التسميات

الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

الرسالة إلى مؤمني "توكتَــَّو" 3


..........................................................................................................................
بغتةً أحس (جابر) وكأن هنالك من يتبعه مسرعاً. آلاف الأقدام العارية أحس بها وهي تدب خلفه في إصرارٍ مرعب، وصوت خشخشاتها على الرمل يخترق أذنيه في تسارعٍ مجنون، تهرول حتى لتكاد أن تحاذي خطواته ثم لا تلبس أن تتراجع حتى يختفي صوتها من أذنيه. لتعود تعدو خلفه من جديد. أحس الرجل بقدميه تثقلان حتى لا يكاد يقوى على رفعهما، ثم أخذت ركبتاه ترتعشان وهو يجاهد متقدماً إلى الأمام مستنفراً كل خلايا عقله مالكاً زمام قلبه محاذراً أن يرتكب خطأ لا  يدري كنهه، وقد تملكته القشعريرة وهو يقاوم ذلك الشعور الذي يدفعه دفعاً للصراخ. ثم هدأ كل شيء وعاد الصمت والسكون يبسطان رداءهما على الكون. 
سار الرجل طويلاً وهو يتأمل ما حوله متعجباً. كانت الصخور تصطف على جانبي "الدوداب" هنا وهناك في ترتيبٍ منتظمٍ وكأن هناك من نسَّقها على هذا النحو. صخورٌ كبيرةٌ، وأخرى صغيرةٌ، بعضها قائمٌ، وبعضها مستلقٍ، وبعضها مائلٌ على أحد جانبيه. كلها بدت لعينيه كأجسادٍ متحجرة. فبدا له وكأنها تحمل إشارة معينة تخفى على الإدراك. وفجأة هتف أحدهم من خلفه منبهاً: (جابر) ؟!.
وأُخِذَ الرجل على حين غرة. كاد أن يلتفت خلفه ليواجه ذلك المنادي الغامض ويعرف من يكون. كانت لحظةً فاصلة بين الحياة والهلاك. وفي جزء من الثانية أدرك الرجل كل شيء فظل يسير متجاهلاً ما يحدث خلفه ليشتعل الفضاء بالضحكات، ضحكات صاخبة ومجلجلة وأصوات تنادي باسمه في ترجيع منغوم: (جابر) ... (جابر) ... يا (جابر).
أخذت الأصوات تردد اسمه في إصرارٍ غريب. بعضها ضعيف متهالك وكأن صاحبها يحتضر، وبعضها قويٌ متحدٍ وكأن صاحبها يملك قوةً غير متناهية. تجاهل الرجل كل ذلك وظل يسير متقدماً نحو الجبل وكل ذلك الضجيج يثقب أذنيه، القهقهات المجلجلة والصراخ والعويل ودبيب الأقدام العارية كلها ظلت تعدو خلفه وعلى جانبيه في إصرارٍ مرعب والرجل يتقدم إلى الأمام وهو يصمُّ أذنيه عن كل هذا وقد بلغ به الإنفعال والتوتر حد الجنون. وفجأة هدأ كل شيء ليعود السكون الزاخر يجوس من حوله في شفافيةٍ ناعمة.
-  هنيئاً لك يا (جابر) لو الْتَفتَّ خلفك لفُسختَ إلى حجر.
انطلق صوت الهاتف الغامض هامساً في أذنه لتنتظم جسد الرجل رعدةٌ قوية. واصل المجهول همسه قائلاً:
-  تقدم نحو المرحلة الثالثة وكن حذراً. وفقك الله يا بني.!
وفي تلك اللحظة أضاء ذهن (الجزمجي) بالعرفان. عاد يتأمل الصخور المصطفة على جانبي الدرب لتأتلق عيناه ببريق الفهم. لم تكن تلك الصخور سوى تماثيل آدمية لأناس ضللتهم الهواتف الغريبة فالْتفتوا إلى الوراء فتحولوا إلى حجارةٍ لا ينطقون. فلقد ظلت قلوبهم تحنُّ لما تركوه خلفهم في المدينة فحق عليهم الفسخ بغفلتهم. هذا وجه شابٍ يبدو أن نفسه قد ذهبت حسراتٍ على ما خلَّفه وراءه من حياة اللهو والطرب فالْتفت خلفه متحسراً على ذلك فأتاه أمر الله. وهذا وجه رجلٍ أربعيني يبدو عليه الوقار ولكنه لم يكن وقوراً حين نُودي عليه فالْتفت ربما ظناً منه أن المنادي هي زوجته الجميلة التي خلَّفها وراءه في (تَوكَتَّو). وهذا وجه فتاةٍ رشيقةٍ مياسة القوام لم يكن قلبها مخلصاً لنداء الجبل فالْتفتت حينما نُودي عليها فتحولت إلى حجرٍ في غمضة عين. وهذا وجه شيخٍ أجهدت جسده السنوات ورغم ذلك ظلت روحه نهباً لأطماع الدنيا التي خلَّفها في المدينة.  وهذا... وهذا ...!
أخذ (جابر) يعدد الوجوه الحجرية التي اصطفت على الدرب في سكون الموت محاولاً استكشاف ما أودى بأصحابها إلى التهلكة حتى اختفت تلك التماثيل من أمامه وعاد الطريق إلى سابق عهده. صحراء شاسعة، رمال لا متناهية والجبل يتوسطها شامخاً مهيباً وأغبرا.
من رواية (الرسالة إلى مؤمني توكتو) - مارس 2009 أكتوبر 2011م الصفحات 54 -56

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق