التسميات

الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

الرسالة إلى مؤمني "توكتــَّو" 5

................................................................................................................
وكان (الجزمجي) آخر من رأى (حَوَّايَة) على قيد الحياة، فلقد وُجدتْ مشنوقةً بعد عدة أيامٍ داخل فناء منزلها وقططها السبع يتقرفصن تحت قدميها وهن يموءن في ألم. كان (جابر) حينها قد صعد الجبل وودع (تَوكَتَّو) إلى الأبد. ولم يستطع أحد أن يعرف ماذا حدث للمرأة. ولكن الحكَّامة (مُنجليَّة) تقول ويردد خلفها جميع نساء المدينة، أن المرأة قد فقدت السيطرة على تلك الشياطين التي تُسخِّرُها في عمل "الكَوادِيِك"، تمردت عليها تلك المخلوقات ذات ليلةٍ وشنقتها. وعندما ذهب شقيقها (مريسيل) ليجمع مقتنياتها لم يجد شيئاً سوى تلك الصناديق الخضراء الكبيرة. مئات الصناديق الخشبية الفارغة مختلفة الأحجام كانت تزحم الحجرات الخمس وقد خُط عليها بلون الدم الكثير من الرموز الغريبة كالجماجم المرعبة والعظام المتقاطعة. إضافة إلى كميةٍ ضخمةٍ من الشاش والقطن والمحاليل الطبية والمشارط وبعض الخُرط والكتب والمذكرات تخفيها (حَوَّايَة) في شنطةٍ حديديةٍ كبيرة قبعت تحت سريرها اليتيم.
   وفي الليلة الثالثة من وفاة المرأة خرجت سبع نساء بينهن (مريم إدريس) و(مريم آدم) إلى الجبل دون هدفٍ معلوم. كانت ليلةً مقمرة وقد صفا الجو وسكن الكون بينما نجمة الشرق تأتلق في قوةٍ وكأنها تباري القمر. هجرت النساء السبع أسرتهن من غير اتفاق وتسللن خارج الدور يخببن في الرمال وكأنهن على موعد. تقول (مريم إدريس) أنهن لم يكن في كامل وعيهن بل بدا وكأن هنالك قوة خفية تدفعهن دفعاً نحو منزل الراحلة. كانت القطط السبع حينها تصطف على الصخرة المائلة التي يقوم عليها منزل المرأة وقد أقعت ساكنة ووجوهها نحو الشرق بينما امتدت ذيولها الفخمة خلفها على الصخرة الملساء في خطٍ أسودٍ مستقيم. ومن خلفهن بدا الشبحان وهما يحتضنان كفي بعضهما في حميمية ويغنيان بصوتٍ شجي ملؤه اللوعة والألم:
 -  يَا أَسْيَادِي سَمَاحْ ...
    بَطَد ٌ... زَهَج ٌ... وَاحْ ...
    جَنَا وِلْدَوهُوا سِفَاحْ ...
    يَا أَسْيَادِي سَمَاحْ ...
    بَطَدٌ... زَهَجٌ... وَاحْ ...
    صَمَمَاً... صَمَمَاً تَاحْ ..!
جميع النساء استطعن تمييز الساحرة (حواية) بقامتها المشدودة وثوب "الدانتيل" الذي كان يأتلق على ضوء القمر الناصع كما تذكرن صوتها الشجي وطربن لغنائها رغم الرهبة التي أخذت بقلوبهن في تلك اللحظة. بينما أقسمت (مريم آدم) أن الشبح الآخر الذي كان النور يشع من جناحيه العريضين لم يكن سوى (أَبَّشَر) "الْعَرْبَجِي". وحينما عدن إلى (تَوكَّتُو) وأخبرن الناس لم يصدقهن أحد ولكن توالى ظهور الساحرة ورفيقها وقططها السبع بذات الهيئة ورآها الجميع لخمس عشرة ليلة حتى أكمل القمر دورته بعدها لم يظهر لها أثر ونسي الناس أمرها بعد حين. 
من رواية (الرسالة إلى مؤمني توكتو) مارس 2009 - أكتوبر 2011م صفحة 46 

الرسالة إلى مؤمني "توكتَــَّو" 4


17
أَنَا الْعَبْدُ الْحَقِيرُ الْفَقِِيرُ (جَابِرُ الْجَزْمَجِي) * فِي هَذَا اليَوْمِ جَاءَنِي مَلاكُ الرَّبْ * عَلَى حِصَانِ القُدْرَةِ يَخُبُّ فِي الْفَضَاءِ النَّورِيْ * نَاشِرَاً جِنَاحَيْهِ الْعَرِيْضَيْنِ كَشِرَاعِ سَفِينَةٍ كَبِيرَةٍ وَقَالَ لِي أَنَا مَلاكُ الرَّبْ * وَلَمْ أَعْرِفْهُ لأَنَّنِي لَمْ أُقَابِلْ مَلاكَ الرَّبِ مِنْ قَبْلْ * وَلَمْ أُصَدِّقْهُ لأَنَّ الْحَيَاةَ مَلأَتْنِي بَالشَّكِ تِجَاهَ كُلِّ مَنْ يَدَّعِي الْقَدَاسَةَ وَيَتَحَدَثُ بِاسْمْ الرَّبْ * فَأوْجَسْتُ مِنْهُ خِيِفَةْ * قُلْتُ اجْعَلْ لِّي آيَةً يَا سَيِّدْ * قَالَ الْمَوْتَى يَقُومُونَ يَا (جَابِرْ) * يَأَتُونَ إِلَيْكَ سَعْيَاً وَجُرُوحُهُمُ تَشْخبُ دَمَاً * اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيِحُ الْمِسْكْ * هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُ الإِلَهْ * مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالْمَشْنَقَةْ * أُولَئِكَ الْمُعَذَبُونَ لِمَجْدِي سَيَصْعُدُونَ الْجَبَلَ يَا (جَابِرْ) * سَنْشْدُدُ عَضُدَكَ بِهِمْ وَنَشُدُّ أَزْرَهُمْ بِكْ * فَلا تُطَفِّفْ وَلا تُخْسِرْ * اُشْدُدْ حُقْويَكَ كَرَجُلٍ وَلِمَّ شَعَثَ إِخْوَتِكْ * الأَسْوَدُ مِنْهُمْ وَالأَسْمَرْ *  يَأَبُونَ تَكَسُّرَاً إِذْ يَجْتَمِعُونْ * مَنْ تَدَلَّى مِنْ عُنُقِهِ بِجَلْجَلَةٍ مُزْلَزِلَةْ * وَمَنْ حَصَدَتَهُ الرُّصَاصَاتُ الْمَجْنُونَةْ * مَنْ حَلَّقَ مِنْهُمْ فِي وَادِي الْحِمَارِ كَنَسْرٍ شَهِيدْ * وَمَنْ ضُرِبَ بِـ"الشَّلَّوتِ" حَتَى الْمَوْتْ * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحَاً وَآخَرَ سَيِّئاً ابْعَثَهُمْ لَكَ جَمْيعَاً آيَةً وَعَلامَةْ * فَكُنْ رَجُلاً وَاشْدُدْ حُقْوَيْكْ * سِرْ حَيْثُ يَأَمُرُكَ ضَمِيرُكَ وَتَذَكَّرْ أَنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ للنَّاسِ جَمِيعَا * لا تَسْمَعْ للمُرَائِينْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ * عَلامَتُهُمْ أَنَّهُمْ كَثِيرُو الصَّخَبِ دَائِمُو الجَدَلْ * يَدَّعُونَ نُصْرَتِي وَهُمْ يَخْذِلُونْ * حَلاقِيمُهُمْ كَبِيرَةٌ وَأَصْوَاتُهُمْ مُجَلْجِلَةٌ فَلا يَخْدَعَنَّكَ مِنْهُمْ أَحَدْ * يُحِبُّونَ طَيِّبَ الطَّعَامِ وَوَثِيرَ الْفَرْشِ وَالرُّكُوبَةَ الْفَارِهَةِ وَيَكْنِزُونْ * تِلْكَ سِيمَاهُمُ * فَلْتُثْخِنْ فِي الأَرْضِ يَا (جَابِرْ) * أُوْلَئِكَ الْمُتَنَطِعُونَ الَّذِينَ يَتَحَدَثُونَ بِاسْمِي وَهُمْ كَاذِبُونْ * حَاشَا لِي أَنْ أَمْنَحَ أَحَدَ عَبِيدِي اسْمِي لِيَتَسَلَّطَ بِهِ عَلَى إِخْوَتِهِ * لا تَقُلْ أَنََّّكَ تَعْمَلُ بِاسْمِي فَتَكُونُ مِثْلَهُمْ فَتَهْلَكَ وَلكَّنِي مَنَحْتُكَ الْعَقْلَ فَافْهَمْ * عَدْلِي عَدْلِي وَلا تَفْتَرِ عَلَيَّ الكَذِبْ * قُلْ هَذَا كَسْبِي هَذَا وُسْعِي أَنَا الْعَبْدُ الْفَقِيرُ الْحَقِيرْ * هَذَا فَهْمِي فَيَحِقّ لإخْوَتِكَ مُرَاجَعَتَكْ * لا تَسْنِدْ أَفْعَالَكَ إِلَيَّ فَتَهْلَكْ * فَأَنَا لَنْ أتَجَسَّدَ فِي كَائِنٍ مَنْ كَانَ مِنْ مَخْلُوقَاتِي * لَنْ أَعِيرَهُ يَدِي يَقْتُلُ بِهَا عِيَالِي وَلَنْ أَمْنَحَهُ صَوْتِي لِيَمِيِلَ بِهِ المِيْزَانَ وَيَظْلِمَ إخْوَتَهُ بِاسْمِي * حَاشَا لي أَنْ آمُرَ بِالشَّرّ * وَلكِنِّي قَرِيِبٌ أُجِيبُ دَعْوَتَكُمْ إِنْ دَعَوْتُمْ * وَأُثِيَبَكُمْ عَلَى مَا تَفْعَلُونْ * الْخَيْرُ وَالشَّرُ مَبْذُولانِ فِي السَّاحَةْ * فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ مُلْقَيَانِ يُنَادِيَانِ الْخَاصَةَ وَالْعَامَةْ * فَلا تَسْرِقُوا اسْمِي وَتَقُولُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهْ * إِذَا أَمَرْتُكَ بِالْخَيْرِ وَهَيَّأَتُكَ لِفِعْلِهِ وَأَمَرْتُ أَخَاكَ بِالشَّرِّ وَسَخَّرتُهُ لِفِعْلِهِ فَكَيْفَ أُثِيبُكَ وَاُعَاقِبُهْ * الْفَهْمَ الْعَقْلَ الْعَدْلُ أَسَاسُ الملكِ يَا (جَابِرْ) * هَكَذَا أَخْبَرَنِي مَلاكُ الرَّبْ * وَنَظَرْتُ فِإذَا بِالأَمْوَاتِ يَقُومُونْ * مِنْ "وَادِي الحِمَارِ" وَ"وَدْ نُوبَاوِي" وَمُعَسْكَرِ "الشَّجَرَة" * مِنْ "أَبَا" وَ"بَيْتِ المَالْ" وَ"كَوبَرْ" * مِنْ "كَرَرِي" وَ"كَورْتِي" وَ"الشُّكَابَةْ" * مِنْ "بَارَا" وَ"شَيكَانَ" وَ"النِّخَيلَةْ" * مِنْ "سِنَّارَ" وَمِنْ "شَنْدِي" وَ"الْمَتَمَّةْ" * مِنْ "سِنْكَاتَ" وَ"سَواجِنْ" * مِنْ "قَدِيرِ" وَ"أُمْ دِبيكْرَاتْ" * مِنْ "الْحِزَامِ الأخْضَرْ" * مِنْ "مَنواشِي" و"دَرَوْتِي" وَ"كِرِنْدِنِقْ" * مِنْ "بِرِنْجِيِّةَ" وَمِنْ "كَرَنْ" * مِنْ أَقَالِيمِ الْمَمْلَكَةِ جَمِيعَاً * جَاءَوُا وَجُرُوحُهُمْ تَشْخبُ دَمَاً * بَعْضُهُمْ طُلابٌ صِغَارُ السِّنِ تَخَطَّفُهُمُ الجَلَّادُ قَبْلَ أَنْ يَذُوقُوا عَسِيلَةَ الْحَيَاةِ وَبَعْضُهُمْ شُيُوخٌ عَرَكَتْهُمُ الْمَرَارَةْ * بَعْضُهُمْ يَمْشِي فِي ثِيَابٍ عَسْكَرِيَّةٍ مُمَزَّقَةٍ وَبَعْضُهُمْ بِجَلالِيب تَقْطُرُ دَمَاً وَهُمْ يُصْلِحُونَ عَمَائِمَهُمْ فِي عَجَلَةْ * رِيحُهُمْ طَيِّبٌ كَكَلْمَةِ اللهْ * وَلَوْنُهُمْ أَخْضَرٌ خَصْبٌ كَطِينِ "الْجَزِيرَةْ" * كُلُّهُمْ يَصْعُدُونَ الْجَبَلَ وَمَا فِيهِمُ مَنْ تَخَلَّفْ * جَاءُواْ يَبْرُقُونَ وَقَدْ عَرَكَتَهُمْ التَّجَارِبُ وَعَرِفَ الْمُخْطِئُ مِنْهُمْ مَكْمَنَ الْعَيْبِ مِنْ نَفْسِهِ * صَعَدُوا هُنَاكَ وَالصِّدِقُ يَقْطُرُ مَعَ جُرُوحِهِمْ فَافْرَحْنَ يَا بَنَاتِ "سُودَانَ" وَزَغْرِدْنَ للِصَّاعِدِينَ كَاللِّيُوثْ * سَيَعْمَلُ كُلُّ هَؤلاءِ مِنْ أَجْلِ عِيَالِ اللهْ * مِنْ أَجْلِ عَدْلِهِ بِمَا اكَتسَبُوا مِنْ الْفَهْمِ وَتَجَارِبُهُمْ خَمِيرَةُ الْمَجْدِ الآتي*
من رواية (الرسالة إلى مؤمني توكتو) مارس 2009 - أكتوبر 2011م الصفحات 112 - 113 

الرسالة إلى مؤمني "توكتَــَّو" 3


..........................................................................................................................
بغتةً أحس (جابر) وكأن هنالك من يتبعه مسرعاً. آلاف الأقدام العارية أحس بها وهي تدب خلفه في إصرارٍ مرعب، وصوت خشخشاتها على الرمل يخترق أذنيه في تسارعٍ مجنون، تهرول حتى لتكاد أن تحاذي خطواته ثم لا تلبس أن تتراجع حتى يختفي صوتها من أذنيه. لتعود تعدو خلفه من جديد. أحس الرجل بقدميه تثقلان حتى لا يكاد يقوى على رفعهما، ثم أخذت ركبتاه ترتعشان وهو يجاهد متقدماً إلى الأمام مستنفراً كل خلايا عقله مالكاً زمام قلبه محاذراً أن يرتكب خطأ لا  يدري كنهه، وقد تملكته القشعريرة وهو يقاوم ذلك الشعور الذي يدفعه دفعاً للصراخ. ثم هدأ كل شيء وعاد الصمت والسكون يبسطان رداءهما على الكون. 
سار الرجل طويلاً وهو يتأمل ما حوله متعجباً. كانت الصخور تصطف على جانبي "الدوداب" هنا وهناك في ترتيبٍ منتظمٍ وكأن هناك من نسَّقها على هذا النحو. صخورٌ كبيرةٌ، وأخرى صغيرةٌ، بعضها قائمٌ، وبعضها مستلقٍ، وبعضها مائلٌ على أحد جانبيه. كلها بدت لعينيه كأجسادٍ متحجرة. فبدا له وكأنها تحمل إشارة معينة تخفى على الإدراك. وفجأة هتف أحدهم من خلفه منبهاً: (جابر) ؟!.
وأُخِذَ الرجل على حين غرة. كاد أن يلتفت خلفه ليواجه ذلك المنادي الغامض ويعرف من يكون. كانت لحظةً فاصلة بين الحياة والهلاك. وفي جزء من الثانية أدرك الرجل كل شيء فظل يسير متجاهلاً ما يحدث خلفه ليشتعل الفضاء بالضحكات، ضحكات صاخبة ومجلجلة وأصوات تنادي باسمه في ترجيع منغوم: (جابر) ... (جابر) ... يا (جابر).
أخذت الأصوات تردد اسمه في إصرارٍ غريب. بعضها ضعيف متهالك وكأن صاحبها يحتضر، وبعضها قويٌ متحدٍ وكأن صاحبها يملك قوةً غير متناهية. تجاهل الرجل كل ذلك وظل يسير متقدماً نحو الجبل وكل ذلك الضجيج يثقب أذنيه، القهقهات المجلجلة والصراخ والعويل ودبيب الأقدام العارية كلها ظلت تعدو خلفه وعلى جانبيه في إصرارٍ مرعب والرجل يتقدم إلى الأمام وهو يصمُّ أذنيه عن كل هذا وقد بلغ به الإنفعال والتوتر حد الجنون. وفجأة هدأ كل شيء ليعود السكون الزاخر يجوس من حوله في شفافيةٍ ناعمة.
-  هنيئاً لك يا (جابر) لو الْتَفتَّ خلفك لفُسختَ إلى حجر.
انطلق صوت الهاتف الغامض هامساً في أذنه لتنتظم جسد الرجل رعدةٌ قوية. واصل المجهول همسه قائلاً:
-  تقدم نحو المرحلة الثالثة وكن حذراً. وفقك الله يا بني.!
وفي تلك اللحظة أضاء ذهن (الجزمجي) بالعرفان. عاد يتأمل الصخور المصطفة على جانبي الدرب لتأتلق عيناه ببريق الفهم. لم تكن تلك الصخور سوى تماثيل آدمية لأناس ضللتهم الهواتف الغريبة فالْتفتوا إلى الوراء فتحولوا إلى حجارةٍ لا ينطقون. فلقد ظلت قلوبهم تحنُّ لما تركوه خلفهم في المدينة فحق عليهم الفسخ بغفلتهم. هذا وجه شابٍ يبدو أن نفسه قد ذهبت حسراتٍ على ما خلَّفه وراءه من حياة اللهو والطرب فالْتفت خلفه متحسراً على ذلك فأتاه أمر الله. وهذا وجه رجلٍ أربعيني يبدو عليه الوقار ولكنه لم يكن وقوراً حين نُودي عليه فالْتفت ربما ظناً منه أن المنادي هي زوجته الجميلة التي خلَّفها وراءه في (تَوكَتَّو). وهذا وجه فتاةٍ رشيقةٍ مياسة القوام لم يكن قلبها مخلصاً لنداء الجبل فالْتفتت حينما نُودي عليها فتحولت إلى حجرٍ في غمضة عين. وهذا وجه شيخٍ أجهدت جسده السنوات ورغم ذلك ظلت روحه نهباً لأطماع الدنيا التي خلَّفها في المدينة.  وهذا... وهذا ...!
أخذ (جابر) يعدد الوجوه الحجرية التي اصطفت على الدرب في سكون الموت محاولاً استكشاف ما أودى بأصحابها إلى التهلكة حتى اختفت تلك التماثيل من أمامه وعاد الطريق إلى سابق عهده. صحراء شاسعة، رمال لا متناهية والجبل يتوسطها شامخاً مهيباً وأغبرا.
من رواية (الرسالة إلى مؤمني توكتو) - مارس 2009 أكتوبر 2011م الصفحات 54 -56

الرسالة إلى مؤمني "توكتَــَّو" 2


4
فِي (تَوكَتُّو) حَيْثُ جَاءَتَهُ الْبشَارَةُ تَكَلَّمَ (الْجَزْمَجِيْ) * كَانَتْ السَّمَاءُ حِينَهَا مُكْفَهِرَّةً وَعَلَى الأَرْضِ نَقْعٌ كَثِيفْ * وَأَوْلِيَاءُ اللهِ طَوَابِيرٌ فِي وَادِي النَّمْلْ * طَوَابِيرٌ لا يَعْلَمُ عِدَّتَهَا إِلا هُوْ * حَتَى أَنَّ نَمْلَةً رَفَعَتْ حَاجِبَيْهَا دَهْشَةً ثُمَّ حَذَّرَتْ أَخْواتِهَا * يَا مَعْشَرَ النَّمْلِ طُوبَى لَكُمْ فَمَسَاكِنَكُمْ احْتَلَّهَا الشِّرِِّيِرْ * هَذَا الْقَادِمُ مِنْ وَادِي الْمَوْتْ * وَلَمْ تَكُنْ الْجُمُوعُ تَعْقِلُ لُغَةَ النَّمْلِ فَحَطَمُوهُمُ تَحْطِيمَا * سَلَبُوهُمُ ذَاكَ الْفُتَاتْ * فُتَاتُ مَوائِدِهِم الْعَامِرَةِ بَالدُّخنِ وَ"الْفَتْرِيتَةْ" * بَيْنَمَا الشُّعَرَاءُ الصَّعَالِيكُ يُنْشِدُونَ أَشْعَارَاً تُمَجِّدُ الْحِرْمَانْ وَالْعُشَّاقُ الْفُقَرَاءُ وَالْمُتَسَوِلُونَ يَتَغَنْوَنَ للأَمْجَادِ الزَّائِفَةْ وَمَجْدُ اللهِ يَتَغَنَّى بِهِ اللّصُوصُ وَالْمُجَدِّفُونْ * الطَّرِيقُ بِسَاطٌ أَحْمَرٌ يَمْشِي عَلَيهِ أَحَدُ الشَّيَاطِينِ فِي عُمَامَةٍ خَضْرَاءْ * يَمْشِي فِي جَبَروتٍ وَصَلَفٍ وَيَضْرِبُ الأَرْضَ بِحِذَائِهِ الضَّخْمِ وَهِي تَئِنْ* بَيْنَمَا لِسَانُهُ اللَّزِجُ يَتَمَشْدَقُ بِمَجْدِ اللهِ وَهُو آثِمٌ قَلْبُهُ * انْشَقَّتْ الأَرْضُ وَاقْتَرَبَ الْقَمَرُ كَثِيرَاً وَكَأنَّهُ يُوشِكُ عَلَى تَقْبِيلُهَا * تَبَيْنَّا وَجْهَ الشِّرِِّيرِ عَلَى ضَوءِ الْحَقِيقَةِ الْبَاهِرَةْ * عَلَيْهِ غَبَرَةْ * تَرْهَقُهُ قَتَرَةْ* وَالصَّمْتُ يَجُوسُ فِي الشَّوَارِعِ مُسَامِرَاً حِذَاءَ (جَالُوتْ) * وَدِهَانٌ لَزِجٌ يَجْعَلُ أَبْوابَ الْبُيُوتِ الْغَبْشَاءِ تَلْمَعُ تَحْتَ نُورِ الْقَمَرِ المُظْلِمْ * مِئَاتُ الْعَنَاكِبِ تَنْسِجُ خُيُوطَهَا فِي فَمِي * وَمَلايِيِنُ الأَقْدَاحِ تَنَامُ مِلءَ جُفُونِهَا وَهِي تَنْفُثُ الْخَلَّوفَ النَّتِنِ وَقَدْ عَلا شَخِيِرُهَا* بَيْنَمَا الصَّقِيلُ يَبْتَسِمُ فِي صَلَفٍ وَجَبَرُوتٍ مُغَازِلاً وُرُودِ السَّمَاءْ * وَهِي لاهِيةٌ عَنْهُ تَتَجَمَّلُ لِمَوْعِدٍ لَنْ يَخْلِفَهُ الْحَبِيِبْ * هَذَا مَا بَصُرَ بِهِ (الْجَزْمَجِي) عَنْ بُعْدٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونْ * وَهُوَ يَتَحَنَّثُ فِي الْغَارِ مُتَفَكِرَاً فِي مَلَكُوتِ الله * يَقُولُ (جَاِبرُ) الحَقَّ وَالحَقَّ يَقُولُ لَكُمْ * طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مِشْوَرَةِ الأَشْرَارِ وَفِي طَرِيقِ الخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ * فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ تَنْبُتُ عِنْدَ مَجَارِي المِيَاهْ * تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ وَوَرَقُهَا لا يَذْبُلْ * أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءْ * الْحُكَمَاءُ يَفْقَهُونَ مَا أَقُولْ * وَالشِّرِّيرُ يَصِفَهُ بِكَلام الطَّيرْ فِي الْبَاقَيرْ * وَلأَنَّي دَعْوتُ فَأَبَيْتَمْ وَمَدَدَتُ يَدِي وَلَيْسَ مَنْ يُبَالِي * بَلْ رَفَضْتَمْ كُلَّ مِشْوَرَتِي وَلَمْ تَرْضُوا نُصْحِي * فَأَنَا أَيْضَاً أَضْحَكُ عِنْدَ بَلِيَّتِكُمْ  * أَشْمَتُ عِنْدَ مَجِئِ خَوْفِكُمْ * إِذَا جَاءَ خَوْفُكُمْ كَعَاصِفَةْ * وَأَتَتْ بَلِيَّتُكُمْ كَالَزَّوْبَعَةْ * وَإِذْ زَاغَتْ الأَبَصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرْ * فَأَنَا هُنَاكَ أَضْحَكُ مِلءَ شِدْقَيَّ * وَكَثِيرُونَ غَيْرِي يَضْحَكُونْ * أُوْلَئِكَ المُشَرَّدُونَ المُتْعَبُونَ المُعَذَّبَةُ قُلُوبُهُمْ لأَجْلِ مَجْدِ الله * فَإِنَّكَ لا تَجْنِي مِنْ الشَّوكِ الْعِنَبْ * هَكَذَا يَقُولُ (جَابِرُ الْجَزْمَجِي) * الْحَكْمَةُ تُنَادِي فِي الْخَارِجْ * فِي الشَّوَارِعِ تُعْطِي صَوْتَهَا * تَدْعُو فِي رُؤُسِ الأَسْوَاقْ * فِي مَدَاخِلِ الْمَدِينَةْ وَلَكِنَّكُمْ أَعْرَضْتُمْ عَنْهَا * نَأَيْتُمْ بِجَانِبِكُمْ * كَمَا قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلْ * فَمَوْتَاً تَمُوتُونْ * وَحَسْكَنِيِتَاً تَأَكُلُونْ * وَشَوْكَاً تَحْصِدُونْ * سَتُكْوَى جِبَاهُكُمْ وَجُنُوبُكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونْ * وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ المَؤْمِنُونْ * فَمَرَارَةُ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ تُثْمِرُ مَنَّاً وَسَلْوَى بِإِذْنِ اللهْ * تُبْرِي الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتُنْطِقُ الأَخْرَسَ بِإِذْنِ اللهْ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونْ * هَكَذَا يَقُولُ (جَابِرْ) * بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى أَتَاهُمْ نُصْحِينَالَهُمْ تَوْبِيِخِي * فَلَمْ يَسْتَبِينُوا النُّصْحَ وَلَمْ يَسْتَمِعُوا لِصَوْتِ الحَقْ * لَقَدْ تَسَلَّطَ الشَّيْطَانْ * نَوَازِعُهُ الشِّرِّيرَةُ الْخَبِيثَةُ أَتْرَعَتْ جَوْفَكُمْ ذَلِكَ الْقِيِحُ النَّتِنُ وَالصَّدِيدُ الْمُقْرِفْ * أَلَمْ يَأَتِكُمْ نَبَأُ الأَولِيِنْ * هَذِهِ قُصُورُهُمْ وَتِلْكَ قُبُورُهُمْ * هَكَذَا يَقُولُ (جَابِرُ الْجَزْمَجِي) * إِذَا رَأَيْتَ ظُلْمَ الْفَقِيرْ * إِذَا لَمِسْتَ نَزْعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْبِلادِ فَلا تَرْتَعْ * لأَنَّ فَوْقَ الْعَالِي عَالٍ يُلاحِظُ وَالأَعْلَى فَوْقَهُمَا * وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يَجْحَدُونْ * حِينَ تَبْكِي الْفَضِيِلَةُ عَلَى الطُّرُقَاتْ * تَنْعِي أَهْلَهَا الْحُفَاةَ الْعُرَاةْ * رُعَاةَ الشَّاةْ * الَّذِيِنَ قَضَوْا تَحْتَ سَنَابِكِ الشِّرِّيرْ * حِينَ يَتَطَاولُ الشَّيْطَانُ فِي الْبُنْيَانْ * وَيَشْمَخُ بِقَرْنَيْهِ مُتَحَدٍ عَدْلَ اللهِ دُونَ أَنْ يَهْتَزَ لَهُ طَرْفْ * مُزَيِّفَاً رِسَالَتِهِ فِي إِصْرَارِ الْمُتَجَبِّرْ * مُلْصِقَاً بِهَا كُلَّ الشُّرُورِ وَالآثَامْ * وَلا يَجِدُ مَنْ يَقِفُ فِي وَجْهِهِ * بَلْ يَجِدُ طَبَّالاً وَزَمَّارَاً يَزُفُّونَهُ إِلى بِنْتِ الْحُرْ * حِيِنَهَا تَأَتِي السَّاعَةْ أَكَادُ أُبْصِرُهَا آتِيِةْ * لَنْ يُسْقِطَ عَلَيْكُمْ كِسَفَاً مِنْ السَّمَاءْ * وَلا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلْ * فَأَنْتُمْ أَضْعَفُ شَأَناً عِنْدَ اللهِ مِنْ هَذَا * أَقَلُ شَأَنَاً مِنْ رِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةْ * فَمْوتَاً تَمُوتُونَ وَبِالسَّيْفِ تُقْتَلُونَ * هَذَا هُوَ وَعْدُ الْحَقّ * وَوَعْدُهُ الْحَقّ * وَبِالحَقِّ تَكَلَّمَ (جَابِرُ الْجَزْمَجِي) *.
من رواية (الرسالة إلى مؤمني توكتو) - مارس 2009 أكتوبر 2011م - الصفحات 24 - 25

الرسـالة إلى مؤمني "توكتَــَّو" 1


..............................................................................................................................
أقسم (إزيرق) خفير المدرسة الثانوية أنه رأى ثلاثة من تلك المخلوقات الغريبة وهي تعوي وتعوي نحو السماء في هستيريا وتصرخ في شيطانيةٍ داعرة، ثم تنفث النار من أفواهها الهائلة فتحيل صخور الجبل إلى جداول من الحمم الملتهبة، ثم ما تنفك أن تكرَّ وترغي وتزبد ثم تدور حول نفسها ذات اليمين وذات اليسار وكأنها تبحث عن عدوٍ غير منظورٍ وهي تُطلق ضحكات صاخبة كريهة لتعود تنفث النار من جديد محيلةً الفضاء إلى شعلةٍ ضخمةٍ من اللهب.
يروي الرجل حكايته بعد أن يتنحنح ويسلِّك صوته جيداً والقوم جلوس حوله في صمت الموتى، لا يشي بحياتهم إلا أعينهم البراقة وهي تدور في محاجرها بين لحظةٍ وأخرى. يلقي بنظراته عليهم واحداً واحداً وكأنه يعدُّهم ثم يستغفر الله ليقول:
-  لست ممن يتخيلون الحكايات وما أنا ممن تستهويهم الأساطير. تعرفونني جيداً.
يصمت (إزيرق) هنيهةً كأنه يمنحهم فرصةً لتقييم شخصيته على ضوء ما قال. يرى نظرات الرضا ترتسم على وجوههم وهم يتأملون صفحة وجهه وعيونهم تنطق بالتصديق فيبسط الارتياح رداءه على وجه الرجل المتغضن ويواصل حديثه قائلا:
-  خرجت في الثلث الأخير من الليل، إنه شهر رمضان كما تعلمون، تصفَّد فيه مردة الشياطين وتنزل فيه ملائكة الرحمة إلى الأرض. أليس كذلك يا شيخ (إسحق)؟
قالها ونظراته تتجه نحو (إسحق ود الدقنية) إمام المسجد العتيق فيهز الأخير رأسه ومسبحته الطويلة مؤكداً صدق المعلومة وقداستها فيضيف الرجل:
-  كل ذلك طمأنني وجعلني اقترب من الجبل الملعون، ولكن يبدو أن تلك المخلوقات أكثر عفرتةً من مردة الشياطين.
يلتفت نحو الحاضرين ليمسح وجوههم بنظراته الواثقة ثم يضيف:
-  كنت قد شربت بعض "السنامكة". تعرفون ما يحدث في مثل هذه الحال.
يصمت الرجل طويلاً وهو يمشط لحيته الكثة بأطراف أصابعه هوْنا وقد ضاقت عيناه وتركزت نظراتهما في نقطة وهمية على الأفق ثم يواصل حديثه بعد صمتٍ مشحون بالترقُّب ليقول:
-  ثلاثة من شياطين الجحيم انتصبت أمامي فجأةً وكأنما خرجت من باطن الأرض كان أحدها أنثى بالتأكيد فلقد بدا صراخه الجنوني حاداً رفيعاً كأصوات النساء.
-  لا حول ولا قوة إلا بالله.
يحوقل (إسحق ود الدقنية) وهو يصلح من وضع الملفحة البيضاء على عنقه الطويل النحيل فيبدو جلد رقبته داكن السواد ومتغضناً بينما بقية القوم صامتون ساكنون وأعينهم تتفحص وجه المتحدث وكأنهم يستعجلونه. كانوا يومها جلوساً في باحة المسجد العتيق وقد شغلوا ثلاثة من "بروش" السعف البالية ذلك بعد أن صلوا العصر ودعوا طويلاً بعد الباقيات الصالحات. عددهم لم يتجاوز الاثني عشر رجلاً تناثروا هنا وهناك دون نظام وهم ينصتون للمتحدث باهتمام. يواصل (إزيرق) حديثه قائلاً:
-  أفواهها ضخمة كما بين السماء والأرض، وعيونها نارية ملتهبة بينما تدب على آلاف الأقدام الصغيرة المسننة وهي تهرول نحو الجبل والصخور الصغيرة تتفتت في صريرٍ مريرٍ تحت وقع أقدامها الهائلة.
يصمت الرجل طويلاً ومن حوله شاخصة أبصارهم نحو شفتيه في ترقُّب، يصلح من جلسته على الأرض ممكِّناً مقعدته منها بعد أن أرخى جسده المشدود، ومن ثم يخلع طاقيته المتسخة ويلقيها إلى جانبه على "البرش" بلا مبالاة، ليعود بعد هنيهةٍ يلتقطها مرةً أخرى ويضعها على رأسه ومن ثم يكمل قصته وقد خفت صوته حتى أضحى كالهمس قائلاً:
-  جلست على الأرض وأنا أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وعيناي لا تفارقان المخلوقات التي أخذت تتقدم نحو الجبل وهي تزمجر وتنفث النار والكبريت نحو القمة لتحيلها إلى شعلةٍ هائلةٍ من الجحيم.
-  وماذا عن المخلوقات الأخرى؟!
يقاطعه (أحمد تيراب) شابٌ في العشرين من عمره، آدم البشرة مفتول الساعدين، يبدو وكأنه قد سمع تلك القصة من قبل. فيجيب الرجل:
-  لم أرَ المخلوقات الأخرى تلك اللحظة ولكن صراخها الأليم وحشرجة عذابهم وصلت إلى أذني بوضوح شديد. يبدو أن النار قد أتت على الكثيرين منهم. كانت المخلوقات الأخرى تقذف نظيراتها الثلاثة بوابل من الصخور الضخمة تماثل أي منها حجم بيتٍ كبير ولكن وا عجبي لم تكن تؤثر في الشياطين الثلاثة كثيراً.
-  لذا فلقد اختار الله عزَّ وجل النار لتعذيب الشياطين فهي الوسيلة الوحيدة الملائمة. وحدها التي تستطيع أن تؤذيهم.
يتدخل (ود الدقنية) بالعبارة إياها مقاطعاً ثم يتلو بعض الآيات الكريمة التي تؤكد ذات المعنى. يطاطيء الحاضرون رؤسهم وهم يستمعون إلى تلاوة الشيخ في أدب ثم يرددون معه بصوت مهيب: "صدق الله العظيم".
يصمت (إزيرق) هنيهةً وكأنه يرتِّب أفكاره، يلقي نظرةً عميقةً متأملةً على القطاطي القريبة التي تطل من وراء الجدار المتهدم للمسجد وكأنه يهمُّ بأمرٍ ما ثم يصلح من وضع طاقيته الخضراء التي مالت إلى الأمام قليلاً ليواصل مكملاً حديثه السابق وقد اكتسب صوته تعبيراً مبهماً:
-  كانت الغلبة ستكون لشياطين السفح الثلاثة على شياطين القمة ولكن فجأةً إذا بشياطين القمة تنبعث من عمق الفراغ بأعدادٍ هائلة. في تلك اللحظة فقط، رأيتهم. مخلوقات صغيرة ضئيلة لا يجاوز حجم أي منها حجم فأر صغير، رأيتهم على وهج النيران الكثيفة يتجمعون في القمة مئات المئات، لا، بل آلاف الآلاف ثم ينحدرون نحو السفح مهاجمين الشياطين الثلاثة في شجاعة اليائس والمخلوقات الثلاثة تقذفهم بوابل من الكبريت الملتهب والنيران فلا يتراجعون. وحينما وصل أسرعهم إلى السفح كان نصفهم قد قضى وانفلتت المخلوقات الثلاثة تعدو هاربةً نحو الشمال وصراخها يعانق السماء.
تتسع ابتسامات الحاضرين بعد تلك العبارة مما يشي بأنهم ينحازون إلى شياطين القمة، أولئك الأقزام الصغار كفئران الجبل كما وصفهم المتحدث بينما تغوص نظرات (ود الدقنية) عميقاً خلف السحاب. ليتساءل أحد الحاضرين وعيناه تلمعان جذلاً:
-  ألم يطاردهم الأقزام؟ ألم يقضوا عليهم؟ تلك الأنثى بنت الكلب.!
ولا يرد (إزيرق) مباشرةً بل يصمت هنيهةً وعيناه تتعلقان بالأفق البعيد ثم يعود يتفحص الأرض أمامه وكأنه يبحث عن شيء ما. وتمتد كفه في آليةٍ ليمسح على راحة قدمه السوداء جيئةً وذهابا ويخلل أصابعها في شرود. يتململ الحاضرون في انتظار الإجابة التي تأخرت طويلاً يرفع الرجل عينيه ليواجههم ثم تنزلق الكلمات من بين شفتيه بصوتٍ عميقٍ مهموس:
-  كانت الأنثى أبطأ رفيقيها حركة. أحاط بها شياطين القمة، أولئك الأقزام الشجعان وأضرموا فيها النيران ثم انفلتوا عائدين إلى مغاراتهم المظلمة ببطن الجبل.
-  الله أكبر.
هكذا يهتف (أحمد تيراب) في خاتمة القصة. يكون حينها (إزيرق) قد اعتدل ليَهِمَّ بالنهوض. فيهبَّون مندفعين ليسبقوه نحو أحذيتهم المتناثرة هنا وهناك قرب "البرش"، يلبسونها في عجلةٍ واضطراب وهم صامتون بينما وجوههم تشي بتعابير غريبة ثم يسيرون في ركاب الرجل حتى باب منزله. وفي الطريق يعودون ليتحاوروا في القصة من جديد. يطلب منه بعضهم إعادة جزءٍ معين منها ويسأله آخرون عن بعض التفاصيل فيجيبهم الرجل موضحاً وعيناه تشيآن بما يحس به من غبطة وسرور ثم يودعونه أخيراً وما زالت برؤسهم الكثير من التساؤلات.
من رواية (الرسالة إلى مؤمني توكتو) مارس 2009 - أكتوبر 2011م الصفحات 12- 15