت صورته، باق ٍ في مكان ٍ ما من هذا الكون العريض يباشر مهامه الوجودية ويؤدي رسالته الخالدة في تناغم ٍ حركي أبدي موزون.
نهضت الفتاة لتلتقط مرآتها الصغيرة من على المنضدة، تأملت وجهها طويلا ً وهي تمسح بقية ً من دموع ٍ جفت على خديها ثم وضعت المرآة في هدوء وتسللت خارج الغرفة.
إنها الثامنة مساء. (الخرطوم) آلة ٌ ملعونة ٌ يقودها شيطان أخرس. السماء مغرورة ٌ، نائية ٌ وشريرة. و(سميرة) تطوي الطريق بخطوات ٍ هادئة ٍ ومتزنة. كانت السيارات تمضي إلى جوارها مسرعة ً تجتاز كوبري (بحري) وكأنها لص ٌ مطارد، و(سميرة) مشغولة ٌ عن كل ذلك بكون ٍ آخر. مرت الفتاة أمام كشك البوليس المقام على الكوبري لتنحرف في الطريق المخصص منه للمشاة، وتسرب صوتها دافئاً، ندياً وعاطرا ً يتسلل في ليل المدينة الكئيب:
-   (بحكي عنك يا حبيبي لأهالي الحي
     بتحكي عني يا حبيبي لنبعة المي
     ولمه بيدور السهر
    تحت قناديل المسا
    بيحكوا عنك يا حبيبي
    وأنا بتنسى
    بيحكوا عنك يا حبيبي وأنا بتنسى).
سارت الفتاة وهي تردد أغنيتها في صوت ٍ طفولي محزون حتى توسطت الكوبري. أسرعت تتسلق الحاجز وقد دهمها اضطراب ٌ لذيذ. جلست عليه برهة ً تلتقط أنفاسها. كانت المدينةُ صاخبة ً والمصابيحُ الكهربيةُ ترقبها مشرقة ً من البعيد. أخذت (سميرة) تمسح وجهها بيدها اليمنى بينما اليسرى ممسكة ً على الحاجز الحديدي بقوة، سوَّت ْ حاجبيها بعناية. امتدت يدها تتحسس الضفيرة وكأنها تطمئن على وجودها. ابتسمت في طفولية ٍ ثم قفزت إلى الماء وهي تهمس:
 -  (صالح)، انتظرني..!
الصفحات 210 -216  من رواية (المطمورة) -  أبريل 1995م – يناير 1999