التسميات

الخميس، 27 يونيو 2013

همـس الجنــون 3

   إن (صوت من العالـم الآخـر) هي القصـة الأخيـرة في مجموعة (همـس الجنون) ولكن نـرى أن لا علاقة لها ببقيـة قصص المجموعة فأحداثها تـدور قبل الميلاد وفي عالم الملكـوت كما أنها طرحت بعض الأسئلة الوجوديـة وحاولت الإجابة عليها بينما عملت بقية قصص المجموعة على الاقتصادي الاجتماعي السياسي في الثلث الأول من القرن الماضي وفي عالـم المُـلـْـك.  
  تلخيص القصة أن (توتي) كاتب الأمير الفرعوني يمـوت ومـن ثـم يتحرر روحـه لينطلق متنقلا ً في العالم ويرى فيحدثـنا بما يـرى. يقول (توتي) عن كيفية تنقـله: 
(لم تحدث حركة في الواقـع وإنما كان يكفي أن يتجه فكـري إلى شيء حتى أجـده ماثـلا ً أمامي وصـار بصري شيئا ً عجيـبا ً لا يعصى أمـره شيء. صار قـوة ً خارقة ً تـشـق الحجب وتتخطى السدود وتنفـذ إلى الضمائر والأعماق) ص300. 
إن هـذا الوصف يذكرنا بالآية الكريمة (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). صار (توتي) يرى عالمي الظاهر والباطن بلا حجاب. فماذا رأى؟! إن روح بكل هذه القدرات نتوقع منه الكثير المثير الخطر ولكن (محفوظ) يحبطنا. لقد رأى (توتي) ما يمكن أن نراه نحن أيضا ً دون أدنى مشقـة ودون الحاجة إلى كل تلك القـدرات الخـارقـة :(كذب ونفاق، خيانات، مؤامرات ودسائس ..إلخ). كما أنـه رأى زوجته تتـزوج في المستقبل وسـر لذلك وهذا ما يمكن أن نراه نحن أيضا ً ولكن لـن نسـر بـه بالتأكيد. كما أن (توتي) زعم أنه بقدرته الخارقة تلك اكتشف أسباب دكتاتورية بعض الحكام يقول :
(ثم وقع بصـري على الحاكم (تيتي) الذي اشتهر بالقسـوة والبطش فنظرت إليه بإمعان وسرعان ما تكشـف لي عن جسـم مهزول مريض الأعضاء يشكو مـرَّ الشكوى من أسنانه ومفاصله وكلما ألـح عليه الألم تمنى لو يستطيع بتـر الفاسـد من جسمه ولذلك تملكتـه فكرة البتـر فلا يتردد عن بتـر المعوج من رعاياه بعنف ٍ لا يعرف الرحمة). ص302. 
كما أن الوزير (ميتا) الذي حارب فكرة الصلح مـع الحثيين بكل قواه وطالما حرض على القتال ورفض مبـدأ السلام يرى (توتي) من موقعه المميـز أن أمعاء الرجل هي السبب يقول: 
(رأيت عقلا ً نيرا ً ولكن أمعاءه ضعيفة فستبقي فضلات الطعام طويلا ً فتـلوث دمه في دورته فيذهـب إلى عقـله فاسـدا ً ويغـشى نـور أفكاره حتى إذا خرجت من فمه كانت شرا ً كبيرا). ص 302.  
بعد هذا التفسير الهائل لا تملك إلا أن تقهقـه. فهل كان (محفوظ) يسخر منا؟ لا أظـن ولكن المرعب أن (توتي) يجتر هذا الغثـاء من موقـع المطلق ، المالك عين الحقيقة مما تتضاءل معه أي محـاولة أخـرى للكشـف . 
ويواصل (محفوظ) من موقع (توتي) المميز ليطرح هذا السؤال الخطير :
(قال (إخناتون) أن الرب هو (آتون) وقال (حار محب) أنه (آمون) وهناك قومٌ يعبدون (رع) فلماذا يتركنا الرب في شقاق). ص302. 
إن هذا الشك هو بيت القصيد بل هو ما سعى إليه (محفوظ) منذ البداية. وتأتي الإجابة على السؤال حين يرغـب روح (توتي) عن مطالعـة الأفراد ليغيبـوا عـن بصره كأفـراد ويصيروا كتلة ً واحدة ملتحمة ثم يشع ظلامهم نـورا. يقـول (توتي) :
(ورأيت ذلك الظلام الشامـل يشـع نـورا ً شاملا ً، فـإن الأنوار الخافتـة المتهافتة التي تخفـق في كل مـخ ٍ على حـدا، ضعيفـة ٍ خابيـة ً، اتصلت ْ في المجموع الملتحم المتماسـك ولاحت نـورا ً قـويـا ً باهرا ً، رأيت ُ في لمعانها حقا ً بـاهرا ً وخيـرا ً صافيـا ً وجمالا مؤتلقا). ص303. 
برافو ، أخيـراً استطاع (توتي) أن يستفيد من بصره العجيب.
 ويواصل الرجل مستنتجا ً :
(أيقنت أن ذلك النـور الذي بهرني إن هو إلا نقطـة ٌ في السماء التي سأعـرج إليها). ص303.

همـس الجنــون 2

     إن (محفوظ) في قصة (إصلاح القبـور) يكـاد يصفعنـا بالحقيـقـة صفعـا ً: (إن القيـم مـا هـي إلا نتـاج لـواقـع ٍ مادي، إن تحـرَّك تحـرَّكـت وإن تـلاشى تلاشـت القيـم كـأن لـم تكـن) . 
فـ(نعمات) الشابـة الحسنـاء التـي اختطـف المـوت زوجها الشاب بعد أقل من عـام ٍ مـن زواجهما ليسـت بجاحـدة ولا "خائنـة عـُشـرة" بـل تتحـلى بأعـلى درجـات الوفـاء والإخلاص لزوجها الراحـل.  فلقـد كانت تبكي عليه ليـل نهـار وتـزور قبـره كـل صبـاح مـن يـوم الجمعـة لتـزرف دموعـها بيـن يـديـه، ويؤلمها شكـل المقبـرة المتهـدم والفنـاء المعفــَّر فتـفكـر في صرف مكافـأة المرحـوم أو حتى بيـع جـزء مـن فنـاء المقبـرة لتـرميـم القبـر وصيانـتـه :
(فغـدا ً حينـما يجـدد القبـر وتطلـى الجـدران ويفوح المكان بشـذا الريحـان يتـنـسم قلبـها المحـزون نسـائم العـزاء البـارد وتجـد بالأنـس فـي الوفـاء سلـوى عـن وحشـة الوجـود) ص 245.
إن هـذا هـو عيـن الوفـاء والإخلاص ولكـن هـذه القيـم النبـيـلة تحتـاج لواقـع ٍ مـادي يتعهدها بالرعايـة والسقيـا ليضـمن ديمـومتـها. كـان الواقـع الـذي انتجـها هـو وجـود ذلك الـزوج إلى جـوار (نعمات) ورعايتـه لها واهتمامـه وحياتهما المشتـركة جميعـها ، وبرحيـل الزوج اصبحـت تلك القيـم مجـرد مقـولات معنـوية معلقـة فـي الفـراغ لا يسندها واقـع معيـش. 

وقـد تبخـَّرت تلك المقـولات عنـد أول اختبـار حقيـقي تتعـرض لـه (نعمات) بعـد رحيـل زوجها الـذي لـم يجهـد (محفوظ) نفسـه في اختيـار اسـم لـه ناهيـك عـن وصفـه أو تصويـره. وكـل ما نعلمـه عـن ذلك الزوج منسـوب إلى (نعمات) وكـأن وجـوده مستمـد ٌ مـن وجـود الفتـاة :
(عينـان ألفـت أن تطالـع فـي نظراتـهما الحنان والمـودة ولسـان ٌ ظـل َّ ينـاغيـها عـام أو بعـض عـام ٍ المنـاغـاة الحلـوة السعيـدة وسـاعـدان كـانـا يضمـانـها إلى مرتـع الـوداد والهـوى). ص 244.
بهذا الوصف نجـد أن (محفوظ) قد اختـزل الرجـل في واقـع ٍ مـادي دينـاميكي منـْـتــَفـَع بـه، فأنتـج بـدوره قيـم الوفـاء والإخلاص، وبـزوال ذلك الواقـع المعيـش ستـتـبـخر تلك القيـم كـأن لـم تكـن بـل تـصبـح فـي نـظـر المثالييـن أنفسـهم معصيـة ً للـرب. ص 247. 

ولنـقـرأ ما يـأتي :
(كانت أول عهـدها تمضي إلى المقبـرة لا تلـوي علـى شـيء فلا تـرى مـن الدنيـا شيئـا ً، أمـا بعـد الأشهـر الأولى فلـم يمنـعـها الحـزن مـن أن تسيـر كبـقيـة خلـق الله بعـينيـن مفتوحتين) ص 245.
وبعينيـها المفتوحتيـن هاتيـن رأت رجلا ً يلتهمـها بنـظـراتـه فـي غـدوها ورواحـها مـن وإلى المقبـرة. ذلك الـرجـل الذي سيخطبـها لاحقـا ً والذي ستنـقطع بعـد خطبتـه عـن زيـارة المرحوم زوجها كما درجـت كـل يوم جمعـة متعللة بقولها :

(ألـيس الوفـاء للقبـر خيـانـة لـه ) ؟! 
"الضميـر فـي لـه عائد إلى لخطيـب الجـديـد". وتـرد على السـؤال بالإيجاب. 
لاحـظ أن (محفوظ) العظيـم يستعمـل كلمـة القبـر كمتـرادف وبـديـل للـزوج الراحـل "الوفـاء للقبـر" في مواجهة بنـي آدم من لحـم ودم ومشـاعر وأحاسيـس ملتهبـة تجـاه بطلتـنا وهو الخطيـب الجديـد حتى ينصر الثـاني على الأول دون أي استنكار من جانب القارئ وليكسب التعاطف لبطلته (قبـر في مواجهـة إنسـان). وهنـا مربـط الفرس :(إن هنـالك واقـعا ًماديـا ًجـديـداً أنتـج قيـم وفـاء وإخلاص لصالحـه ومـن الطبيـعي أن تنتـصر علـى تـلك القيم المعلقـة فـي الهـواء والتي تخـص الراحـل).
ولما انتصـف العـام جـاءتها مكـافـأة زوجـها المرحوم. فـمـاذا حـدث: 

(لـم تـفكـر في تجـديد القبـر المهـدم ولا غـرس الفنـاء المعفــَّر ولا عاتبـت نفسـها على إهمالها) ص248
بـل أنفقـت المبلـغ في جهـاز عرسـها المرتقب وحيـن لم يكـف ِ فكـرت في بيـع فنـاء المقبـرة أيضا ً.
نلاحظ أيضاً أن (محفوظ) لم يهتم بـرسـم ملامـح العريـس الجـديد كمـا لـم يهتـم بـرسـم ملامـح سابـقـه ولا عـدد مـزايا أحدهـم أو فضائـله ولا أجـرى مقـارنـة بينهما فالمعـركة ليسـت بينهما بـل لا توجـد معركـة أو تنـافس أصلا ً إنـه قانـون وجودي وحتميـة أزليـة تسيـر عليـها الحيـاة رغـم أنـف الجميـع. إنها ثنائيـة الوهـم والحقـيقـة وستنتـصر الحقيقـة دائـما ً مهمـا أضفى خيالنـا على الوهـم من جمـال وقـداسة.

  ورغـم البـؤس الـذي سيهبـط علـى قلبـك وأنـت تختـم تلك القصـة إلا أنـك لا تمـلك سـوى التأميـن بعقـلك علـى مـا جـرى. وإن عجزتَ عن ذلك فما عليـك إلا أن تـتـخيـل أنـك العريـس الجـديد ولـيس الراحـل العـزيـز وسيـفيـض قلبـك حينـئذٍ بالسـرور..!

الاثنين، 17 يونيو 2013

ميـن غيــرك

اتحسسك ...
تعويذه من ناب الزمن
اتنفسك ...
بكل مسامات الشجن
طيفك معاي
أقرب من الخوف والوهن
اسمع صداك ِ وانتفض
أصارع الموج العدم
في حضرتك أسكر أتوه
هدأة وسن
جوايا إنت ِ بحس َّ بيك
مهما تبدلت الفصول
الطلعه والصوت انسجن
واتحسسك ...
تعويذه من ناب الزمن ..!
يا فرحه يا عبث الطفوله ، برآءتا
يا مرسى فيك عيني هدن
معاك يا قدري النبيل بلقى الأماني اللتنسن
وكل الحروف الضايعه في غبش الكلام فيك اتلقن
واتحسسك تعويذه من ناب الزمن ..!
ريدك عميق ضرب الجذور
مسح الخطاوي اللتمشن
وكل الحروف الجايه بعدك في غناي
كانت صداك
عنـِّك حكن
جايك ِ شان اهدأ وأنوم
جايك ِ يا أجمل سكن
تعبت ْ خطاي
من طول غناي
ودفعت َ لليل التمن
واتحسسك ...
اتحسسك تعويذه من ناب الزمن ..!
يوليو 1997م

لـو كنـت ِ حبيبـتي

نقشت َ ملامحك جوَّه الخاطر
وأهديتك أنغام غريـِّده
زفـَّيتك للقمره عروسه
وتوَّجتك للغيمه نشيـِّدة
إلا ملامحك كانت كذبه
زول في بالي وصوره بعيده ..!
لو كنت ِ حبيبتي ...
زي ما إنت ِ حبيبتي الحلوه
كان دفـَّيت ِ طويرة الريده
سقيت ِ القمره رحيق النجوى
كنت َ بسامر همسة رمشك
دون عيني ما تشيلي الخطوه
كنت ِ بتحفظي ملمح ذاتي
تلولي الريده
تتاتي السلوى ..!
لو كنت ِ حبيبتي ...
زي ما إنت ِ حبيبتي في بالي
مواسم فرح الطرفه الباكيه
مراسم عشق المطر الحالي
بسيمة طفله حليوه ولوفه
ربابة زول بتمزق يلالي
كان اتمدد فرحك غيمه
وكنت ِ ملكتي القلب الغالي ..!
أبريل 1997م

بحلــم بيــك

بحلم بيك ِ أصيله وطيبه
زي نسمات جاتنا الدغشيـَّه
بحس زي إنك في جوايا
قاعده تغسـِّلي جلابيـَّه
أو بتتمري في كوريـَّه ..!
توبك أخضر
وبسمه تضوي الوش الأسمر
 أجـُر َّ البنـْبر
بين إيديك ِ الطيبه اْتحكر
أقوم أحكيلك عن يوم باكر
عن حاجات لسـَّع في الخاطر
وعن حاجات صعبانه عليا ..!
ليه بتنسم لمه أشوفك ريحة البن ؟!
وضل تمرايا وحقل قطن
والتبروقه والشبريـَّه ؟!!
وتتخللني ريحة المطره 
ومربط بقره
وناس قاعدين في ضل الشدره
يسنـُّـوا ملودات الضهريه
ليه بتزغرد لمه اضمك بعيني
بنات الفكره
وليل الذكرى
ويشرق يمرق فجر الحِلـَّه الورانيه ؟!
الخرطوم - مارس 1998م

افتـقــدتك

الطيور الخدرا في عينيك ِ
دغدغت ْ المطر ..!
إلا المطر فارق خطاوي الفرحة
لمـَّن شاف جبينك زي هلال مليان شجن ..!
وافتقدتك  ... لمـَّه شفت َ القمرة من عينيك ِ راحلة
أنا فت َ منـِّك وما مشيت ...!
نمت في ضلك سحابة وما طريت 
صمت الزِّحام 
افتقدتك لمـَّه مات وهج الكلام
لمـَّه ضاق سمع المسام
وكنت طالع فوق سرير القمرة 
ساكيني الضلام
كانت النجمات صبايا
راجعة من عرس الغمام
وكنت انت ِ شرافة الحرف القبيـل 
مختوم على ريش الحمام ..!
ورجعت أسأل ضَي عيونك 
ما لقيت غير بهجة الألم القديم
وغيمة تتسكع على الضُّل الحزين ..!
والطيور الخدرا من عينيك رحلت
سيرة مرقت 
شايلة في الشك اليقين ..!
افتقدتك ضوء وإلفة
وكت سمعت النمة والدوباي 
رزيم القيف مع الشاشاي
ونجمة خدَّك الزَّفة
كانت خدودك ودعتين 
كانت عيونك شمعتين
كانت ملامحك تشبه البت الزمان 
شالها الحنين
وافتقدتك ، 
لمه شفت القمره من عينيك ِ راحلة
والطيور الخدرا بتسافر بعيد ...
أنا فت َ منـِّك وما مشيت ْ
ما مشيت ْ ..!
.............
الخرطوم - أكتوبر 1997

مـا محتــار

ما محتار ... خطواتي هلال
مارق
طارق باب العتمه ..!
شايل قلبي النازف
كاتف ساق الآهه وأيد النقمه ..!
همسك نظره ولوفه
وشايف
طايف شتـَّت ْ شبح الضلمه
وضوء الأمل الباسم
راسم عينين طفله وميلاد كلمه ..!
ما محتار ... خطواتي هلال
في العتمه مسافر
دافر عشمي وعينيك نجمه
وإنت ِ معاياهديـَّه
رضيـَّه
تصافحي النور وترشـِّي النسمه
وإنتي معايا غنيوه
حليوه
ترد الروح وتتاتي البسمه
غيرك مين بسماته غوالي
تهدهد روح الحزن الأسمى ؟!
ما محتار ...
خطواتي هلال ..!
الخرطوم - مايو 1999م

السبت، 1 يونيو 2013

أنـا متـأكـــد

  تأخرت الباخرة عن موعدها كثيراً. وظللت ُ بميناء (كوستي) أنتظر قدومها في الفندق الصغير المقام على شاطيء "النيل الأبيض" في عاصمة المحافظة يرافقني الكثير من الملل والتوتر، وأنا أغالب رغبة ً عارمة ً تدفعني دفعا ً لزيارة بيت المرأة فأزجر نفسي بالكثير من الغلظة مستعينا ً عليها باستحضار مشاهد الجحيم وذكرى زوجتي الجميلة. وفي اليوم الثالث أنهارت مقاومتي بفعل الملل والضجر ورفقة السوء لأجد قدماي تقودني إلى المكان المعهود متجاهلا ً ما أخذته على نفسي من عهود ٍ ومواثيق سابقة بأن لا أغشى تلك البؤرة مرة ً أخرى. 
  استقبلتني (أم زمام) وفتياتها الخمس بالكثير من الترحاب والشوق فلقد كنت أجزل لهن العطاء دائما ً. وجدت ُ المرأة الخمسينية قد ضمت إلى الخدمة فتاة ً أخرى في ميعة الصبا، عظيمة الأرداف، ناهدة الصدر، لم ينخر الليل بؤبؤ عينيها بعد، فخصتني بها لأكون أول الزائرين لتلك المدن المسحورة. وغرقت في النيران المشبوبة لأيام ٍ عدة ورفيقتي البكر تنادي هل من مزيد، وأنا أستجيب وقد غاب عني الكون أجمعه لا أعقل سوى سياط اللذة اللاهثة. وحين جاءت الباخرة بعد عدة أيام وألقت مرساتها وهي تطلق صافرتها المميزة إذا بي أفيق عن تلك السكرة فيحاصرني الإحساس العظيم بالإثم من كل جانب وأنا أجمع بعض جسدي وذاكرتي لألحق بموعد الرحلة. ولم أجد سوى ربان الباخرة لأصب عليه جام غضبي فلولا تأخره عن الموعد المحدد للسفر لما حدث مني ما حدث.
  طوال رحلتي نحو (ملكال) والتي استغرقت سبعة أيام ٍ لم أمل ّ من ملازمة الاستغفار والصلاة في هدأة الليل عسى أن يغفر الله لي ما ترديت فيه من إثم وكنت أحس دائما ً أن الله بعيد ٌ عني ولن يغفر لي أبدا ً فلقد تعدى عصياني كل الحدود وتكرر مني مرارا ً بعد كل توبة. 
  حين ألقت الباخرة مرساتها في (ملكال) لم أضيع أي وقت، أخذت أتنقل وسط تلك الأدغال بين القرى الصغيرة المتناثرة داخل الغابة يرافقني ثلاثة صبية من أبناء المنطقة أجمع بضاعتي. كان السكان يبيعون لنا ما يجمعون من ريش النعام وسن الفيل والجلود بأثمان يرونها عظيمة وكانت أرباحنا في (الخرطوم) تتجاوز المائة في المائة وأرباح المصدرين تزيد عن ذلك كثيرا ً. 
  في (كدمبجو كالا) وهي تبعد عن (ملكال) مسيرة يوم حيث موطن قبيلة "الشلك" وهي أول مرة أزورها فيها، كان لديهم القليل من ريش النعام وسن فيل واحدة والكثير من الجلود لمختلف الحيوانات. منحتهم ثمنا ً مجز ٍ إذ أنها المرة الأولى التي أزور فيها تلك القرية فأردت أن أترك لدى السكان انطباعا ً جيدا ً عني ثم أخذت ُ منهم العهود ألا يبيعوا لغيري في مقبل الأيام. كان (رث) القبيلة رجلا ً متوسط القامة لامع السواد نحيل الجسد يلوح من عينيه ذكاء فطري وبعض البريق. كان هو الوحيد من بين أفراد قبيلته من يتحدث العربية، ولم تكن سوى بعض المفردات البسيطة التي توصل لك المعنى بالكثير من المشقة. وحين عرفت أنه وأفراد قبيلته مسلمون سعدت بذلك أيما سعادة وأحسست بالإلفة بينهم وزال الكثير من التوتر الذي غالبا ً ما يتملكني في رحلاتي إلى جنوب البلاد. وكان أن أدركتني صلاة المغرب بينهم فتوضأت متجها ً برفقة (الرث) إلى المسجد الذي يتوسط القرية وهو قطية كبيرة من نبات النال جيدة التهوية مثله مثل سائر بيوت القرية وتحيطه الكثير من الأزاهير البرية ورمال بيضاء فرشت أمام بابه الموارب بالكثير من العناية وفي الداخل كانت بروش السعف الأبيض مصفوفة في خطوط مستقيمة باتجاه النهر مواجهة للقبلة. لاحظت أنهم لم يرفعوا الآذان ولكني تغاضيت عن ذلك وحين اصطففنا للصلاة إذا بـ(الرث) يقدمني للإمامة فرفضت رغم إلحاح الرجل فلقد لاحت لي نيران (أم زمام) وفتياتها الخمس تبعدني عن إمامة القوم عدة فراسخ. وكبـَّر الرجل ثم بسمل وأخذ يتلو بلغة ٍ عربية ٍ بسيطة ٍ وصوت ٍ شجي ٍ قائلا : 
- يا الله .. أنا متأكد .. وناس واقف وراي ديل متأكد .. النار حقك .. البحر حقك .. التراب حقك .. الهوا حقك .. وأنا حقك .. وناس واقف وراي ديل حقك .. وناس تانين كلهم حقك .. يا الله .. أنا متأكد .. وناس واقف وراي ديل كلهم متأكد .. إنت رسـَّلـْت َ(محمد) ولد (عبد الله).. الله أكبر ..! 
وركع الإمام وركعنا خلفه وأنا اغالب ضحكاتي ثم استوينا ثم خررنا ساجدين ثم سلـَّم الرجل وسلـَّمنا من بعده. وانتهت الصلاة. 
  ولا أستطيع أن أصف إحساسي تلك اللحظة مزيج من الحزن والدهشة والرثاء كلها تتماذج في داخلي إلى جانب سعادة عظيمة سببها هذه الفرصة التي لاحت لي أخيرا ً في هذه القرية المنسية وسط الغابات الاستوائية لأكفر عن سيئاتي الكثيرة خاصة زياراتي المتكررة لـ(أم زمام) وفتياتها الخمس. فعقدت العزم على تعليمهم صحيح الدين حتى لو تأخرت ُ عن موعد رحيل الباخرة، فلئن يهدي بك الله رجلا ً خير لك من حمر النعم فما بالك بقبيلة بكاملها. 
  أخبرني (الرث) لاحقا ً أن قبيلته قد اعتنقت الإسلام منذ وقت ٍ طويل، وكان (الرث) السابق يحفظ السور ويصلي بهم كصلاة "المندكورو" ولكن بعد وفاته لم يجد خليفته الحالي من يحفظ تلك السور فأهمه الأمر كثيرا ً بحكم موقعه من قومه وظل يبحث جاهدا ً عن حل ٍّ لهذه المعضلة إلى أن أرسل الله له في نومه رجلا ً من "المندكورو" قرأ عليه تلك الصلاة فحفظها وظل يؤم بها قومه لأكثر من عشرين عاما ً وحفظها جميع أفراد القبيلة وأصبحت هي صلاتهم الوحيدة
  ظللت ُ لثلاثة أيام ٍملازما ً للرجل، أفقهه بما علمت من الدين كنت فيها في قمة سعادتي وشعور ٌ عظيم ٌ بالتقوى والقرب من الله يلتحفني فأحس ُّ بالكثير من السعادة والثقة. ثم أخذت أتلو على الرجل من قصار السور ما يعينه هو وأفراد قبيلته على أداء الصلاة وهو يردد خلفي ولم تكن المهمة باليسيرة. وبدأت بسورة (الفاتحة) بعد أن بيـَّنت ُ له أهميتها وما قيل في فضلها وأنها السبع المثاني وأن لا صلاة تصح بدونها. ثم سورة (الناس) ثم (المسد) والأخيرة كنت حريصا ً على تحفيظه لها رغم المشقة التي لاقيتها في سبيل ذلك إذ أنني منذ صباي الباكر أجد في نفسي موجدة ً عظيمة ً على (أبي لهب) وزوجته وما فعلاه بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فأردت ُ أن تخزيه هذه القبيلة في قبره بتلاوة تلك السورة صباحا ً ومساء. 
  ثم أزف الرحيل وودعتني القبيلة بالكثير من الحزن والإحساس بالامتنان وودعتها بالكثير من الغبطة وقفلت ُ عائدا ً إلى (ملكال) ومنها عن طريق الباخرة متجها ً إلى (الخرطوم).
   وسارت الباخرة ليومين بسرعة ٍ عظيمة ٍ فلقد كانت الريح مواتية ً ومجرى النهر في تلك المنطقة عميقا ً يخلو من الجزر. ولم يعترض سبيلنا غير أفراس النهر الضخمة والتماسيح الهائلة والتي كثيرا ً ما تسبح قرب مروحة الباخرة فتدفع حياتها ثمنا ً لتلك المجازفة.
  وفي صباح اليوم الثالث وكنت جالسا ً على سطح الباخرة على مقعد ٍ خشبي صغير وقد وضعت ساقا ً على ساق بعد أن أشعلت سيجارتي الثالثة وأنا أراقب شروق الشمس من خلف النهر بالكثير من المتعة وقد أحاطت بي الخضرة من الجانبين. الجميع لم يغادروا أسرتهم بعد وأنا وحدي وسط تلك الطبيعة الساحرة أستنشق نسمات الصباح. وإذا بالماء ينشق فجأة ً عن الرجل وهو يطفو قرب جسم الباخرة ثم يستوى واقفا ً على سطح الماء ليسير مقتربا ً مني بخطوات ٍ واثقة ٍ والأشعة الثاقبة تتكسر على حبيبات الماء العالقة بجسده المبتل فيبدو وكأنه يتوهج. وقف الرجل أمامي في شموخ وقدماه تلامسان سطح الماء دون أن يغوص فيه مخالفا ً لكل قوانين الجاذبية والطفو والموائع والسوائل و(أرشميدس) وغيره وقد وضع "كوكابه" على كتفه، ومن حوله التماسيح وأفراس النهر وهي تنفث الماء بقوة ٍ دون أن تهتم بالرجل الذي توسطها بل بدا وكأنها لا تراه.
طرق الرجل بـ"كوكابه" على جسم الباخرة ثلاث مرات منبها ً ثم رفع صوته يخاطبني بقوله : 
- (مندكورو) ... أنا نسيت سورة بتاع (الفاتحة). إنت أقرأ تاني.
ولم أكن أقوى على النطق. عيناي جاحظتان معلقتان بالرجل الذي يسير على الماء إلى جانبي بمحازاة الباخرة المسرعة غير مصدق ثم وجدت صوتي لأكبر الله بصوت ٍ شفيف. فأعاد الرجل عبارته مرة ً أخرى. تمالكت ُ نفسي لأخاطبه متسائلا ً:
- كيف عملت كلام ده ؟ كيف تمشي على المويه ؟! 
- قريت صلاة حقنا القديم ومشيت.  طوالي أنا أقرأ صلاة حقنا القديم وأمشي.
قالها وهو يضحك بالكثير من السرور. في تلك اللحظة غبت ُ عن كل ما حولي أو غاب كل ما حولي عني. بدا لي الكون صغيرا ً تافها ً لا يسوى جناح بعوضة. وجدتني أخاطب الرجل بصوت ٍ غريب ٍ لا يشبه صوتي قائلا ً: 
- صلاة حقك القديم برضو صاح. صلاة حقك القديم كويس كتير. ارجع بلد واقرأ صلاة حقك القديم. وخلي ناس كلهم معاك يقرأوا صلاة حقك القديم ..! 
- ربنا يقول صاح ؟! 
- ربنا يقول صلاة حقك القديم صاح أكتر من صلاة حق "المندكورو"..!
أجبته بتلك العبارة بلا تردد فابتسم الرجل عن أسنان في بياض الحليب وهو يلوح لي مودعا ً ثم يستدير ليعود من حيث أتي وهو يسير على سطح الماء ثابت الخطو كمن يسير على شارع مسفلت ومن حوله التماسيح الضخمة وأفراس النهر وهي تتصارع وتنفث الماء في رشاقة ٍ دون أن تهتم بذلك الزائر الغريب بل يبدو أنها لا تراه. أخذت أتتبعه ببصري وهو يبتعد ويصغر ويصغر حتى بدا كنقطة ٍ سوداء صغيرة وسط مجرى النهر إلى أن اختفى. ثم ما لبثت أن غلبتني عواطفي لأجد نفسي وأنا أجهش بالبكاء. 
الخرطوم يونيو 2013م
هذه القصة مأخوذة عن وقائع شائعة يقال أنها حقيقية. حدثت منذ نحو مائة عام وبطلاها سودانيان شمالي وجنوبي تحمل ذات المضمون.
الرث : هو عظيم قبيلة الشلك أو الشيخ.
مندكورو: لقب يطلقه سكان جنوب السودان (جمهورية جنوب السودان حاليا ً) على مواطنيهم الشماليين من سكان الأواسط الناطقين بالعربية.
الكوكاب : حربة أفريقية مشرشفة الأطراف.