التسميات

الثلاثاء، 10 يوليو 2012

سفـر الأسـفـار

تـلـك الدمـَاء  ...
تصطخب ُ وتمـورُ ،
داخل صـَدري
كـقـدور ِ البـَدو في المسـَاء ..!
أو تحـدو
كترجيـع ِ الإبـل ِ في صحـراء َ قاحـلة
أو كنعير سـاقيـة ٍ وحيدة ٍ في ليلة ٍ مقـمرة ..!
تـلـك الدمـَاء ...
تنـدفع ُ في شراييـني بقـوة ٍ خارقـة
كنهـر ٍ إستوائي شـَبـق ٍ
يعـدو مزمجـرا ً نحـو مصبـِّه
يحمـل ُ فـي طريـقـه كـل َّ مـَا يصـَادفـُه ...
التمـاسيـح َ وأفـراس َ النـَّهـر والعـَوالـق
وهو يلهـث ُ وقـد تـغـَبـَّـر وجهُـه ُ ..!
تلـك الدمـَاء ...

الضـاربة ُ بجـذورها في التـَّاريخ ِ والأرض
منذ "كوش بن حـَام"
وحتى "طـَماي" و"طـَوكر" ونشيد العـَلم ..!1
تلك الدمـَاء ...
لا تنـام ُ أبـداً  ...
ولا تجعلني استـريـح ..!

ذلك المزج ُ المقـدَّس ..!
إنها دماؤهـم ...
دمـاء ُ أجـدادي العظـَام ..!
  *  *  *
هـا قـد لاحـوا فـي الأفـق ِ البعيـد
كأسراب ِ الأبابيـل
أو كبقـع ٍ مـن النـُّور ِ معلـقـة ً فـي الفضـاء ..!
أبـادمـاك ..! 2
خيـل ٌ تعـدو علـى درب التبـَّانـة
سحـب ٌ مثقـلات ..!
أبـادمـاك ..! 2
تتقدمهم قلوبـُهم الرقيقـة ُ البـَاسلـة
إنني أسمع دبيـب َ خطواتـهم ...
أقدامـُهُم النبيـلة ُ تشـرخ ُ الصمـت
كأزيـز قاطـرة ٍ تقتـرب ُ مـن المحطــَّة ..!
يهجمون كأسـراب نحـل ٍ غاضبـة 
مـن أجـل كرامة الحيـوان 3
هـؤلاء الرائعـون َ الإنسـان
المهندمـون حتى في قبـورهم ..!
إن جلجلة َ عرباتـهم
وصهيـل َ خيـولهم
يصـل إلى أذنـي َّ كهديـر "البحـر ِ الكبيـر" ..!
أبادمـاك ..! 2
أولئـك الراكضون نحـو "مِشِـن ْ كـَيـْلا" 4
وهم يبـرقـون كنبـع ٍ صـَاف ٍ
أولئـك الفـارعون كنخـلة ٍ يتيـمـة ..!
إنها دمـاؤهم ...
الزرقـاء ُ ابنـة ُ الشمس ِ العظيـمة ...
التي اغتسـلت ْ هنـاك في النبـع ِ المقـدس ِ خلـف َ الجبـل
ثم أخـذت ْ تغنـي تحـت ضـوء ِ القمـر ِ كجنيـَّة ٍ عـَاشقـة ..!
تلك الدماء ُ الرقيقـة ُ كحـد ِّ المـوسى
الشفافـة ُ كلسان ٍ مـن نـار
الدافئـة ُ كحليـب ِ المسـَاء
التي تقـودنـي نحـَو الأمـس المضـيء
الغـد ِ الـزاهر ...
فأنـا هناك في "مشن كيلا" أنعـم ُ بالـدفءِ  4
بينـما العـالم ُ يصطـك ..!
  *  * *
هأنـذا اندفـع ُ عاصفـة ً هوجـَاء
والرمـل ُ أمامـي بحـر ٌ طـام ٍ
اقتلـع ُ كـل َّ مـا يصـَادفنـي
مضـارب َ القبيـلـة ِ، قـدور َ الطعـام ِ وأعشـاب َ الربـْع ..!
الابـل ُ تمخـرُ أمامـي كسفـن ٍ مذعـورة
أحمـل ُ زادي مهاجـرا ً إلـى وادي "عبقـر" ..!
اسـامر ُ الجـن  َّ
وأآخي الشيـاطيـن ..!
أعشـق ُ إلـى حـد ِّ  المـوت
وأمـوت ُ بحـد ِّ السيـف ..!
أنحـر ُ مطيـتي للغـواني
وأعـود ُ إلـى خيمـتي كخـَيـال ٍ ثمـل ٍ
فارغ َ الجيـب ِ ، عـَامـر القـلب والـرُّوح
والفجـر ُ يلـقي علـي َّ بظـلاله السـَّاحـرة ..!
إنـها دمـَاؤهم ...
أولئـك القـوم ُ الأقحـَاح
الذيـن انشقـت ْ عنـهُم ُ الصحراء ُ فجـأة ً
أو انشقـوا عنـها ...
لا أدري ولا هـُم يـدرون ..!
أولئـك الأجـداد  ...
الذين يقامـرون لإطعـام ِ ضيـوف ِ الله ...
يقامـرون ويسـرقـون ...
نعم ... يسـرقون لإطعـام ِ ضيـفهم
أو ينحرون مطيتـه ولا يبيـت ُ جـائعـا ً ..!
أولئـك الأجـداد  ...
الذيـن لم يهـدأوا أبـَدا ً
وظلـوا يكتبـون الأشعـَار َ وينـُشـدونـها
ويعشقـون ويتنـاسلـون
حتى أ ُرسـل َ للبشـريـَة ِ منـهم نبـي ..!
  *  *  *
من هـؤلاء ..؟!
الذين تندفـع دماؤهـم في شراييني بقـوة ٍ حـَارقـة
وكأنه قـد أضيف َ إليها الفلفل  ..!
أولئـك المنحدرون على ضفتـي النيـل جنـوبـا ً
يمشـون مرهقيـن َ كخيـول ٍ تجـرُّ عـربـات ٍ ثـقيـلـة ..!
إنـهم يحملـون علـى أكتـافهم آلاف َ القتـلى
آلاف َ الأرواح ِ النـَّجسـة ِ التـي أرسَـلـوها إلـى الجحيـم
وارتضـوا أن يدفعـوا الثمـن ،
هجـرة ً مـن الأرض
الأرض ُ الحبيبـة ُ ، المـراعي
الضفـاف ُ 
التي ترقص ُ على رمالـها الحـوريات ُ فـي الليـالي المقمـرة
الحدائـق ُ الغنــَّاء ...
السـَّواقـي و"الرواحات" ...
الأطفـال ُ ودفءُ البيـت
البيـت ُ الكبيـر
حيث ُالمستقبـل ُ عـَروس ٌ كالنـُّضـَار ..!
لقـد ركلـوا كـل َّ ذاك النعيـم
كما يركـل ُ الـراعي كلبـَه ُ المشاكس
لأنهم كانـوا صادقيـن مـع أنفسـهم 
وكانـوا رجـَالا ً حقيقييـن ..!
  *  *  *
حينـما ينـوي أحـد ُ الشبـان أن يـزور َ أهـل َ فتـاتـه ...
أحـد ٌ مـن أولئـك الشبـان المثقفيـن ...
ذوي اليـاقـات ِ المنشـاة ِ 
والأحـذية ِ اللامعـة كسطـح "الفـورمايـكا" ...
أولئـك الشبـان ُ المتخرجـون في الجـامعات ِ
ذات اللافتـات ِ الضخمـة ِ الكـذوبـة ...
حينـما يذهـب ُ أحـدُهُم إلى بيـت ِ فتـاتـه
يتـرك ُ خلفـه أولئـك الأسـلاف ..!
يغلـق ُ عليـهم باب حجـرتـه ثم يتسـلل في حـذر ٍ
مـن البـاب ِ الخلفـي للـدار
حتى لا يتبعـه واحـد ٌ منـهم  ..!
أولئـك الأجـداد ُ الذيـن يمتـصـُّون كـل َّ الألـوان
كما يقـول ُ علـم ُ الفيـزيـاء ..!
ويجيـدون العمـل َ دون أجـْر ٍ
كمـا يقـول أحـد ُ الساسـة ِ الإقطاعييـن
وهو يمسـح ُ على كرشـه الضخم مترفقـا ً ..!
الأجـداد ُ ذوي الابتسـامة ِ البيضـاء ِ الوحيـدة ِ فـي هـذا الكـَوكب
كمـا يشيـر ُ أحـد ُ المؤلفـات ِ الضخمـة ِ فـي علـم الجمـَال ..!
القادمـون مـن سـُرَّة ِ العـالـَم
حيـث ُ تتشـاغـل ُ الصـَبايـا هنـاك بقطـف النـجوم ِ
وهـن َّ يـرددن أغنيـة ً عاطفيـة ..!
حيـث المروج ُ الفسيحـة ُ تبـدو كبـلاط ِ كبيـر ِ الغـِيـلان
والأسـود ُ تتـراكض ُ وزئيـرُهـا يشـرخ ُ السمـَاء
بينـما تقـوم ُ السعـَالي بإرضاع ِ أطفالهن خلـفَ الدغـل ِ
على ضـوء الغسـق ِ الشـاحـب ..!
والقـرود ُ الصغيـرة ُ منهمـكـة ً فـي فعـل الحـب ِ
هنـاك في الهـواء ِ الطلـق ..!
ولكن حينما ذهبت ُ لأقابـل َ والـد َ حبيبـتي
وكنـت ُ أضـع ُ حبـات ِ البـن ِ فـي جيـبي 
كانت أرواحـُهُم ُ العظيـمةُ تتبـع خطـواتي
وهـي تختـرق ُ الأثيـر في نعـومة
وتتخـطى أشجـارَ "الباباي" و"التبلدي" بسـلاسـة
وتنشـد ُ في حبـور ٍ
وهي تدعـو لـي بالنجـاح ِ في مهمـتي
والفـوز بمـن ارتضاها قلبـي ..!
أنـا فخور ٌ بتلـك الدمـاء المتدفـقة في شراييـني
التي تحلـِّق ُ بـي نحـو سماوات ٍ أخـرى
حيـث ُ القلـوب ُ النظيـفة ُ الممطـرة ُ دومـَا ً ..!
أنا فخـور ٌ بهـؤلاء الأجـداد ...
وفـي المسـاء ،
أسكـب ُ اللبـن قـُرب َ الـدار 
لتشرب َ أرواحـُهـم عصيـر َ الحيـاة
وتحرس ُ القبيـلة َ وهـي في كامـل قـُواهـا ..!
  *   *  *
هـذا المزيـج ُ المقـدس ُ يتصـارع ُ داخـلي
فـي جدليـة ٍ مرعبـة ٍ بعض الأحيـان ..!
لكنـه يصـب ُّ في النبـع ِ الخـالد ِ أخيرا ً ..!
لن يهـدأ أبدا ً
ولن يجعل َ الآخريـن يهـدأون ..!
يزعجنـي كثيـرا ً ...
ذلك الإزعـاج ُ المحبــَّب..!
القلـق ُ المدمـِّر ُ البـنـَّاء ..!
الشـَّـك ُ المطمئـن ُ الفخـور ..!
                               أم جر - بحر أبيض - يناير 2000م.
1/ معركتا "طماي" و"طوكر" دارت بين المهدويين السودانيين "البجة" بقيادة مواطنهم أمير الشرق "عثمان دقنة" والمستعمر البريطاني  ويعتبر البجة هم الوحيدون الذين استطاعوا كسر مربع المشاة لجيش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس "مارس 1884م". وألحقوا الهزائم بأكبر القواد الإنجليز مثل "بيكر" "وجراهام". وقبائل البجة من القبائل السودانية الضاربة في القدم ويقال أن نسبها يرجع إلى "كوش بن حام".
 2/ أبادماك - الإله الأسـد : أول إله سوداني محلي يعبد في مملكة السودان النوبية القديمة "270ق.م". قبلها كان السودانيون النوبيون يعبدون الإله المصري "آمون" والذي يرمز له بالحمل. يعتبر تاريخ عبادة هذا الإله هو البداية الحقيقية لإستقلالية الدولة النوبية السودانية عن نفوذ الكهنة التابعين للمملكة المصرية والذي وصل نفوذهم إلى السيطرة الكاملة على مفاصل المملكة والتدخل في كل شئونها حتى عزل الملك. فثار السودانيون النوبيون وحطموا معبد الإله "آمون" وقتلوا كهنته ومن ذاك التاريخ ظهر الإله السوداني "أبادماك" الذي يرمز له برأس الأسد وأنشأت له المعابد وهي باقية في شمال السودان حتى يومنا هذا.
3 / يذكر التاريخ  أن أحد أسباب غزو الملك السوداني النوبي العظيم "بعانخي" لمصر "751ق.م" هو أساءة المصريين للخيول وتحميلها ما لا طاقة لها به من صنوف العمل الشاق.
4/ مشن كيلا : كلمة سودانية نوبية تعني حد الشمس. والبحث عن حد الشمس يرد كثيرا ً في قصص القدماء من الملوك والممالك القديمة كذي القرنين وغيره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق