التسميات

الأربعاء، 11 يوليو 2012

الحربي واسـم الله الأعظـم


     من دون كل حواريه ومريـديه ظل شيـخي يدعوني بـ(الحربي) وانتشر هذا اللقب على مدار العشرة أعوام المنصرمة حتى أصبح اسمي الرسمي في "المسيد" وامتـد إلى كل بيـوت القرية والقرى المجاورة ولم أعد أُعـْرف إلا به. بدأ بـ(أحمد الحربي) ثم بعد عدة أعوام أو شهور- لا أدري- أختـفى (أحمد) وأصبح الجميع ينادونـني بـ(الحربي). ولم يزعجني ذلك أبدا ً إلا يوم أمس حين عرفت أن لقبي ذاك لم يكن مما يفـتخر المرء به أو يسعد بحمله ، إنما كان منـقصة ً وميزة ً سالبة في "طريق القوم" وصفة يتحرز منها كبار "المريدين السالكين". عرفت أن ذلك اللقب يحرمني من درجة في "السلك" كم تاقت نفسي للتربع عليها ويبعدني عن "مقام ٍ" طالما حنـَّـت روحي إلى بلوغه. 
    حياتي في "المسيد" مع أبيـنا الشيخ لم تكن تختلف كثيرا ًعن حياة رفاقي "المريدين" في الخدمة والملازمة والانقياد والتسليم والطاعة. حبي له لم يكن ليقل عن حبهم له إن لم أكن أفوقهم حبا ً ولكنهم يقولون عني غير ذلك. ظلوا طوال العشرة أعوام المنصرمة يقولون غير ذلك وليس لديهم من دليل يقدمونه سوى زعمهم بأنني أخاطب أبانا الشيخ وأنا أنظر إلى وجهه وأن هذا دليل ٌ كاف ٍ لما يعتـقدون.  لم ألاحظ ذلك إلا بعد أن نبهتـني تعليقاتهم المستـنكرة، ودهشت كثيرا ً فلقد كنت أعلم أن هذا المسلك غير لائـق في عـُرف "القوم" ويجب أن يجتـنبه "المريد" فكيف سقطت فيه. حاولت جاهدا ً أن أراقب نفسي حتى لا أقع في المحظور مرة ً أخرى ولكن لم يكن من الأمر بـُد ، بدا وكأنه قدرا ً مقدورا.  فرغم مراقبـتي الحذرة لنفسي وانتباهي الدائم إلا أنه دائما ما تجدني وأنا أخاطب أبانا الشيخ وعيناي تخترقان عينيه مباشرة. قال الكثيرون أن هذا قد يقـودني إلى العمى وفقدان نعمة البصر وأنا نفسي لم أكن راض ٍ عن هذا المسلك المشيـن ولكني لم استطع اجتـنابه فالأمر ليس بيـدي. وحينما زجرني أحد كبار "المريدين" يوما ً ما قبل عشرة أعوام أمام الشيخ ، تبسـَّم أبونا وهو يقول: "دعوه إنه الحربي ولن يكون سوى ذلك". تلك العبارة رفعتـني مقـاما ً عليا ً حينها  في نظر بقية "المريدين". لاحظت ُ ذلك خلال تعاملهم اللاحق معي. وكنت مثـلهم طوال السنوات العشر أعتقد أن هذا اللقب تميـيزا ً كبيرا ً وشرفا ًرفيعا ً حباني به شيخي. ظل هذا الاعتقاد ديدني حتى يوم أمس حين واجهت ُ الحقيقة المـرَّة فإذا باللقب منقصة وسـُبـَّة. فيوم أمس فقط  لاحظت أن أكثر رفاقي تخطو المقامات أسرع مني بكثير. فمثلا ً لم أحظ َ بدرجـة "المقـدم" إلا بعد خمسة أعوام ٍ في الخدمة بينما نالها البعض في عامين. صحيح أن شيخي لم يـبخل علي ببعض الأمور العظيمة والمقامات النورانية المهمة التي تتطلب رقيا ً روحيا ً خاصا ً بل جاد علي منها بالكثير. ففي "الحضرة النبوية" الأخيرة عهد لي بالوقوف أمام الباب وما كانت تلك الوظيفة ليلـقاها إلا ذو حظ ٍعظيم. من موقعي المميز ذاك رأيت الكثير المثير. ملائكة الرحمة كانت تحف ذلك الاجتماع العظيم وأجنحتها المذهبة ظلت تصطفق في حبور طوال الليل حول الغرفة الطيـنية الصغيرة حيث تـُعقـد "الحضرة النبوية الشريفة". وأنوارهم الشعشعانية المهيبة أضاءت قريتـنا الصغيرة وما حولها بنور قدسي مبهر وتسبيحهم وتحميدهم المنغم أحال صمت الليل إلى حفلة عرس ٍ رائع. استطعت أن أتعرف على الكثيرين منهم مثل "جبريل" و"ميكائيل" و"إسرافيل" وهم يحلقون صافين في سماء القرية كما أنني رأيت عند الفجر في نهاية "الحضرة" الأقطاب الأربعة وهم يمتطون خيول الغيـب منطلقين في الفضاء. ولم أميـِّز منهم سوى سيدي "عبد القادر الجيلاني" بقامته السامقة ولحيته البيضاء الكثة. وكنت أعلم أنني وحدي من يسمع ويرى فلقد كشف شيخي عني بعض الغطاء ذلك اليوم فأضحى بصري حديدا ً وسعـدت بذلك أيما سعادة.  رغم ذلك إذا بي اكتشف يوم أمس أن لقب "الحربي" لم يكن ذا دلالة عظيمة كما كنت اعتـقد.
    يوم أمس رأيت أنني وبعد عشرة أعوام ٍ من الخدمة المخلصة استحق أن أمتلك الاسم الأعظم. ذلك الذي إذا دعي به الله أجاب وإذا سـُئل به أعطى، وكانت في خيالي الكثير من الأمور المهمة التي يحتاج إنجازها لذاك الاسم. وكعادتي خاطبت ُ أبانا الشيخ مباشرة بذلك في عبارة صريحة لا لبث فيها ولا غموض ودون كناية أو تورية: " أريد الاسم الأعظم". تبسـَّم شيخي بغموض وهو يقول: "إنك الحربي والحربي لا يـُملـَّـك الاسم الأعظم أبدا ً". شعرت بإحباط ٍ عارم ٍ يحتويني فلقد كنت أعتـقد ويعتـقد الجميع أن لقب (الحربي) يعـد ُّ تشريفا ً وميزة ً حسنة فإذا هو منقصة تحول بين "المريد" وبلوغ "المقام". خرجت من عنده حزينا ً كاسف البال وإحساسي بالهوان يعذبني. ولجت إلى داري وقد إسـود َّ الكون أمام ناظري. أقمت جزءً من تلك الليلة تسبيحا ً وتحميدا ً وتهليلا، ثم دعوت المرأة إلى الفراش فأطاعتـني. بعدها احسست بالكثير من الهدوء والسكينة وزال بعض ما بي من إحباط فقررت أن أعاود الكرَّة وأعيد الطلب في الصباح رغم أن ذلك يعتبر من سوء الأدب ولكن نفسي هوَّنت علي الأمر حينها وأقنعتـني بأن شيخي قد يستجيب.
   حين انتهت الصلاة وفرغنا من الباقيات الصالحات وأكملنا قراءة "الراتب" ثم دعونا الله، كانت الأشعة الباهتة تتخلل نوافذ "المسيد" الخشبية البالية بهدوءٍ مثابر. تقدمت من الشيخ، وجهي قبالة وجهه وعيناي تغوصان عميقا ً في عينيه. رددت ذات الطلب: "أريد أن أملك الاسم الأعظم". وعاد شيخي يبتسم من جديد بذات الطريقة الغامضة والحنق يأكل صدري ثم خاطبني بقوله :"اذهب الآن إلى السوق الكبير، سجل لي كل ما تراه، كن متيقظا ً، ولا تعد إلا عند الغروب". لم أجد أية علاقة بين أمنيتي العزيزة وما يحدث في السوق فعدت أكرر طلبي متجاهلا ً التوجيه ليرمقني الشيخ بنظرة ٍ هائلة زلزلت دواخلي حتى النخاع ، للحظة ٍ خلت ُأنني احترق وأن جسدي سيتحول إلى هباء تزروه الرياح فدهمني رعبٌ هائل، لأول مرة أحس بالرعب فأطرقت ببصري إلى الأرض دون وعي مني. لأول مرة أطرق في حضرة الشيخ ولا أجد الجرأة للنظر في عينيه.
     خرجت من عنده والاضطراب يقيد خطواتي. كانت السوق كما عهدي بها تضج بالغادين والرائحين من المشترين والباعة المتجولين وأصحاب المحال الثابتة من بقالين وجزارين وبائعي الخضر والفاكهة نساء ورجالا وأطفالا ولم يكن هناك ما يستحق التسجيل أو يلفت الانتباه إلى أن ظهر ذلك الحطـَّاب العجوز، حينها أحسست أن في الأمر شيئا ً يستحق الملاحظة فلقد كان الرجل عجوزا ً نحيلا ً، ضعيفا ً ومتعبا، يسعل باستمرار وهو يحمل حزمة ً ضخمة ً من الحطب تفوق قدرته بكثير، يسير بها في عناء ومشقة وهو يكاد أن يتهاوى بين لحظة ٍ وأخرى. فكرت أن اساعده على حملها. وقبل أن أخطو نحوه إذا بشاب ضخم الجثة قوي البنيان مفتول العضلات يتـقدم نحوه مهرولا ً. وبدلا ً من أن يساعده في حمله الثـقيل كما كنت أتوقع إذا به يوجه إلى الحطـَّاب العجوز لكمة ً هائلة ً بقبضته الحديدية ألقت الأخير أرضا ً ثم يحمل حزمة الحطب تلك ويعدو بها بعيدا ً تاركا ً الحطـَّاب المسكين في سقطته العاجزة. أسرعت نحو العجوز اساعده على النهوض. ابتسم ابتسامة ً متعبة وهو يشكرني ثم انثـنى لا يلوي على شيء ليغوص في الزحام. 
    أخذت أفكر في ما حدث والمرارة تسكن حلقي كنت حانقا ً وموتورا ً بينما احساس خفي بالذنب يعذبني. كان علي َّ أن أدافع عن ذلك الحطـَّاب العجوز ولكنني لم أفعل وهذا يشعرني بمزيج من العار والخزي. أخيرا ً اقنعت نفسي بأن الأمر كان مفاجئا ً لي وغير متوقع. ولم ألبث إلا لماما ً حتى عاد ذات الحطـَّاب بحزمة أخرى متوجها نحو ساحة المبـيع. بدا أكثر تعبا ً وإجهادا ً وازدادت حدة سعاله فأشرت إليه مشجعا. وفي لمح البصر ظهر ذاك الشاب المجرم مرة ً أخرى ليلكم الحطـَّاب العجوز بكل ما أوتي من قوة فيلقيه أرضا ً ثم ينحني ليحمل حزمة الحطب في هدوء. ولم أضيع أي وقت في التفكير هذه المرة. اشهرت خنجري الصقيل وأنا أعدو نحو الشاب وعيناي تقدحان شررا ً. ألقى علي الحقير نظرة ً هازئة ثم أشار نحوي بحركة ٍ بذيئة ٍ وهو ينطلق مسابقا ً الريح وأنا خلفه أسبـَّه وألعنه، ولكن بدا وكأن ذلك المجرم من قبيلة الجان فلقد كان يعدو بسرعة ٍ غير متصورة ولم يكن أمامي سوى أن اتوقف عن المطاردة وقد نال مني التعب والإرهاق وصدري يعلو ويهبط مجهدا ً بينما إحساسي الخانق بالعجز وقلة الحيلة يمزق نياط قلبي. آهـٍ لو كنت أملك الاسم الأعظم. أخذت أدعو على ذلك الوغد بكل ما يخاف ويحذر من عظيم الأمراض والشرور وسوء الخاتمة. وحينما عدت ُ إلى الحطـَّاب وجدته قد اختفى.
    كان الغروب قد أذن إلى جانب ذلك لم يكن بي رغبة في مواصلة المراقبة فلقد بدت لي الحياة بائسة ً ظالمة ً ولئيمة ، حياة تافهة لا تستحق أن نحياها. فعدت التقط خطواتي المنهكة نحو "المسيد" مهزوما ً جريح القلب ومتعبا. كان أبونا الشيخ يجلس أمام "المسيد" متربعا ً على المصلاة كعادته وحوله بعض "المريدين" ، بدا وكأنه فرغ من الوضوء لتوه فلقد كان التراب أمامه مبتلا ً بشكل دائري. نظر في وجهي بإمعان ثم خاطبني بهدوء: " إن ذلك الحطـَّاب العجوز يملك اسم الله الأعظم". قالها لأَخـِر َّ أمامه على التراب لا حول لي ولا قوة.
                                        أم درمان - أغسطس 2011م 
أصل هذه القصة حكاية شعبية يرويها المتصوفة السودانيون منسوبة إلى الشيخ عبد الباقي المكاشفي. ت: 1960م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق