تأخرت
الباخرة عن موعدها كثيراً. وظللت ُ بميناء (كوستي) أنتظر قدومها في الفندق الصغير المقام على شاطيء "النيل الأبيض" في عاصمة المحافظة يرافقني الكثير من الملل
والتوتر، وأنا أغالب رغبة ً عارمة ً تدفعني دفعا ً لزيارة بيت المرأة فأزجر نفسي بالكثير من الغلظة مستعينا ً عليها باستحضار مشاهد الجحيم وذكرى زوجتي الجميلة. وفي اليوم
الثالث أنهارت مقاومتي بفعل الملل والضجر ورفقة السوء لأجد قدماي تقودني إلى المكان المعهود متجاهلا
ً ما أخذته على نفسي من عهود ٍ ومواثيق سابقة بأن لا أغشى تلك البؤرة مرة ً أخرى.
استقبلتني (أم زمام) وفتياتها الخمس بالكثير من الترحاب والشوق فلقد كنت أجزل لهن
العطاء دائما ً. وجدت ُ المرأة الخمسينية قد ضمت إلى الخدمة فتاة ً أخرى في ميعة الصبا،
عظيمة الأرداف، ناهدة الصدر، لم ينخر الليل بؤبؤ عينيها بعد، فخصتني بها لأكون أول
الزائرين لتلك المدن المسحورة. وغرقت في النيران المشبوبة لأيام ٍ عدة ورفيقتي البكر
تنادي هل من مزيد، وأنا أستجيب وقد غاب عني الكون أجمعه لا أعقل سوى سياط اللذة اللاهثة. وحين جاءت الباخرة بعد عدة
أيام وألقت مرساتها وهي تطلق صافرتها المميزة إذا بي أفيق عن تلك السكرة فيحاصرني الإحساس العظيم بالإثم من كل جانب وأنا أجمع بعض جسدي وذاكرتي لألحق بموعد الرحلة. ولم
أجد سوى ربان الباخرة لأصب عليه جام غضبي فلولا تأخره عن الموعد المحدد للسفر لما
حدث مني ما حدث.
طوال رحلتي نحو (ملكال) والتي استغرقت سبعة أيام ٍ لم أمل ّ من ملازمة
الاستغفار والصلاة في هدأة الليل عسى أن يغفر الله لي ما ترديت فيه من إثم وكنت
أحس دائما ً أن الله بعيد ٌ عني ولن يغفر لي أبدا ً فلقد تعدى عصياني كل الحدود
وتكرر مني مرارا ً بعد كل توبة.
حين ألقت الباخرة مرساتها في (ملكال) لم أضيع أي
وقت، أخذت أتنقل وسط تلك الأدغال بين القرى الصغيرة المتناثرة داخل الغابة يرافقني
ثلاثة صبية من أبناء المنطقة أجمع بضاعتي. كان السكان يبيعون لنا ما يجمعون من ريش
النعام وسن الفيل والجلود بأثمان يرونها عظيمة وكانت أرباحنا في (الخرطوم) تتجاوز المائة في المائة وأرباح المصدرين تزيد عن ذلك كثيرا ً.
في (كدمبجو كالا) وهي تبعد عن
(ملكال) مسيرة يوم حيث موطن قبيلة "الشلك" وهي أول مرة أزورها فيها، كان
لديهم القليل من ريش النعام وسن فيل واحدة والكثير من الجلود لمختلف الحيوانات.
منحتهم ثمنا ً مجز ٍ إذ أنها المرة الأولى التي أزور فيها تلك القرية فأردت أن أترك
لدى السكان انطباعا ً جيدا ً عني ثم أخذت ُ منهم العهود ألا يبيعوا لغيري في مقبل الأيام. كان
(رث) القبيلة رجلا ً متوسط القامة لامع السواد نحيل الجسد يلوح من عينيه ذكاء فطري وبعض البريق. كان هو الوحيد من بين أفراد قبيلته من
يتحدث العربية، ولم تكن سوى بعض المفردات البسيطة التي توصل لك المعنى بالكثير من المشقة. وحين
عرفت أنه وأفراد قبيلته مسلمون سعدت بذلك أيما سعادة وأحسست بالإلفة بينهم وزال الكثير من التوتر الذي غالبا ً ما يتملكني في رحلاتي إلى جنوب البلاد. وكان
أن أدركتني صلاة المغرب بينهم فتوضأت متجها ً برفقة (الرث) إلى المسجد الذي يتوسط القرية وهو قطية كبيرة من نبات النال جيدة التهوية مثله
مثل سائر بيوت القرية وتحيطه الكثير من الأزاهير البرية
ورمال بيضاء فرشت أمام بابه الموارب بالكثير من العناية وفي الداخل كانت بروش السعف الأبيض مصفوفة في خطوط مستقيمة باتجاه النهر مواجهة للقبلة. لاحظت أنهم لم يرفعوا الآذان ولكني تغاضيت عن
ذلك وحين اصطففنا للصلاة إذا بـ(الرث) يقدمني للإمامة فرفضت
رغم إلحاح الرجل فلقد لاحت لي نيران (أم زمام) وفتياتها الخمس تبعدني عن إمامة القوم
عدة فراسخ. وكبـَّر الرجل ثم بسمل وأخذ يتلو بلغة ٍ عربية ٍ بسيطة ٍ وصوت ٍ شجي ٍ قائلا :
- يا الله .. أنا متأكد .. وناس واقف وراي ديل متأكد .. النار حقك .. البحر حقك .. التراب حقك .. الهوا حقك .. وأنا حقك .. وناس واقف وراي ديل حقك .. وناس
تانين كلهم حقك .. يا الله .. أنا متأكد .. وناس واقف وراي ديل كلهم متأكد .. إنت
رسـَّلـْت َ(محمد) ولد (عبد الله).. الله أكبر ..!
وركع الإمام وركعنا خلفه وأنا اغالب
ضحكاتي ثم استوينا ثم خررنا ساجدين ثم سلـَّم الرجل وسلـَّمنا من بعده. وانتهت الصلاة.
ولا
أستطيع أن أصف إحساسي تلك اللحظة مزيج من الحزن والدهشة والرثاء كلها تتماذج في
داخلي إلى جانب سعادة عظيمة سببها هذه الفرصة التي لاحت لي أخيرا ً في هذه القرية
المنسية وسط الغابات الاستوائية لأكفر عن سيئاتي الكثيرة خاصة
زياراتي المتكررة لـ(أم زمام) وفتياتها الخمس. فعقدت العزم على تعليمهم صحيح الدين
حتى لو تأخرت ُ عن موعد رحيل الباخرة، فلئن يهدي بك الله رجلا ً خير لك من حمر النعم
فما بالك بقبيلة بكاملها.
أخبرني (الرث) لاحقا ً أن قبيلته قد اعتنقت الإسلام منذ
وقت ٍ طويل، وكان (الرث) السابق يحفظ السور ويصلي بهم كصلاة "المندكورو"
ولكن بعد وفاته لم يجد خليفته الحالي من يحفظ تلك السور فأهمه الأمر كثيرا ً بحكم موقعه من قومه وظل يبحث جاهدا ً عن حل ٍّ لهذه المعضلة إلى أن أرسل الله له في نومه رجلا ً من
"المندكورو" قرأ عليه تلك الصلاة فحفظها وظل يؤم بها قومه لأكثر من عشرين
عاما ً وحفظها جميع أفراد القبيلة وأصبحت هي صلاتهم الوحيدة.
ظللت ُ لثلاثة أيام ٍملازما ً للرجل، أفقهه بما علمت من الدين كنت فيها في قمة سعادتي وشعور ٌ عظيم ٌ
بالتقوى والقرب من الله يلتحفني فأحس ُّ بالكثير من السعادة والثقة. ثم أخذت أتلو على الرجل من قصار السور ما يعينه هو
وأفراد قبيلته على أداء الصلاة وهو يردد خلفي ولم تكن المهمة باليسيرة. وبدأت
بسورة (الفاتحة) بعد أن بيـَّنت ُ له أهميتها وما قيل في فضلها وأنها السبع المثاني
وأن لا صلاة تصح بدونها. ثم سورة (الناس) ثم (المسد) والأخيرة كنت حريصا ً على
تحفيظه لها رغم المشقة التي لاقيتها في سبيل ذلك إذ أنني منذ صباي الباكر أجد في
نفسي موجدة ً عظيمة ً على (أبي لهب) وزوجته وما فعلاه بالرسول الكريم صلى الله
عليه وسلم فأردت ُ أن تخزيه هذه القبيلة في قبره بتلاوة تلك السورة صباحا ً ومساء.
ثم
أزف الرحيل وودعتني القبيلة بالكثير من الحزن والإحساس بالامتنان وودعتها بالكثير من الغبطة وقفلت ُ عائدا ً إلى (ملكال) ومنها عن طريق
الباخرة متجها ً إلى (الخرطوم).
وسارت الباخرة ليومين بسرعة ٍ عظيمة ٍ فلقد كانت الريح
مواتية ً ومجرى النهر في تلك المنطقة عميقا ً يخلو من الجزر. ولم يعترض سبيلنا غير
أفراس النهر الضخمة والتماسيح الهائلة والتي كثيرا ً ما تسبح قرب مروحة الباخرة فتدفع
حياتها ثمنا ً لتلك المجازفة.
وفي صباح اليوم الثالث وكنت جالسا ً على سطح الباخرة
على مقعد ٍ خشبي صغير وقد وضعت ساقا ً على ساق بعد أن أشعلت سيجارتي الثالثة وأنا
أراقب شروق الشمس من خلف النهر بالكثير من المتعة وقد أحاطت بي الخضرة من الجانبين. الجميع لم يغادروا أسرتهم بعد
وأنا وحدي وسط تلك الطبيعة الساحرة أستنشق نسمات الصباح. وإذا بالماء ينشق فجأة ً عن الرجل وهو يطفو
قرب جسم الباخرة ثم يستوى واقفا ً على سطح الماء ليسير مقتربا ً مني بخطوات ٍ واثقة ٍ والأشعة الثاقبة تتكسر على حبيبات الماء العالقة بجسده المبتل فيبدو وكأنه يتوهج. وقف الرجل أمامي في شموخ
وقدماه تلامسان سطح الماء دون أن يغوص فيه مخالفا ً لكل قوانين الجاذبية والطفو والموائع والسوائل و(أرشميدس)
وغيره وقد وضع "كوكابه" على كتفه، ومن حوله التماسيح وأفراس النهر وهي تنفث
الماء بقوة ٍ دون أن تهتم بالرجل الذي توسطها بل بدا وكأنها لا تراه.
طرق الرجل بـ"كوكابه"
على جسم الباخرة ثلاث مرات منبها ً ثم رفع صوته يخاطبني بقوله :
- (مندكورو) ...
أنا نسيت سورة بتاع (الفاتحة). إنت أقرأ تاني.
ولم أكن أقوى على النطق. عيناي جاحظتان معلقتان بالرجل الذي يسير على الماء إلى جانبي بمحازاة الباخرة المسرعة غير مصدق ثم وجدت صوتي لأكبر الله بصوت ٍ شفيف. فأعاد الرجل عبارته مرة ً أخرى. تمالكت ُ نفسي لأخاطبه متسائلا ً:
- كيف عملت كلام ده ؟ كيف تمشي على المويه ؟!
- قريت صلاة حقنا القديم ومشيت. طوالي أنا أقرأ صلاة حقنا القديم وأمشي.
قالها وهو يضحك بالكثير من السرور. في تلك اللحظة غبت ُ عن
كل ما حولي أو غاب كل ما حولي عني. بدا لي الكون صغيرا ً تافها ً لا يسوى جناح بعوضة.
وجدتني أخاطب الرجل بصوت ٍ غريب ٍ لا يشبه صوتي قائلا ً:
- صلاة حقك القديم برضو
صاح. صلاة حقك القديم كويس كتير. ارجع بلد واقرأ صلاة حقك القديم. وخلي ناس كلهم معاك يقرأوا صلاة
حقك القديم ..!
- ربنا يقول صاح ؟!
- ربنا يقول صلاة حقك القديم صاح أكتر من صلاة حق "المندكورو"..!
أجبته
بتلك العبارة بلا تردد فابتسم الرجل عن أسنان في بياض الحليب وهو يلوح لي مودعا ً
ثم يستدير ليعود من حيث أتي وهو يسير على سطح الماء ثابت الخطو كمن يسير على شارع
مسفلت ومن حوله التماسيح الضخمة وأفراس النهر وهي تتصارع وتنفث الماء في رشاقة ٍ دون
أن تهتم بذلك الزائر الغريب بل يبدو أنها لا تراه. أخذت أتتبعه ببصري وهو يبتعد
ويصغر ويصغر حتى بدا كنقطة ٍ سوداء صغيرة وسط مجرى النهر إلى أن اختفى. ثم ما لبثت
أن غلبتني عواطفي لأجد نفسي وأنا أجهش بالبكاء.
الخرطوم يونيو 2013مهذه القصة مأخوذة عن وقائع شائعة يقال أنها حقيقية. حدثت منذ نحو مائة عام وبطلاها سودانيان شمالي وجنوبي تحمل ذات المضمون.
الرث : هو عظيم قبيلة الشلك أو الشيخ.
مندكورو: لقب يطلقه سكان جنوب السودان (جمهورية جنوب السودان حاليا ً) على مواطنيهم الشماليين من سكان الأواسط الناطقين بالعربية.
الكوكاب : حربة أفريقية مشرشفة الأطراف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق