14
حركة ٌ دؤوبة ٌ باتت تحدث على "قوقل بلس" لم يكن البعض
يدري مصدرها أو يعلم كيف نشأت. فالتغيير الذي حدث على ساحة المشاركات لم يكن
ليلحظه الناظر في بدايته الهامسة الرقيقة مهما كان مدققا ً فلقد بدأ كبذرة ٍ مهملة
على وجه الثرى، يتراكم عليها الغبار وتعصف بها الريح والمطر وهي تستيقظ حثيثا ً في
صمت، فلم يلحظ أحد وجودها إلا حين استوت نبة ً كاملة. فلقد كان الرفاق العشرون يقضون
الساعات الطوال أمام الشاشات اللامعة دون أن يشكوا تعبا ً ولا نصبا، أناء الليل
وأطراف النهار، يتصلون بمن يختارون من الأعضاء وسع جهدهم في مشاركات ٍ خاصة، نساءً
ورجالا ً من مختلف الأقطار والأعمار والأعراق والأديان والطوائف، يناقشون ويفندون
ويملـِّكون المعلومة ويشجعون على التفكير وإعمال العقل ثم يشيرون بمتابعة بعض
المواقع على الانترنت أو قراءة بعض الكتب التي تحوي المزيد. ولم تكن المهمة سهلة ً
أو يسيرة فلقد واجههم ما واجههم من الذم والتسفيه والتجريح والتجريم والتكفير بعض
الأحيان ولكن لم يستطع اليأس أن يتسلل الى تلك القلوب الشابة التي أخذت تنمو يوما ً
بعد يوم في اضطراد مثابر. ثم أشرق صباح أحد الأيام على مدينة "قوقل بلس"
لتبدو في ثوب ٍ آخر لا علاقة له بشكلها في غابر السنين. أخذت بعض الصفحات الجديدة
تظهر وهي تحمل من الأسماء ما لم يعهده سكان "قوقل بلس" من قبل، بل كانت
تلك المسميات مما يسب ُّ به بعضهم بعضا عند الغضب في السنوات الماضية، فينتج عن ذلك
أذى ً كبير.
بدأت تلك الأسماء تنتشر في كثافة ٍ مثابرة، فتجد بعض الصفحات تحمل أسماء مثل:
(العبد الآبق)، (سليل الجن الكردي)، (حسن الزبال)، (خالد القندرجي)، (طارق الخفير)،
(حليم التربي)، (راعي الهواويش)، (شين ودشن). وعلى مستوى الآنسات بدأت تظهر بعض
الصفحات تحمل من الأسماء ما كان يعتبر في الماضي من الكفر البواح مثل: (كاملة
العقل والدين)، (أنا لست عورة)، (القيـِّمة على الرجال) إلى آخر الاسماء
الثورية المصادمة. واختفت صفحة (اليائسة المجروحة) لتحل محلها (الأمل الباذخ)
و(أمنيتي الجنة) بدلت اسمها إلى (الحياة حلوة). الكثيرون من سكان "قوقل
بلس" غيروا أسماءهم الرمزية بما يتناسب وما باتوا يحملون من أفكار وما يعملون
من أجله من أحلام. بل امتد التغيير بعدها إلى أكثر المتطرفين بأسا ً وشدة، فأصبح
(قاهر الرافضة) يسمي صفحته بـ(قاهر المستحيل) و(مدمر الناصبة) أضحى اسمه (زارع
الأمل) و(الناصر لدين الله) بات عنوان صفحته (ابن الانسان). وغيـَّر شاعر (العترة
الشريفة) اسمه إلى (شاعر الشعب) وبدأ يجري الكثير من التجريب على قصيدة التفعيلة
ويطالع (البياتي) و(السياب) وغيرهم وامتدت قراءاته حتى وصلت إلى (أودنيس). وتغيرت
المشاركات في شكلها وجوهرها لتأخذ الكثير من العمق والموضوعية وتصبح أكثر إنسانية
ً ونبلا. وبدأت الملامح الرتيبة والابتسامات المرسومة بعناية والخلفيات الساذجة
تختفي لينشر الأعضاء صورهم في حياتهم اليومية المعيشة دون تذويق، واحتشدت صور أغلفة
الصفحات بالضأن والحمير والمعيز والجمال وأهوال الحرب وضحايا النزاعات المسلحة والكوارث
من كل فج، واتسعت لتصور حياة البسطاء من عمال وزراع وكادحين وما يلاقونه من معاناة
في حياتهم اليومية من ظلم ٍ وقهر ٍ وحروب. وأخذت الكثير من الفتيات ينشرن صورهن
الحقيقية دون تخوف أو هواجس. بدا وكأن سكان "قوقل بلس" قد تخلصوا فجأة ً من
سحر ٍ خبيث ظل يسيطر على عقولهم كل تلك السنوات ويجعلهم أسرى التردد والخوف والقلق
ليواجهوا مخاوفهم ويقطعوا عليها الطريق فاكتشفوا أنهم كانوا يخافون ما لا يخيف
ويرتجفون فرقا ً من خيالاتهم الساذجة ويتحاشون التعبير عن أحلامهم وآمالهم وحقيقتهم الإنسانية
البسيطة والجميلة بحثا ً عن تميز ٍ ساذج أو طهارة ٍ زائفة. فبدا الجميع حينها أكثر صدقا ً ونبلا وبدت الكثير من السعادة العفوية ترفرف على الموقع، وزالت العبارات الباردة
المحفوظة والمقولات والحكم الساذجة التي لم يكن يسندها شيء من العقل والتي ظل
الجميع يرددونها طوال سنوات ٍ خلت في رتابة ٍ مملة فتمنحهم الكثير من الرضا والإحساس
المتوهم بالتقوى والقرب من الله.
أخذت العقول على "قوقل بلس" تعمل
بطاقتها القصوى منذ ذلك اليوم فلم يعد هناك من يبشـِّر بقرب ظهور "السوبرمان" الذي سيملأ
الأرض عدلا ً إنابة ً عن المستضعفين ويبطش بالظالمين، بل أخذ الجميع يواجهون واقعهم
بكل شجاعة ٍ ويقلبونه وينخلون تراثهم حتى الادماء ويتابعون أخبار الاكتشافات العلمية
التي لم يعد أحد ٌ يدعي أنه كان يعلمها منذ قديم الزمان. كما أصبحت صفحة (الثائر
أبو عمار) كعبة ً يحج إليها الجميع يوميا ً مناقشين ومعلقين على مشاركاته وتطورات
الصراع في الأرض السليبة.
بات الكثير من المؤمنين يحسون أنهم أصبحوا أقرب إلى الله
وأحق بما وعد به من رضوان ٍ ونعيم وهم يتقاسمون مع الآخرين همومهم الانسانية البسيطة
ويحاولون جاهدين البحث عن حلول ٍ لها. يقول (مردوخ) في إحدى مشاركاته :
- إن محبة الله
لا تأتي إلا عبر محبة الانسان لأخيه الانسان، إذ أن حب الخالق غير المحسوس لابد أن
يعبر عنه ويتجسد في الواقع المحسوس بفعل ٍ محسوس، فإن كنت تحب الله حقا ً فإن حبك هذا
لا بد أن يتجلى في حب خلقه ولا شيء غير خلقه.
ويقول (حافظ الحافظ) في ذات السياق :
- إن المؤمن هو من يحس دائماً أنه يحتاج إلى الله وعونه ورعايته بينما المهووس هو من يتوهم أن
الله يخوض معركة ً غير متكافئة مع بعض خلقه،
ويجب على الإنسان أن يمد له يد العون والمساندة ويساعده على البطش بهم.1
كانت الكثير
من مثل هذه المشاركات تأتي بين الحين والآخر فتتم مناقشتها وقتلها بحثا ً وتنقيبا ً
من كافة الاعضاء دون تجريح ٍ أو سباب ٍ وأذى، وفي كثير من الأحيان يتم دحض المقولة أو تعديلها أو الإضافة إليها دون أن يرى صاحبها بأسا ً في ذلك بل كان يتبنى ما وصل إليه الجميع ويعدل في أفكاره.
ولم
تكن (المحجة البيضاء) بمنجاة ٍ عما يحدث لزملائها من تغيير ولكن ذلك التغيير لم يكن
من السهولة والسلاسة كما الآخرين بل جاء صادما ً وعنيفا ً في مخاض ٍ عسير تخلله الكثير
من الألم المر والليالي السود والدموع الصادقة والآهات التي تنتزع معها الروح. فبعد
أن بدأ (عبد الله السوداني) ينشر روايته السخيفة التي سماها "امرأة على قوقل
بلس" أخذت تتابع ما يكتب باهتمام لا يدفعها إليه غير حبها المتأصل لاكتشاف
الأسرار والاطلاع على غريب الأخبار وهي تحاول في كل مرة تبين الحقائق واكتشاف
الخيال ومعرفة من يتخفى خلف أبطال الكاتب من سكان المدينة وتجهد نفسها في سبيل ذلك،
فتزور الكثير من الصفحات على "قوقل بلس" التي تظن أن لها علاقة بما
يقوله "محروكـَ الصفحة" 2 ذاك في روايته، وتبحث وتقارن وتحلل بجهد بوليسي
مثابر. لتتفاجأ به في أحدى الحلقات يصورها بتلك الصورة الكاريكاتورية المهينة وهو يعيب
عليها ما يعيب بعد أن أضاف إلى ذلك الكثير من الأكاذيب البليغة كغرفة عملياتها السرية
وما تحوي من الأجهزة الحديثة والمدافع الرشاشة والمركبات الفضائية التي تحط على
سطح دارهم يوما ً بعد يوم وغيرها من الخيالات البائسة التي أوردها.
في غابر أيامها
كان مثل هذا التطاول هو ما تحلم الفتاة بحدوثه من أي شخص ٍ على "قوقل بلس"
ويسعد قلبها به أيما سعادة، إذ أنه يهيء لها ما تعشقه وتسعى إليه جاهدة من ضبر ٍ وطعن ٍ وكـر ٍّ وفـر، ولكن في هذه المرة لم تزر السعادة قلب الصبية
المشاكسة ولم تستحوذ على نفسها الحمية كعادتها والرغبة العارمة في الطعان رغم تهيؤ ميدان
المعركة ووفرة الناصرين. بل هبط على قلبها بؤس ٌ كثيف ولازمها إحساس ٌ عارم بالتبلد
أخذ يتحول إلى شعور ٍ مفجع بالمرارة واليتم شيئا ً فشيئا. فالحقيقة التي لم يستطع
عقلها إنكارها بعد أن جاهد لأجل ذلك كثيرا ً هي تصوير (السوداني) لشخصيتها المدللة المغرورة
وما هي غارقة فيه من أوهام ٍ وأباطيل وحمق ٍ ونزق ٍ وطيش يتسبب دائما ً في إشعال الحرائق
في كل ما حولها ومن حولها محدثا ً الكثير من الأذى لسكان "قوقل بلس" في
عبثية لا يسندها من الأهداف ما يستحق الاحترام. كما أن ملاحظات (السوداني) الدقيقة
لسلوكها المتناقض مع (الحافظ) وما تقابل به اهتمامه المحب من قسوة ٍ نزقة وغرور ٍ
ممقوت لا يستند إلا على الغرور نفسه كإحدى الموبقات، كان له كبير الأثر في وقفتها
لتتأمل نفسها أمام نفسها. وإذا أضافت الفتاة لصورتها المنكرة تلك ما لا يعلمه أحد ٌ غيرها
من عمق مشاعرها نحو (الحافظ) وأحلامها التي تنسجها حوله إذا ما خلت إلى نفسها من أعين
الرقباء، فإن ما تفعله به في العلن من تنكيد ٍ وتبكيت، وما يخلف ذلك في دواخلها من إحساس
ٍ بالقدرة والتفوق والسيطرة وما يتبعه من تباهيها الساذج في ساحة المشاركات العامة
بالقدرة على تسبيب الأذى حتى إزهاق الروح، كل ذلك مجتمعا ً بدا للفتاة في مرآة
الذات، التي وقفت أماماها لأول مرة في حياتها، بدا لها كريها ً ومنفرا ً بل يستلزم مقابلة أحد
الأطباء النفسيين على جناح السرعة. فلكل منا منطقة ٌ ما من نفسه لا يستطيع خداعها
مهما بلغ من المكر في خداع من حوله، منطقة ٌ تراقب ما نقوله ونفعله أو ما نبدو عليه وتتبين
في سهولة ٍ ويسر الحقائق والأكاذيب وظلال الوهم بينهما لتصدح أمامنا بالحق في شجاعة
ٍ ونبل. منطقة ٌ من العقل لن نستطيع كبتها أو إخراسها أو مطالبتها بالتذويق مهما عملنا
جاهدين إذ أننا سنظل عارين أمامها دائما ً مهما بلغت سماكة دثارنا أمام الآخرين،
وحتما ً سيأتي اليوم الذي تخرج فيه تلك المنطقة الوضيئة عن صمتها لتصدح بالحق
أمامنا. وحين تدينك تلك المنطقة المنيرة من نفسك فلن يعني تبرئة جميع الناس لك
شيئا، وحين تحتقرك تلك المضغة النبيلة من قلبك فلن يساوي إحترام العالم جميعه لك
قلامة ظفر فأنت أعلم الناس بما يسند ذلك الاحترام من أوهام ٍ وأكاذيب ٍ وأباطيل، بل
أنت تعلم أن ذلك التبجيل والاحترام والحب والمساندة التي تلقاها ممن حولك تتناسب
كما ً ونوعا ً مع مقدار ما تحوزه من مهارة ٍ في الغش والخداع .
وشيئاً فشيئا كانت
المواجهة الدامية بين الصبية الحزينة وذاتها تحدث في قسوة ٍ مؤلمة ٍ كثيفة الوضوح،
عامرة بالصدق، فتوجع العقل وتدمي القلب وتدمع العين حتى الإدماء حين تبصر الفتاة نفسها ماثلة
بين السطور لا تحيد عن الصورة المشوهة تلك شبرا ً، فيطويها العجب والحيرة، كيف فعلت
كل هذا بنفسها وبمن تحب؟! وأين اختفى عقلها كل تلك السنوات؟! بل أي قوة ٍ شريرة
ٍ خبيثة سيطرت على روحها وابتزلتها إلى هذا الحد المريع؟! وكانت الإجابات تترى كل
يوم في ما تحمله أسطر الرفاق في مشاركاتهم العامة من تحليل ٍ ومقالات وبحوث إجتماعية
نفسية ثاقبة بدت وكأنه فصـِّلت على حالتها تفصيلا.
ولم يكن يخفى على الفتاة أن (الحافظ)
نفسه كان طوال الوقت يبصر تلك الصورة المنفرة شائهة الملامح ملوثة السمات، ولكن الشاب المهذب
الرقيق ظل يتغاضى عن كل ذلك ويتحمل ما تنوء من ثقله الجبال من الحمق والطيش وسوء
المعشر ويكبت آلامه متحليا ً بأمل ٍ لا يسنده من الواقع غير ما ينوء به قلبه الرقيق من
داء العشق الذي يعشي العين ويصم الأذن. ففي مثل هذه المدينة الافتراضية التي لا
يجمع بين ساكنيها سوى ما يتبادلونه من أحرف على تلك الشاشات الباردة، فإن تلك
الأحرف هي رأس مال صاحبتها، وحدها التي تجلب لها الاحترام والتقدير أو الاهتمام والمحبة
إذ أن جمال الوجه وعذوبة الصوت أو سحر الأنوثة التي تشل عقول الرجال غير متحقق على
"قوقل بلس"، فلا يبقى إلا نبل الكلمات وعمق الفكرة وأناقة العبارة. ولكن
في بعض الحالات النادرة لأناس نادرين تطير بعض الأرواح في جنون غير مفسر لتطوي
الأرض وتقطع الفيافي والقفار وتسقط آمالها وأحلامها وتسكب من ذاتها النبيلة على بعضهن،
وتظل تحوم وترفرف حولهن مسبحة ً بحمدهن أناء الليل وأطراف النهار، وهي تضفي عليهن من الصفات
العقلية والجسمية ما لا يحوزه غير كرام الملائكة وحور الجنان، وتعمى عن الكثير من
التشوهات الماثلة أمامها ليبدو كل شين أمام عينيها زينا ً في انحياز ٍ صارخ ٍ غير مفسر
يجعل العقلاء يرفعون حواجب الدهشة والعجب. وحتما ً كانت روح (الحافظ) من تلك
الأرواح المجنونة إذ لم يكن رأس مال الفتاة وما تجري به أصابعها على "الكيبورد"
ليجلب لها في خيال العقلاء إلا الاحتقار والنفور، ولكن ذلك المجنون ظل يتعامى عن كل هذا ولا يرى من صورتها سوى خيالاته الوضيئة متحملا ً كل ذاك الحمق والطيش والنزق
بإيثار ٍ غير مفسر. وحينما وصلت الصبية المحزونة في أحد الأيام بأفكارها إلى تلك
التساؤلات أخذ (الحافظ) يتعملق أمامها ويكبر ويكبر حتى وكأنه يسد الكون ثم يعلو
ويعلو حتى السماء، لتبدو الفتاة أمام نفسها تلك اللحظة قزمة ً ضعيفة ً، ضئيلة ً ومتسخة فأسرعت
في تلك الأمسية الفارقة من حياتها تجلس إلى (اللابتوب) لتكتب له بأصابع مرتعشة :
ثم أنهت الاتصال دون
أن تنتظر الرد ودموعها تجري على خديها مدرارا.
الصفحات (190 – 196) من رواية (امرأة
على قوقل بلس) - (فبراير 2013م – يوليو 2013م).
1/ هذه المقولة إعادة صياغة بواسطتي لمقولة
الكاتب السوداني الأستاذ/ محمد فاروق: (المؤمن يحس أنه يحتاج إلى الله بينما
المهووس يظن أن الله يحتاجه).
2/ من العربية العراقية وتعني : (المتقلب في نار
جهنم).
3/ من العربية العراقية وتعني: ( لماذا الحزن يا غالي – غيرك لا
يساوي عندي شيئا ً – روحي فداك - كن في أمان الله).