التسميات

الخميس، 7 أغسطس 2014

أحـن ُّ إلى ذاك الغبـاءِ الجميـل

يوم ُ أمس ْ،
كنت ُ في حدائق ِ الشعب ِ وسط َ (الخرطوم) ،
تلك التي تعرفونها جيدا ً ،
حيث ُ لا شيء  سوى العشب ِ الندي ،
الذي يتمدد في حرية ٍ تحت سماء ٍ على مد ِّ البصر ،
والكثير ُ من الهواء النقي ،
الذي لم تلوثه يد ُ المستثمرين بعد
ولم تلاحظه عين ُ الحكومة ..!
كنت ُ في حدائق ِ الشعب ِ وسط َ (الخرطوم) ،
حيث لا ربطات ُعنق ٍ خانقة ٍ
ولا أحذية ٌ عالية ُ الكعب ِ تجعل ُ الحبيبة َ تتعثر ..!
كنت ُ في حدائق ِ الشعب ِ وسط َ (الخرطوم) ،
حيث لا بوابات ... 
حيث لا "أتكيت" ولا "برتوكول" عاطفي
ولا أي من تلك الأشياء ِ السخيفة
كقوائم ِ الطعام ِ الإفرنجي والجرسونات ذوي الابتسامة المتكلفة ..!
كنت ُ في حدائق ِ الشعب ِ وسط (الخرطوم) ..!
إنه الحنين ُ لأيام ٍ مضت ْ وأصبح َ من المستحيل ِ استحضارها ..!
كنت ُ في حدائق ِ الشعب ِ وسط َ (الخرطوم) ..!
إنها حدائق ُ العشاق ِ الفقراء
اللصوص ِ والمخمورين َ والشعراء ..!
حدائق ُ المنبوذين َ والملعونين َ والطلاب ِ الطيبين ..!
إنها حدائقنا ..!
حدائقكم ..!
كنت ُ مخنوقا ً بعض َ الشيء وأحن َّ إلى زمان ٍ غير الزمان
كنت ُ اتحايل ُ على الفرح ..!
جلس أمامي فتى ً وصبية
أجمل من رأيت ُ في حياتي
أجمل أثنين يمكن أن تبصرهما العين
في هذه الأيام ِ المرة ..!
كانت تهمس ُ له بشيء ٍ ما
شي ٌ رائع ٌ لم استطع سماعه من موقعي البعيد
لكن لا بد من أنه شي ٌ رائع ٌ بالفعل
كدفء ِ الأوتار
كحنين ِ الكمنجة
كعيون ِ الصادقين ..!
شيء ٌ رائع ٌ همست ْ به الصبية لرفيقها
لم استطع سماعه
لكن  ...
لابد من أنه شيء ٌرائع ٌ جدا ً
فلقد رأيت ُ عيني الفتى تشعان بذاك البريق
ذاك البريق ُ الذي كم خبرته،
وألفته ،
وكم سعدت ُ به ... 
وكم افتقده هذه الأيام ..!
كان الفتى ينصت ُ لهمسها ولها ً
ثم رأيت ُ قامته تطول ُ وتطول
رأسه ُ يعانق ُ السماء
رأيت ُ يده الكبيرة ُ الخشنة ُ تمتد ُّ في بساطة ٍ نحو النجوم
يجوس ُّ بينها في سهولة ٍ ويسر
يتخير ُ نجمة ً وضـَّاحة ً
يقطفها ...
وبأدب ٍ عظيم ٍ وحب ٍ كبير ٍ 
ينحني ويعلقها على صدر ِ الحبيبة ِ العامر
وذاك البريق ُ يشع ُّ من حوله ...
ثم يهمس ُ لها بشيء ٍ ما
شيء ٌ لم استطع سماعه
لكن ...
لابد من أنه شيء ٌ رائع ٌ جدا ً
فلقد رأيت ُ ساقي الفتاة الممتلئتين وهما تضجان بالحياة فجأة ً
تموجان بالحركة ِ في تناغم ٍ مثير
نعم ...
آلاف ُ الأطفال ِ الحلوين رأيتهم من موقعي المتلصص
وهم يمرحون داخل َ الساقين ِ الجميلتين
إني أشم ُّ رائحتهم الحلوة َ المميزة
رائحة ُ الأطفال ..!
مزيج ُ اللبن ِ الدافيء والريق ِ المعسول
يسيل ُ من جانب ِ الفم ِ الصغير ِ اللطيف
وهم يستلقون على ظهورهم يزقزقون
والأمهات ُ يناغينهم وهن َّ يبتسمن من القلب
الأيدي والسيقان الصغيرة ُ النظيفة
تمرح ُ في الفراغ ِ يمينا ً ويسارا ً بلا هدف
على حفيف ِ الأصوات ِ الحلوة
والفتاة ُ تنصت ُ لهمس ِ حبيبها وقلبها يخفق بعنف ..!
وأنا أراقب لهو الصغار داخل ساقيها الفاخرتين ،
حينها تذكرتك يا رفيقتي ..!
كنت ُ الفتى وكنت ِ الفتاة وكانت تلك الأيام ..!
كنا مثلهما سعداء َ بجهلنا الذي لم نكن لنتبينه
لم تهجم ْ علينا التساؤلات الكبرى 
ولم يهاجمنا الشك ُ المهلك ُ بعد ..!
نؤمن بكل ما حولنا من حياة
كما تبدو ...
أو كما أرادوا لها أن تبدو ..!
كنا سعداء َ في جهلنا ... متفاخرين به ..!
كنت ُ أفيض ُّ بالحماس ِ وكنت ِ تضجين بالحياة ..!
شارع ُ الجامعة ِ ورائحة ُ المطر ِ في "أغسطس"
قطراته ُ الرقيقة ُ التي تلسعنا بادئ الأمر
ثم لا نلبث أن نعتادها ونسير على الإسفلت ِ بخطوات ٍ راقصة
وثيابنا المبللة ملتصقة بأجسادنا الدافئة ..!
كنت ِ تبدين مثيرة ً في تلك الثياب التي بللها المطر
مثيرة ٌ جدا ً ،
وكنت ِ تلاحظين ذلك فترتبك خطواتك ويخفق ُ قلبك بعنف
وكنت ُ أتظاهر بأنني لم ألاحظ ..!
كنا نخرج ُ إلى الشارع ِ ونهتف ُ ضد الظالمين ..!
لم نكن من كبار ِ السياسيين ..!
كذلك لم نكن من صغار ِ السياسيين ..!
لا ، بل لم نكن لنفهم مثل هذه الأمور المعقدة ..!
كنا أبسط َ من ذلك كثيرا ً وأشدَّ بريقا ً
كنا فقط نغني للحياة ِ ونهتف ُ ضد الظالمين ..!
كنت ُ أكتب ُ شعرا ً جميلا ً تلك الأيام ،
وارتدي ثياب َ الفارس ِ لأبهرك ،
وكنت ِ راويتي وأميرتي ..!
كنت ُ أمشي منفوخ َ الصدر ِ
وأضع خنجرا ً تحت الحزام ِ كما تقضي التقاليد الطلابية
ذلك الخنجر ُ الذي لم استعمله قط ..!
ذلك الخنجر ُ الذي كم أطاحت ْ بصاحبه هراوات ُ الشرطة ..!
ذلك الخنجر ُ الذي كم سلبه ضباط الأمن الغلاظ الشداد ،
بعد أن أكل صاحبه ُ علقة ً ساخنة ً على أيديهم ..!
ومع ذلك كنت ُ فارسك ِ النبيل ِ وكنت ِ أميرتي الجميلة
وكان كل منا يتقن دوره جيدا ً
وحين افترقنا كنا لا زلنا طيبيـَن
نعيش الحياة ونفهمها كما تبدو
أو كما أرادوا لها أن تبدو
لذا كانت أسباب ُ فراقنا بسيطة ً وسخيفة
لكنها أسباب ٌ كافية ٌ وفقا ً لتلك الحياة ،
فانصرفت ُ غاضبا ً ورحلت ِ مجروحة ً ..!
هل لا زلت ِ في مدينتك الباردة تعيشين تلك الأيام ،
أم أن لعنة َ الشك ِ والتساؤلات ِ المربكة ِ
طالتك أيضا ً وسلبتك طعم َ الحياة ؟..!
           الخرطوم – أغسطس 2014م