التسميات

الأحد، 21 أبريل 2013

امــرأة ٌ علـى قـوقـل بلـس 6

14


   حركة ٌ دؤوبة ٌ باتت تحدث على "قوقل بلس" لم يكن البعض يدري مصدرها أو يعلم كيف نشأت. فالتغيير الذي حدث على ساحة المشاركات لم يكن ليلحظه الناظر في بدايته الهامسة الرقيقة مهما كان مدققا ً فلقد بدأ كبذرة ٍ مهملة على وجه الثرى، يتراكم عليها الغبار وتعصف بها الريح والمطر وهي تستيقظ حثيثا ً في صمت، فلم يلحظ أحد وجودها إلا حين استوت نبة ً كاملة. فلقد كان الرفاق العشرون يقضون الساعات الطوال أمام الشاشات اللامعة دون أن يشكوا تعبا ً ولا نصبا، أناء الليل وأطراف النهار، يتصلون بمن يختارون من الأعضاء وسع جهدهم في مشاركات ٍ خاصة، نساءً ورجالا ً من مختلف الأقطار والأعمار والأعراق والأديان والطوائف، يناقشون ويفندون ويملـِّكون المعلومة ويشجعون على التفكير وإعمال العقل ثم يشيرون بمتابعة بعض المواقع على الانترنت أو قراءة بعض الكتب التي تحوي المزيد. ولم تكن المهمة سهلة ً أو يسيرة فلقد واجههم ما واجههم من الذم والتسفيه والتجريح والتجريم والتكفير بعض الأحيان ولكن لم يستطع اليأس أن يتسلل الى تلك القلوب الشابة التي أخذت تنمو يوما ً بعد يوم في اضطراد مثابر. ثم أشرق صباح أحد الأيام على مدينة "قوقل بلس" لتبدو في ثوب ٍ آخر لا علاقة له بشكلها في غابر السنين. أخذت بعض الصفحات الجديدة تظهر وهي تحمل من الأسماء ما لم يعهده سكان "قوقل بلس" من قبل، بل كانت تلك المسميات مما يسب ُّ به بعضهم بعضا عند الغضب في السنوات الماضية، فينتج عن ذلك أذى ً كبير. 
   بدأت تلك الأسماء تنتشر في كثافة ٍ مثابرة، فتجد بعض الصفحات تحمل أسماء مثل: (العبد الآبق)، (سليل الجن الكردي)، (حسن الزبال)، (خالد القندرجي)، (طارق الخفير)، (حليم التربي)، (راعي الهواويش)، (شين ودشن). وعلى مستوى الآنسات بدأت تظهر بعض الصفحات تحمل من الأسماء ما كان يعتبر في الماضي من الكفر البواح مثل: (كاملة العقل والدين)، (أنا لست عورة)، (القيـِّمة على الرجال) إلى آخر الاسماء الثورية المصادمة. واختفت صفحة (اليائسة المجروحة) لتحل محلها (الأمل الباذخ) و(أمنيتي الجنة) بدلت اسمها إلى (الحياة حلوة). الكثيرون من سكان "قوقل بلس" غيروا أسماءهم الرمزية بما يتناسب وما باتوا يحملون من أفكار وما يعملون من أجله من أحلام. بل امتد التغيير بعدها إلى أكثر المتطرفين بأسا ً وشدة، فأصبح (قاهر الرافضة) يسمي صفحته بـ(قاهر المستحيل) و(مدمر الناصبة) أضحى اسمه (زارع الأمل) و(الناصر لدين الله) بات عنوان صفحته (ابن الانسان). وغيـَّر شاعر (العترة الشريفة) اسمه إلى (شاعر الشعب) وبدأ يجري الكثير من التجريب على قصيدة التفعيلة ويطالع (البياتي) و(السياب) وغيرهم وامتدت قراءاته حتى وصلت إلى (أودنيس). وتغيرت المشاركات في شكلها وجوهرها لتأخذ الكثير من العمق والموضوعية وتصبح أكثر إنسانية ً ونبلا. وبدأت الملامح الرتيبة والابتسامات المرسومة بعناية والخلفيات الساذجة تختفي لينشر الأعضاء صورهم في حياتهم اليومية المعيشة دون تذويق، واحتشدت صور أغلفة الصفحات بالضأن والحمير والمعيز والجمال وأهوال الحرب وضحايا النزاعات المسلحة والكوارث من كل فج، واتسعت لتصور حياة البسطاء من عمال وزراع وكادحين وما يلاقونه من معاناة في حياتهم اليومية من ظلم ٍ وقهر ٍ وحروب. وأخذت الكثير من الفتيات ينشرن صورهن الحقيقية دون تخوف أو هواجس. بدا وكأن سكان "قوقل بلس" قد تخلصوا فجأة ً من سحر ٍ خبيث ظل يسيطر على عقولهم كل تلك السنوات ويجعلهم أسرى التردد والخوف والقلق ليواجهوا مخاوفهم ويقطعوا عليها الطريق فاكتشفوا أنهم كانوا يخافون ما لا يخيف ويرتجفون فرقا ً من خيالاتهم الساذجة ويتحاشون التعبير عن أحلامهم وآمالهم وحقيقتهم الإنسانية البسيطة والجميلة بحثا ً عن تميز ٍ ساذج أو طهارة ٍ زائفة. فبدا الجميع حينها أكثر صدقا ً ونبلا وبدت الكثير من السعادة العفوية ترفرف على الموقع، وزالت العبارات الباردة المحفوظة والمقولات والحكم الساذجة التي لم يكن يسندها شيء من العقل والتي ظل الجميع يرددونها طوال سنوات ٍ خلت في رتابة ٍ مملة فتمنحهم الكثير من الرضا والإحساس المتوهم بالتقوى والقرب من الله. 
   أخذت العقول على "قوقل بلس" تعمل بطاقتها القصوى منذ ذلك اليوم فلم يعد هناك من يبشـِّر بقرب ظهور "السوبرمان" الذي سيملأ الأرض عدلا ً إنابة ً عن المستضعفين ويبطش بالظالمين، بل أخذ الجميع يواجهون واقعهم بكل شجاعة ٍ ويقلبونه وينخلون تراثهم حتى الادماء ويتابعون أخبار الاكتشافات العلمية التي لم يعد أحد ٌ يدعي أنه كان يعلمها منذ قديم الزمان. كما أصبحت صفحة (الثائر أبو عمار) كعبة ً يحج إليها الجميع يوميا ً مناقشين ومعلقين على مشاركاته وتطورات الصراع في الأرض السليبة. 
   بات الكثير من المؤمنين يحسون أنهم أصبحوا أقرب إلى الله وأحق بما وعد به من رضوان ٍ ونعيم وهم يتقاسمون مع الآخرين همومهم الانسانية البسيطة ويحاولون جاهدين البحث عن حلول ٍ لها. يقول (مردوخ) في إحدى مشاركاته : 
-  إن محبة الله لا تأتي إلا عبر محبة الانسان لأخيه الانسان، إذ أن حب الخالق غير المحسوس لابد أن يعبر عنه ويتجسد في الواقع المحسوس بفعل ٍ محسوس، فإن كنت تحب الله حقا ً فإن حبك هذا لا بد أن يتجلى في حب خلقه ولا شيء غير خلقه. 
ويقول (حافظ الحافظ) في ذات السياق : 
-  إن المؤمن هو من يحس دائماً أنه يحتاج إلى الله وعونه ورعايته بينما المهووس هو من يتوهم أن الله يخوض معركة ً غير متكافئة مع  بعض خلقه، ويجب على الإنسان أن يمد له يد العون والمساندة ويساعده على البطش بهم.
كانت الكثير من مثل هذه المشاركات تأتي بين الحين والآخر فتتم مناقشتها وقتلها بحثا ً وتنقيبا ً من كافة الاعضاء دون تجريح ٍ أو سباب ٍ  وأذى، وفي كثير من الأحيان يتم دحض المقولة أو تعديلها أو الإضافة إليها دون أن يرى صاحبها بأسا ً في ذلك بل كان يتبنى ما وصل إليه الجميع ويعدل في أفكاره.
   ولم تكن (المحجة البيضاء) بمنجاة ٍ عما يحدث لزملائها من تغيير ولكن ذلك التغيير لم يكن من السهولة والسلاسة كما الآخرين بل جاء صادما ً وعنيفا ً في مخاض ٍ عسير تخلله الكثير من الألم المر والليالي السود والدموع الصادقة والآهات التي تنتزع معها الروح. فبعد أن بدأ (عبد الله السوداني) ينشر روايته السخيفة التي سماها "امرأة على قوقل بلس" أخذت تتابع ما يكتب باهتمام لا يدفعها إليه غير حبها المتأصل لاكتشاف الأسرار والاطلاع على غريب الأخبار وهي تحاول في كل مرة تبين الحقائق واكتشاف الخيال ومعرفة من يتخفى خلف أبطال الكاتب من سكان المدينة وتجهد نفسها في سبيل ذلك، فتزور الكثير من الصفحات على "قوقل بلس" التي تظن أن لها علاقة بما يقوله "محروكـَ الصفحة" 2 ذاك في روايته، وتبحث وتقارن وتحلل بجهد بوليسي مثابر. لتتفاجأ به في أحدى الحلقات يصورها بتلك الصورة الكاريكاتورية المهينة وهو يعيب عليها ما يعيب بعد أن أضاف إلى ذلك الكثير من الأكاذيب البليغة كغرفة عملياتها السرية وما تحوي من الأجهزة الحديثة والمدافع الرشاشة والمركبات الفضائية التي تحط على سطح دارهم يوما ً بعد يوم وغيرها من الخيالات البائسة التي أوردها. 
   في غابر أيامها كان مثل هذا التطاول هو ما تحلم الفتاة بحدوثه من أي شخص ٍ على "قوقل بلس" ويسعد قلبها به أيما سعادة، إذ أنه يهيء لها ما تعشقه وتسعى إليه جاهدة من ضبر ٍ وطعن ٍ وكـر ٍّ وفـر، ولكن في هذه المرة لم تزر السعادة قلب الصبية المشاكسة ولم تستحوذ على نفسها الحمية كعادتها والرغبة العارمة في الطعان رغم تهيؤ ميدان المعركة ووفرة الناصرين. بل هبط على قلبها بؤس ٌ كثيف ولازمها إحساس ٌ عارم بالتبلد أخذ يتحول إلى شعور ٍ مفجع بالمرارة واليتم شيئا ً فشيئا. فالحقيقة التي لم يستطع عقلها إنكارها بعد أن جاهد لأجل ذلك كثيرا ً هي تصوير (السوداني) لشخصيتها المدللة المغرورة وما هي غارقة فيه من أوهام ٍ وأباطيل وحمق ٍ ونزق ٍ وطيش يتسبب دائما ً في إشعال الحرائق في كل ما حولها ومن حولها محدثا ً الكثير من الأذى لسكان "قوقل بلس" في عبثية لا يسندها من الأهداف ما يستحق الاحترام. كما أن ملاحظات (السوداني) الدقيقة لسلوكها المتناقض مع (الحافظ) وما تقابل به اهتمامه المحب من قسوة ٍ نزقة وغرور ٍ ممقوت لا يستند إلا على الغرور نفسه كإحدى الموبقات، كان له كبير الأثر في وقفتها لتتأمل نفسها أمام نفسها. وإذا أضافت الفتاة لصورتها المنكرة تلك ما لا يعلمه أحد ٌ غيرها من عمق مشاعرها نحو (الحافظ) وأحلامها التي تنسجها حوله إذا ما خلت إلى نفسها من أعين الرقباء، فإن ما تفعله به في العلن من تنكيد ٍ وتبكيت، وما يخلف ذلك في دواخلها من إحساس ٍ بالقدرة والتفوق والسيطرة وما يتبعه من تباهيها الساذج في ساحة المشاركات العامة بالقدرة على تسبيب الأذى حتى إزهاق الروح، كل ذلك مجتمعا ً بدا للفتاة في مرآة الذات، التي وقفت أماماها لأول مرة في حياتها، بدا لها كريها ً ومنفرا ً بل يستلزم مقابلة أحد الأطباء النفسيين على جناح السرعة. فلكل منا منطقة ٌ ما من نفسه لا يستطيع خداعها مهما بلغ من المكر في خداع من حوله، منطقة ٌ تراقب ما نقوله ونفعله أو ما نبدو عليه وتتبين في سهولة ٍ ويسر الحقائق والأكاذيب وظلال الوهم بينهما لتصدح أمامنا بالحق في شجاعة ٍ ونبل. منطقة ٌ من العقل لن نستطيع كبتها أو إخراسها أو مطالبتها بالتذويق مهما عملنا جاهدين إذ أننا سنظل عارين أمامها دائما ً مهما بلغت سماكة دثارنا أمام الآخرين، وحتما ً سيأتي اليوم الذي تخرج فيه تلك المنطقة الوضيئة عن صمتها لتصدح بالحق أمامنا. وحين تدينك تلك المنطقة المنيرة من نفسك فلن يعني تبرئة جميع الناس لك شيئا، وحين تحتقرك تلك المضغة النبيلة من قلبك فلن يساوي إحترام العالم جميعه لك قلامة ظفر فأنت أعلم الناس بما يسند ذلك الاحترام من أوهام ٍ وأكاذيب ٍ وأباطيل، بل أنت تعلم أن ذلك التبجيل والاحترام والحب والمساندة التي تلقاها ممن حولك تتناسب كما ً ونوعا ً مع مقدار ما تحوزه من مهارة ٍ في الغش والخداع .
   وشيئاً فشيئا كانت المواجهة الدامية بين الصبية الحزينة وذاتها تحدث في قسوة ٍ مؤلمة ٍ كثيفة الوضوح، عامرة بالصدق، فتوجع العقل وتدمي القلب وتدمع العين حتى الإدماء حين تبصر الفتاة نفسها ماثلة بين السطور لا تحيد عن الصورة المشوهة تلك شبرا ً، فيطويها العجب والحيرة، كيف فعلت كل هذا بنفسها وبمن تحب؟! وأين اختفى عقلها كل تلك السنوات؟! بل أي قوة ٍ شريرة ٍ خبيثة سيطرت على روحها وابتزلتها إلى هذا الحد المريع؟! وكانت الإجابات تترى كل يوم في ما تحمله أسطر الرفاق في مشاركاتهم العامة من تحليل ٍ ومقالات وبحوث إجتماعية نفسية ثاقبة بدت وكأنه فصـِّلت على حالتها تفصيلا. 
   ولم يكن يخفى على الفتاة أن (الحافظ) نفسه كان طوال الوقت يبصر تلك الصورة المنفرة شائهة الملامح ملوثة السمات، ولكن الشاب المهذب الرقيق ظل يتغاضى عن كل ذلك ويتحمل ما تنوء من ثقله الجبال من الحمق والطيش وسوء المعشر ويكبت آلامه متحليا ً بأمل ٍ لا يسنده من الواقع غير ما ينوء به قلبه الرقيق من داء العشق الذي يعشي العين ويصم الأذن. ففي مثل هذه المدينة الافتراضية التي لا يجمع بين ساكنيها سوى ما يتبادلونه من أحرف على تلك الشاشات الباردة، فإن تلك الأحرف هي رأس مال صاحبتها، وحدها التي تجلب لها الاحترام والتقدير أو الاهتمام والمحبة إذ أن جمال الوجه وعذوبة الصوت أو سحر الأنوثة التي تشل عقول الرجال غير متحقق على "قوقل بلس"، فلا يبقى إلا نبل الكلمات وعمق الفكرة وأناقة العبارة. ولكن في بعض الحالات النادرة لأناس نادرين تطير بعض الأرواح في جنون غير مفسر لتطوي الأرض وتقطع الفيافي والقفار وتسقط آمالها وأحلامها وتسكب من ذاتها النبيلة على بعضهن، وتظل تحوم وترفرف حولهن مسبحة ً بحمدهن أناء الليل وأطراف النهار، وهي تضفي عليهن من الصفات العقلية والجسمية ما لا يحوزه غير كرام الملائكة وحور الجنان، وتعمى عن الكثير من التشوهات الماثلة أمامها ليبدو كل شين أمام عينيها زينا ً في انحياز ٍ صارخ ٍ غير مفسر يجعل العقلاء يرفعون حواجب الدهشة والعجب. وحتما ً كانت روح (الحافظ) من تلك الأرواح المجنونة إذ لم يكن رأس مال الفتاة وما تجري به أصابعها على "الكيبورد" ليجلب لها في خيال العقلاء إلا الاحتقار والنفور، ولكن ذلك المجنون ظل يتعامى عن كل هذا ولا يرى من صورتها سوى خيالاته الوضيئة متحملا ً كل ذاك الحمق والطيش والنزق بإيثار ٍ غير مفسر. وحينما وصلت الصبية المحزونة في أحد الأيام بأفكارها إلى تلك التساؤلات أخذ (الحافظ) يتعملق أمامها ويكبر ويكبر حتى وكأنه يسد الكون ثم يعلو ويعلو حتى السماء، لتبدو الفتاة أمام نفسها تلك اللحظة قزمة ً ضعيفة ً، ضئيلة ً ومتسخة فأسرعت في تلك الأمسية الفارقة من حياتها تجلس إلى (اللابتوب) لتكتب له بأصابع مرتعشة :
-  يمعود لويش القهر؟! غيرج ما يساوي ولا قمري. أروحلك فدوه. في مان الله.!3
ثم أنهت الاتصال دون أن تنتظر الرد ودموعها تجري على خديها مدرارا. 
الصفحات (190 – 196) من رواية (امرأة على قوقل بلس) - (فبراير 2013م – يوليو 2013م).
 1/ هذه المقولة إعادة صياغة بواسطتي لمقولة الكاتب السوداني الأستاذ/ محمد فاروق: (المؤمن يحس أنه يحتاج إلى الله بينما المهووس يظن أن الله يحتاجه).
 2/ من العربية العراقية وتعني : (المتقلب في نار جهنم). 
3/ من العربية العراقية وتعني: ( لماذا الحزن يا غالي – غيرك لا يساوي عندي شيئا ً – روحي فداك - كن في أمان الله).

الخميس، 11 أبريل 2013

امــرأة ٌ علـى قـوقــل بلـس 5

11

    كان (حافظ الحافظ) يتابع نشرة أخبار المساء على تلفزيون "القناة العراقية" دون كبير إهتمام وهو يجلس إلى أسرته يمازح هذا ويداعب تلك بين الحين والآخر من  غير سرور ودون أن يتطلب الموقف ذلك في كثير ٍ من الأحيان وقد اشتعل فكره. ثم ما لبث أن استرخى على الأريكة الواسعة ومد رجليه أمامه بعيدا ً وأرخى جسمه لينعم الجسد المتعب ببعض الخدر اللذيذ والذي يجعل صاحبه يغمض عينيه بين الحين والآخر ثم يعود ليفتحهما وتتجول عيناه في ما حوله بنظرات ٍ شاردة. بدا وكأن الشاب العشريني، فارع الطول، عظيم الوسامة، يتحايل على ما ينوء به صدره من أحزان أو يطرد ما يشغل عقله من ظنون. تفاصيل حواره الأخير مع محبوبته على "قوقل بلس" كانت تمر أمام عينيه بين الحين والآخر قاتمة ً ومبهمة فتزيده عذابا ً وألما ً. فلقد هيمنت على النقاش الكثير من القسوة والكبرياء المتبادل مثله مثل جميع حواراتهما السابقة. ورغم يقينه من أن (المحجة البيضاء) تحبه وتهتم لأمره إلا أن ما تقابله به من عناد ٍ زائد وما تزجيه أحيانا ً من قوارص الكلم تجعل عقله في حيرة ٍ عظيمة ٍ يعجز عن فهم تلك الصبية غريبة الأطوار متقلبة المزاج. لم يكن يخفى عليه ما تقابله به البغدادية المدللة من كبرياء ٍ عظيم ٍ وغرور أجوف لم يكن يتناسب ومفاهيم الرجولة التي نشأ عليها وما يتمثل أمام عينيه من إرث ٍ عربي أصيل ظلت العشيرة ترعاه كابرا ً عن كابر وتحفظه كأحد المقدسات، ورغم ذلك ظل قلبه الرقيق يتجاوز هاتين المعضلتين آملا ً في الاصلاح مقبل الأيام. إلى جانب كل هذا فهناك شيءٌ آخر يعشعش في ذهن الفتاة ويجعلها تقسو على قلبها في كثير من الأحيان في سبيل أن تنتصر لنفسها في النقاش الدائر بينهما أو تشعره بالهزيمة حتى ولو أدى ذلك إلى قلب الحقيقة رأسا ً على عقب. ولم يكن (الحافظ) ليدرك كنه ذلك الشيء ولكنه يحس به ماثلا ً بينهما، ثقيلا ً ومظلما ً يقف سدا ً منيعا ً طوال تلك السنوات بينهما والسعادة، فيتوه مسترجعا ً في خياله الكثير من تفاصيل حواراتهما السابقة محاولا ً جهده أن يدرك حقيقة ذلك الشيء المريع فلا يبصر إلا الظلام. ثم يعود لتتعلق عيناه بالتلفاز أو تلتقط أذناه بعض ما يبثه المذيع من أخبار فتصل إلى حواسه خافتة ومشتتة وكأنها تأتي من عالم آخر.
   ولم يكن هناك ما يثير الانتباه في أخبار ذلك المساء. صحة رئيس الوزراء، لقاء أحد السياسيين بزعماء العشائر في (الأنبار)، إعادة مناقشة البرلمان لقانون المحاسبة والعدالة، تصدير النفط الكردي إلى (تركيا)، انتصار الجيش السوري على الجيش الحر في ريف (دمشق)، زيارة أحد كبار (الآيات) لمدينة (قم) إلى غيره من الأخبار التي لم تكن تهم الشاب وسط أحزانه تلك. إلى أن نبه المذيع المشاهدين لخبر ٍ عاجل ٍ جاءه للتو. ثم طفق ينعى بصوت ٍ فخيم ٍ حاول جاهدا ً أن يشحنه بالأسى شهداء التفجيرات الانتحارية في "كربلاء" المقدسة ذلك المساء. 
   أحس (الحافظ) بالكثير من الغضب والرغبة العارمة في الثأر تغلي في دواخله فضرب على المنضدة أمامه بقوة وهو يلعن الانتحاريين ومن يقف خلفهم. فلقد راح اثنان من أقاربه وأربعة من أصدقائه وعشرات من الجيران والمعارف ضحايا لمثل هذه التفجيرات في السنوات القليلة الماضية. واجتمعت الأسرة أمام التلفاز مسرعين ينادي بعضهم بعضا ليتابعوا صور الشهداء في إهتمام ٍ وتركيز وقد انقبضت قلوبهم مخافة أن يكون بينهم من يعرفون من الأهل والأقارب، ليتفاجأ (الحافظ) بصورة (عبد الله السوداني) مجندلا ً وقد انشطر جسده إلى نصفين. ولم يتمالك الشاب نفسه فقفز ليستوي قائما ً أمام التلفزيون وقلبه يدق في عنف. كانت الكاميرا تقترب في تؤدة من وجوه الضحايا واحدا ً واحدا. لتتسمر عينا (الحافظ) على الوجه الأسمر الملطخ بالدماء، لم يعد لديه أدنى شك إنه (السوداني) ملقى على وجه الثرى في أرض (العراق) وهو يبتسم وكأنه يهزأ بالموت، بدا وكأن الشاب قد أطلق ضحكة ً عريضة ً حين استقبل جسده الشظايا والحمم. أسرع (الحافظ) يجلس إلى "اللابتوب" لينعى لسكان "قوقل بلس" صديقهم السوداني ويعد المجرمين بعذاب من الله شديد والحزن والألم يهدان قواه وهو يتساءل عما جاء بـ(السوداني) إلى (كربلاء). 
   وأخذت التعليقات تنهال على المشاركة مترحمة ً على الفقيد مقتبسة ً الكثير من الآيات القرآنية التي تعد الشهداء بالجنان. (الحسن الناصري) شهد على حب المرحوم لآل البيت وتعظيمه لذكراهم وتعاطفه مع مصيبتهم على الرغم من مهاجمته الدائمة للشيوخ السنيين والمراجع الشيعة سواء بسواء وسأل الله أن يرزق (السوداني) شفاعة أمير المؤمنين. (سلام القبانجي) ترحم على الفقيد ثم أسرع يحذف أحد منشوراته القديمة التي كان يسخر فيها من بشرة (السوداني) الداكنة وزيه الغريب وأسنانه الطويلة. (نرجسة العراق) رغم تحذير (حافظ الحافظ) السابق لها من التعامل مع الفقيد إلا أنها لم تجد بأسا ً في الترحم عليه والدعاء له بالجنان. (الثائر أبو عمار) طلب رحمة الله للشاب وشهد بمناصرته للقضية الفلسطينية في مشاركاته. الكثير من شيعة آل البيت هاجموا الطائفية وأعمالها الإجرامية وهم يلعنون خصومهم الوهابيين بينما نحا الآخيرون ممن تواجدوا على "قوقل بلس" في تلك اللحظة باللائمة على الشيعة وتطاولهم على الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين الذي يدفع بعض المتشددين للتضحية بأرواحهم في مثل هذه العمليات الانتحارية. واختفى شاعر (العترة الشريفة) من ساحة المشاركات لعدة دقائق ثم عاد بقصيدة رثاء عمودية للفقيد بشر فيها الانتحاريين بخسران الدنيا والآخرة. أما (مردوخ) فلقد نعى الفقيد مشيدا ً بأخلاقه الفاضلة ونضاله وثوريته وإيمانه الدائم بالإنسان مطلقا ً ومنشوراته الراقية التي تحارب الجهل والتخلف ثم بدا له أن يساير الجميع في أوهامهم الغيبية فطلب رحمة الله للفقيد في نهاية تعليقه دون أن يعني ذلك. 
   علاقة (حافظ الحافظ) بالمرحوم كانت تقوم على الكثير من الاحترام المتبادل والود ولم يحدث بينهما طوال تلك السنوات على "قوقل بلس" ما يعكر صفو تلك العلاقة. والمشاحنات التي تحدث بينهما بعض الأحيان بسبب تباين الآراء الدينية والسياسية لم تكن لتترك في قلب أي منهما حقدا ً أو ضغينة ولكن ما لم يكن ليغفره (الحافظ) للمرحوم أبدا ً هو ذلك التقارب الذي أحس به ينمو يوما ً بعد يوم بينه وبين (المحجة البيضاء). فإلى جانب حبه الجارف للفتاة الذي ملك عليه لبه وغيرته الهوجاء عليها والثقة التي تتأرجح بينهما صعودا ً وهبوطا ً كل يوم فلقد كان يسيطر على (الحافظ) أحساس أبوي عظيم تجاه جميع بنات وطنه. كان يحس بأنه مسئول ٌ عن المحافظة عليهن جميعا ً من عبث العابثين ومشاعر العاشقين على "قوقل بلس". ولم يكن يغضبه شيئا ً ويجعله يفقد اتزانه ورجاحة عقله إلا أن تنمو علاقة ما مهما كانت براءتها بين إحدى بنات وطنه وأحد أعضاء الموقع من غير العراقيين حتى ولو كان يحمل صكا ً يثبت نسبه إلى (هاشم بن عبد مناف)، فما بالك أن كان ذلك العضو سودانيا ً أسود وذا أصول ٍ كردية ٍ في ذات الوقت، اجتمعت فيه السوأتان اللتان ورد فيهما عن المعصوم (أبي عبد الله الحسين) عليه السلام ما ورد من تحذير. فكانت مشاعر (الحافظ) نحو الفقيد في صعود ٍ وهبوط ٍ دائم على قدر ما يتصور بينه وبين الفتاة من تقارب حينئذ ٍ، وكثيرا ً ما كان الشاب يفسر منشوراتهما بما يشغل خياله من عشق الفتاة وغيرته عليها ويصل أحيانا ً إلى نتائج لم تكن لتخطر على بال أي منهما فيغرق في لجة من الغضب والعذاب تدفعه في بعض الأحيان ليقسو على (المحجة البيضاء) دون سبب ٍ ظاهر، إذ لم يخطر في خياله أبدا ً أن (السوداني) لا يعدو أن يكون في خيال الصبية سوى أحد أفراد حاشيتها العظيمة. فأخذ ينتظر رد فعلها على ما أورده من خبر موت (السوداني) وعيناه مسلطتان على الشاشة في كثير من الترقب.
   ورغم تواجدها على "قوقل بلس"، إلا أن (المحجة البيضاء) لم يكن قد طرق آذنها الخبر تلك اللحظة. كانت تجلس داخل غرفتها تعبث بالأزرار في إهتمام متنقلة في عجلة ٍ بين الأجهزة ولوحات المفاتيح المختلفة التي شغلت حيزا ً كبيرا ً من الغرفة والفتاة تتابع على الشاشات المفتوحة أمامها في توتر مثير نشاط الأعضاء العشرة الذين استطاعت أن تربط أجهزتهم بجهازها في شبكة موحدة فتقاسمهم أسرارهم دون أن يعلموا وهي تشعر بالكثير من الفخر وتقضم بين لحظة ٍ وأخرى من الساندوتش الضخم أمامها قضمة ً تتناسب طرديا ً مع أهمية ما تعكسه الشاشات من أسرار.
   ولم تكن الغرفة التي تنم عن ثراء ٍ فاحش ٍ مثلها مثل سائر غرف "الفيلا" الأنيقة في ذلك الحي الراقي مرتبة ً أو تحوي من الأثاث والرياش والاكسسوارات ما يهدي لأنوثة صاحبتها فلقد احتشدت بعشرات ٍ من أجهزة الكومبيوتر مختلفة الأشكال والأحجام ومئات الاسطوانات البرمجية فائقة التعقيد والعتاد الصلب وأجهزة التسجيل والتنصت والمعدات الألكترونية المختلفة وأدوات الصيانة كلها تناثرت هنا وهناك من غير ترتيب أو نظام جنبا ً إلى جنب مع الكثير من الكتب الحديثة والمذكرات الضخمة التي تكشف أسرار البرمجيات والشبكات الألكترونية وكيفية التعامل معها، لتبدو الحجرة في هيئتها تلك للناظر وكأنها غرفة عملياتٍ لإحدى خلايا الـ(سي. آي. أيه) في الشرق الأوسط لا ينقصها إلا وجود بعض المسدسات كاتمة الصوت والبنادق الآلية سريعة الطلقات. كانت تلك هي هواية الفتاة الوحيدة منذ انضمامها إلى "قوقل بلس". فبعد أن تخرجت العذراء المدللة في الجامعة وجدت لديها الكثير من وقت الفراغ الذي لم تكن تدري كيف تزجيه. كان اليوم يمر بطيئا ً ثقيلا ً وهي لا عمل لها سوى إضاعة الوقت بالثرثرة الساذجة مع الجارات أو تبادل الأخبار الاجتماعية والشائعات مع صديقات الدراسة عبر الهاتف أو الطواف بغرف المنزل دون هدف أو متابعة التلفاز. ثم انضمت إلى "قوقل بلس" بعد أن زينته لها إحدى صديقاتها. ولم تجد فيه أول الأمر ما يثير الإهتمام كما صـُور لها، إذ لم يكن يشغل (المحجة البيضاء) ما يشغل بنات جنسها من التقرب للشبان أو محاولة لفت انتباههم أو مغازلتهم لتهتدي بعد عدة أيام ٍ إلى هذه الهواية الممتعة، فاكتنزت الحجرة الصغيرة بكل ما يحويه الموقع من أسرار ٍ وما يخفيه الأعضاء وما يخطر على قلوبهم من نوايا. 
   كانت الفتاة تعلم كل شيء عن زملائها على "قوقل بلس"، عدد الصفحات المتنكرة التي يديرون والأسماء الوهمية التي ينتحلون والمواقع الجنسية التي يزورون ومن من الشبان يتخفي باسم فتاة ومن من الفتيات تدعي الذكورة وما يدور بين العاشقين من مناجاة وفرح ودموع وعتاب وحوارات وما يتبادلون من صور وأفلام وما يواجه حبهم من مصاعب وعقبات. بل كانت تستطيع الدخول إلى بيوتهم وغرف نومهم لتعلم ما يدور خلف الأبواب الموصدة في أكثر من عشرين دولة وتسجل تفاصيل حياتهم مهما صغرت. فما من لوحة مفاتيح ٍ تضاء أو "ماوس ٍ" ينقر أو كاميرا تفتح على "قوقل بلس" إلا وهي عند (المحجة البيضاء) في ملفٍ مبين.
   ولم يكن ينقص سعادتها تلك لتكتمل سوى استحالة اطلاع بقية الأعضاء على ما بين يديها من كنوز ثمينة تشهد على ذكائها وكفاءتها وطول باعها في التعامل مع التكنولوجيا، ولكم تمنت لو تستطيع نشر ما وضعت عليه يدها في ساحة المشاركات العامة على الجميع فتدهشهم وتحوز إعجابهم ولكن كان ذلك مستحيلا ً، إذ أنه سيكشف لسكان "قوقل بلس" ما تمارسه من هواية ويجعل من لم يسقط منهم حتى الآن يلزم الحذر. وحين يدهمها في أحد الأيام ذلك الاحساس المقيت بالضعف وعدم الفاعلية وانعدام الجدوى مما تفعل، تنشر النذر اليسير مما تملك من أسرار ٍ عظيمة وهي تشير على البعض هامزة لامزة غامزة فتتركهم في كرب ٍ مبين. ومن ثم يغمر قلبها ذلك الإحساس الممتع بالقوة والفاعلية فتنعم بالراحة ويهدأ مكان ما من نفسها إلى حين. وويلٌ يومئذ ٍ لمن ينشر مشاركة ما على صفحته المعروفة للجميع ثم يعجب بها أو يعلق عليها مستخدما ً إحدى صفحاته الأخرى الوهمية لتشجيع نفسه، فلقد كانت الفتاة توسعه سخرية ً واستهزاء وتتهمه بالخبل بعد أن ترى عظيم جرمه من خلال غرفة عملياتها العاملة على مدار الساعة. 
   كانت الصبية المرفهة تعشق الضراب والطعن والنزال وتحفظ الكثير من الحكم والمقولات التي تحض على ذلك، ولا يغضبها من سكان "قوقل بلس" إلا من ينحني لعاصفتها ويجعلها تمر بسلام، فتظل (المحجة البيضاء) تستفزه بالكثير من المنشورات والتعليقات وتلاحقه على كل صفحات الأصدقاء المشتركة بينهما تدعوه للضراب وتعيب عليه صمته الذي لا يليق بالرجال مستشهدة ً بالكثير من مقولات المعصومين عليهم السلام التي تذم ذلك، وحين يستجيب المسكين ويتطاول بالرد عليها لا تسع الدنيا فرحتها فتزجي المشاركة بالمزيد من الأسرار فتنكأ جراحه أكثر وأكثر ثم تحذره في خاتمة تعليقاتها بأن الله يحب الستر. وكان الجميع يفهمون ما وراء العبارة من إشارة، فماذا لو كرهت الفتاة في أحد الأيام ما يحبه الله لأي سبب ٍ يلوح لها ؟!، لذا فلقد كان البعض يسارعون إلى الفرار بجلدهم من ساحة المشاركات إلى غير رجعة ٍ وهم في دهشة ٍ عظيمة ٍ يظنون أن الفتاة قد أوتيت حظا ً من العلم اللدني أو ورثت بعضا ً مما حازه النبي (سليمان) من قدراتٍ خارقة. أما البعض الآخر فيقبعون تحت قدميها في تذلل يتابعون كتاباتها في إهتمام ويحرصون على التعليق والإشادة ويهمزون ويغمزون من تهمز وتغمز في سعادة ٍ ساذجة ٍ دون أن يهتموا بمعرفة السبب. وكان ذلك يشعر (المحجة البيضاء) بالكثير من الأهمية والتميز وتجد لذلك متعة تفوق الوصف. فتنزل بعض المشاركات تقري (أبا عبد الله) السلام أو تهدي تحية الصباح للإمام الغائب أو (الزهراء) المطهرة تسألها الشفاعة، وفي بعض الأحيان تخوض في ما يخوض فيه (عبد الله السوداني) ومجموعته وتعلن تضامنها ذلك اليوم مع الفقراء والكادحين بعد أن تؤكد للجميع  أنها ليست منهم. ولكم أدهشها أن عدد متابعيها والمتفاعلين مع مشاركاتها ينمو حثيثا ً فتضخم إحساس الصبية المدللة بذاتها وأهميتها فأخذت تعامل الجميع بالكثير من الفظاظة فنما في خيال البعض أنها رجل يتخفى خلف اسم فتاة ولكن لم يكن أحدهم يستطيع إثبات ذلك.
   حين أكملت (المحجة البيضاء) عملها كان الفجر يقترب حثيثا ً، فأخذت تسترجع ما سجلته من أسرار وتعد  ملفا ً لكل واحدٍ من الأعضاء العشرة على حدا مسجلة ً عليه اسمه وما يحويه التسجيل من مواد ونوعها إن كانت جنسية أو غير جنسية ومدى أهميتها وخطورتها وتصنيف العضو سنيا ً أم شيعيا ً أم من العلمانيين أو الملحدين وجنسيته ونوعه ذكرا ً أم أنثى ثم أضافتها إلى ما سبقها من ملفات تجاوزت في مجملها المائتين بقليل، إلى أن أذن الفجر من المسجد القريب فانكفأت (المحجة البيضاء) إلى الحمام وتوضأت في كثير ٍ من الإهتمام وهي تستحضر جلال الله ثم ارتدت عباءتها الواسعة من فوق المنامة ولاثت خمارها العريض بتأن ٍ وحرص لتصلي الفجر حاضرا ً وتقري شهداء آل البيت والمعصومين السلام داعية الله أن يرزقها وأهلها شفاعتهم. ثم عادت لتضيع الكثير من الوقت في مراجعة بعض الملفات إلى أن أشرقت الشمس على (بغداد) وأخذت أشعتها تتسلل حثيثا ً من خلف الستائر الشفافة في الغرفة لتستلقي الصبية على سريرها الوثير وهي تحس بالكثير من الراحة والرضا، وما لبث أن غرقت في نوم ٍ هنيء دون أن تدري عن موت (عبد الله السوداني) شيئا ً. بينما كان (حافظ الحافظ) لا يزال في جلسته المترقبة خلف الشاشة الصغيرة منتبه الحواس وقد فاتته صلاة الجماعة في المسجد لأول مرة في حياته.
الصفحات (161 – 169) من رواية (امرأة على قوقل بلس) -  فبراير- 2013م – يوليو 2013م)

الاثنين، 1 أبريل 2013

امـرأة ٌ علـى قـوقـل بلـس 4

 10

   طوال الأسبوع المنصرم ظل (عبد الله السوداني) مشاركا ً عشرات الألوف من محبي آل البيت، من مختلف الجنسيات والأعراق الذين ضاقت بهم المدينة المقدسة على اتساعها، شعائرهم التي انطلقوا يؤدونها في صدق ٍ غريب. ورغم سخريته السابقة التي ما فتأ يزجيها على "قوقل بلس" مما يؤمن به الناس من طقوس ٍ غيبية ٍ لم تنج ُ منها الشعائر الحسينية بصورة ٍ خاصة، إلا أنه لم يستطع أن يملك زمام نفسه وهو يرى ذلك متمثلا ً أمامه في (كربلاء) وسط تلك المقامات المنيرة الشامخة التي تخترق مبانيها الفضاء في رفعة توحي للناظر وكأنها تتصل إلى السماء بسبب ٍ ما، فتكون تحت جناحها وحمايتها ورعايتها المباشرة طوال الوقت. وما لبث إلا قليلا ً حتى وجد نفسه غارقا ً في الحزن والأسى كما الجميع يصرخ بما يصرخون ويفعل بنفسه ما يفعلون فيبدو أن ليس من رأى كمن سمع وأن الأحزان تعدي. مئات من مواكب العزاء واللطم على الصدور ومواكب الزنجبيل انطلقت حزنا ً على مصيبة آل بيت النبوة طوال الأيام السبعة المنصرمة في ترتيب مدروس شارك فيها (عبد الله السوداني) دون أن ينكر على نفسه شيئا ً. وجد نفسه يغوص في الشعائر الحسينية يستمع للخطباء الذين تباروا في توضيح ما حدث في ذلك اليوم البعيد و(السوداني) يتتبع ما يقولون وقد تمثل له ذلك التأريخ حاضرا ً أمام عينيه وكأنه حدث بالأمس القريب وكان عليه شاهدا ً أعجزه الفعل فأورثه الكثير من الندم الذي يستدعي التكفير ومعاقبة النفس طلبا ً للخلاص. كانت (زهرة) طوال الوقت إلى جانبه تشرح ما غمض عليه من الشعائر وتدله على المقامات المقدسة وسيرة أصحابها وما حازوا من صفات دينية ٍ ودنيوية رفعتهم على سائر الأنس مقاماً محمودا حتى يدركها التعب فتودعه لتذهب إلى بيت (آل عبود) حيث نزلت وأخواتها بينما يلتقط الشاب خطواته المنهكة نحو مكان سكنه في الفندق القريب والكثير من الألم والحزن يعشي عينيه وقد نسي الهدف الذي جاء من أجله إلى هذه البلاد الغريبة وبدت له تلك الذكرى المحزنة فارعة تشعره بالكثير من الحرج حين يفكر في ما أهمه كل تلك السنوات من أحلام الدنيا الفانية والذي جعله حرصه عليها، يحزم أمره أخيراً ليطير إلى (بغداد). ورغم قرآءاته السابقة عما حدث في ذلك اليوم المشئوم منذ عشرات القرون إلا أن تجسيد تلك الوقائع أمامه الآن وتمثيلها حية من قبل أولئك الآلاف من الموالين منحها بعدا ً آخر في خيال الشاب حتى وكأن الدماء تطفر من عروقه وتنادي أحدهم إلى المبارزة فكان قلبه يجيش بذات ما تجيش به قلوب الآلاف ممن حوله إن لم يفقهم حزنا ً وتأثرا ً بحكم حداثة تجربته.
   وفي عصر العاشر من محرم اشترك (عبد الله السوداني) في ركضة (طويرج). بدأ يركض مع الراكضين لما يقرب من أربعة كيلو مترات بعد أن صلوا العصر وخطب فيهم أحد "المراجع" مبينا ً أهمية تلك الركضة وتاريخ إلحاقها بالشعائر الحسينية كخاتمة لها. وهي تمثيل رمزي للمدد الذي تحرك في ذلك اليوم لنصرة الإمام ولكنه وصل متأخرا ً بعد أن انتهى كل شيء. ركض الشاب متجها ً إلى مرقد الأمام (الحسين) مع الراكضين وهو يتمثل أمامه حصار سبط النبي وما تلقاه بنات الرسول الكريم تلك اللحظة من خوف وظمأ وقلة الناصرين وقد نسي كل تنظيراته السابقة عن صراع السلطة والثروة الذي لم يكن يشك للحظة أنه السبب في أراقة كل تلك الدماء بين أبناء (قصي بن كلاب). ذلك الصراع الدامي الذي كان مسرحه بطاح (مكة) وسهول (يثرب) وامتد بعد ذلك حتى وصل بلاد الرافدين، فأخذ (السوداني) يركض مهرولاً وقد فاض قلبه بالحمية والرغبة في الطعان. ولكنه يصل متأخرا ً كما يقول التأريخ ويجد الإمام عليه السلام مذبوحا ً ومضرجا ً بدمائه هو وإخوته وأبناءه وأصحابه وقد أحرقت خيامهم وتحطمت أضلع الأمام جراء حوافر الخيل التي داست على صدره الشريف. ولم يملك الشاب نفسه إذ انفجر نهاية الركضة في بكاء ٍ مرير وإحساس ٌ هائل ٌ بالذنب يؤرقه وشعور ٌ موذٍ بالتقصير يضغط على روحه ويكتم أنفاسه. أحس فجأة أنه يريد أن يقتل شخصا ً ما، أي شخص، ليس مهما ً من يكون. فأخذ يردد كالمسحور : (يا حسين ... يا حسين). 
   وفي المساء انطلق مع مواكب التطبير التي ظلت تجوب الشوارع حتى الفجر. كان الرجال فيها يعلون هاماتهم بالسيوف في بسالة ٍ تقترب كثيرا ً من التهلكة. وجد (السوداني) نفسه يغوص داخل أحد المواكب ودموعه تجري مدرارا ً وحيث أنه لم يكن يملك سيفا ً، أخذ يصفع وجهه وصدره كما المجنون ليبصره أحد المطبرين فيدفع إليه بخنجر ٍ طويل أخذ الشاب يدمي به نفسه ويشوه وجهه هو يصيح: (يا حسين ... يا حسين). وحين أدركه التعب خرج من الموكب والدماء تلوث وجهه وثيابه ليلقى بجسده على الأرض مستلقيا ً في الساحة المنيرة وعيناه تطالعان السماء الرحبة في خدرٍ لذيذ. ثم فجأةً أخذت السماء تقترب وتقترب من وجهه رويداً رويدا، إلى أن أحس (عبد الله) وكأنه سيطالها إذا ما استوى قائما ً. كان شعورا ً دفاقا ً هاجم الشاب بغتة ً وجعله يحس بالكثير من الرفعة والسمو. كان الله في تلك اللحظة قريبا ً منه يطالعه بوجهه الكريم من فوق سمائه المنيرة مشجعا ً تارة ً ومطمئنا ً إياها بعظيم رضوانه وما أعده له من ملكوتٍ خالد في جناته العلى فيتقبل (السوداني) ذلك شاكرا ً حامدا ً وقد فاضت عواطفه. لم يستطيع أن يسخر من نفسه وما يصوره له عقله المسحور في تلك اللحظة من رؤى. مئات من كتب الفلسفة والسياسة والاجتماع والإقتصاد وعلم النفس وغيرها والتي يحفظ (السوداني) بعض مقاطعها عن ظهر قلب تلاشت من العقل المكدود وتراجعت لتحتل ركنا ً قصيا ً من الذاكرة التي لم تعد ترى سوى تلك المواكب الهادرة فيسير الجسد المنهك مهرولا ً وسط الحشود لا يعقل إلا فوران العاطفة الجياشة والإحساس بالسوء والرغبة العارمة في الخلاص. ومن ثم يطالعه الوجه الحبيب بين لحظة ٍ وأخرى والعينان الصغيرتان اللتان توحيان بالكثير من المكر وهي تحدق في عينيه متسائلة عن السر الكامن وراء حضوره إلى (بغداد) وتكبده كل تلك المشاق فيعرض عن صاحبتها مؤنبا ً. وحين يملكه الشوق الغامر ويسيطر على حواسه يخرج هاتفه ويدوس على الرقم الوحيد الذي يحفظه فيه ليتبادل معها بعض الحديث المضطرب دون أن يجرؤ على البوح بما يريد قوله. ثم يلتقط خطواته المتعبة نحو مكان سكنه.
   في اليوم التالي كان موعدهما قريبا ً من ساحة المرقد الشريف حيث سيمر موكب السبايا متجها ً إلى (الشام). حضر الشاب باكرا ً حيث امتدت الحشود حتى السوق القريب. أخذ (السوداني) يبحث عنها حثيثا ً وسط المئات من النساء اللائي وقفن في انتظار الموكب فلم يهتد إليها. عرف من خلال الهاتف أنها قريبة ٌ من موضعه ولكن كان العثور عليها وسط كل تلك الحشود ضربا ً من المستحيل فاستكان (عبد الله) وهو يحس بالكثير من الضجر، ثم طفق يتجول بنظراته في الوجوه المتعبة محاولا ً أن يهتدي لما يدور في أذهان أصحابها من أفكار وقد تمثلت له صاحبته في كل ما حوله من أناس وضجة وحياة وكأنها تماهت فيهم أو كأنهم امتزجوا بها. لأول مرة منذ حلوله في (كربلاء) المقدسة يحس (عبد الله السوداني) بذلك الشوق الهادر الذي يغلي بداخله كالمرجل والذي يدفعه دفعا ً ليفصح للفتاة عما أتي به إلى (بغداد) وسر هذه الزيارة التي لم تكن تخطر على باله يوما ً. فعادت عيناه تدوران في وجوه القوم بحثا ً عنها ولم يلبث إلا قليلا ً حتى ضجت الحشود بالهمهمات والصياح وتعلقت جميع الأعين بموكب السبايا الذي بدأ مسيره وسط الساحة يتقدمه (شمر بن ذي الجوشن) يسير به حصانه الأسود متبخترا ً وهو يعلوه منتفخ الأوداج ويهز سيفه الطويل بين الحين والآخر أمام مشاهديه في ثقة ٍ وهو يتلفت بشماتة ٍ نحو جموع الموالين التي اصطفت على جانبي الموكب وهي تبكي وتلطم على مصاب بنات رسول الله. وما سار الموكب إلا قليلا ً حتى صرخ البعض: (يا حسين). ثم انهالت القنادر على (الشمر)، آلاف الأحذية القديمة والنعال والمداسات الجعفرية والأحجار والزبالة لم يدر (عبد الله السوداني) من أين لهذه الجموع بها كلها أخذت تتساقط على رأس الممثل المسكين فجفل الحصان وحمحم ثم علا في الهواء بقائميه الأماميين وكأنه يستعد للطيران ليلقي (الشمر) من على ظهره ويفر هاربا ً تتبعه بقية أحصنة القوم بعد أن ألقت ما عليها من حرس وجنود. وكان ما حدث بعد ذلك غريبا ً ومذهلا ً، إذ انفجرت الجموع المحزونة بالضحك والصياح والتصفيق لنصرها ذاك. بدا وكأن سقوط الممثل المسكين والدم النازف من أنفه ووجهه انتصارا ً فعليا ً على (الشمر) و(عبيد الله بن زياد) وعسكرهما وتصحيحا ً لذلك التاريخ المعوج. بدا لتلك الجماهير البائسة وكأنها بفعلها ذاك قد حررت الأمام (زين العابدين) من الأسر وصانت (زينب) وأخواتها من السبي فغرق الجميع في إحساس ٍ عميق ٍ بالراحة وزال الكثير مما نأت به صدورهم من توتر بينما كان (السوداني) يغرق في بحر ٍ متلاطم ٍ من الهواجس. 
   رأته (زهرة) وعيناه تتجولان بين الحشود بحثا ً عنها فرفعت يدها تلوح له وابتسامة ٌ حزينة ٌ تعلو شفتيها أخذ يشق الجموع متقدما ً نحوها في تصميم. كان قلبه يرفض ُّ في عنف كلما اقترب أكثر. رأى الابتسامة تتسع لتغمر وجهها الشفيف في وضاءة ٍ عذبة ، بينما عيناها تقولان الكثير. بدت الصبية ساحرة ً وجميلة، أجمل من أي وقت مضى. اقترب منها أكثر. أحس بشعور ٍ دافق ٍ يدفعه دفعا ً للركض نحوها ليحتضنها أمام كل أولئك الآلاف من قومها ويشهدهم على حبه لها وأنه ما قطع تلك الأميال العريضة إلا ليراها ويبوح لها بما في نفسه. بذل مجهودا ً خارقا ً ليتمالك نفسه ويكتفي باحتضان كفها. غاص عميقا ً في عينيها الصغيرتين الماكرتين وعيناه تثرثران لها بما لم يستطع قوله طوال تلك السنوات. ويبدو أنها قد فهمت مناجاته الصامتة فلقد أطرقت إلى الأرض طويلا ً ثم رفعت رأسها تواجهه وخداها حبتا عنب بينما عياناها تفضحان ما يجيش به قلبها من مشاعر. لم يكن (أبو عبد الله الحسين) عليه السلام ولا (يزيد) اللعين بحاضرين في خيالها تلك اللحظة، كان هنالك الكثير من الضوء وقطرات ُ المطر  الدافئة  وبيت ٌ صغير ٌ يعبق برائحة العشق وزقزقة العفاريت الصغار. اقتربت منه أكثر ويدها لا تزال في يده أحس بها ترتعش وكأنها تهم باحتضانه هي الأخرى كانت الصبية الفارعة زاهية ً وسعيدة، أسعد من أي يوم مضى من حياتها فقد بدا لها ما يحدث أمامها من واقع يفوق كل ما تمنته وحلمت به ودعت به في العتبات المقدسة في غابر السنين. كان ما يحدث أمامها ويشهد عليه الله وملائكته وأرواح المعصومين أجمعهم عظيما ً نبيلا ً وفارعا ً، يسخر من تواضع أحلامها السابقة التي ما اقتربت بكل ما غزَّاها الخيال الجامح به لتتمنى مثل هذه الحقيقة الماثلة الآن أمامها. كانت تعلم طوال هذه السنوات أنه يحبها ويهتم لأمرها ويتمنى قربها ومشاركتها أياه تفاصيل حياته. لم تخدعها يوما ً سخريته اللاذعة وإدعاؤه اللامبالاة أمامها كل تلك السنوات. ولكم تمنت لو يبوح لها بذات نفسه في أحد حواراتهما الخاصة على "قوقل بلس" ولكن ما طاف بخيالها يوما ً أنه من الممكن أن يطوي كل تلك الوهاد والنجاد من أجل أن يلتقي بها ويناجيها وجها ً لوجه ويحتضن كفها بكل هذا الحب والاحترام والتقديس.
   عادت تطرق هنيهة ً ثم رفعت رأسها لتواجهه وكأنها تهم أن تقول شيئا ً. وفجأة علا تكبير وتهليل الشبان الثلاثة الذين كانوا حولهما وهم يضغطون على أحزمتهم الناسفة في تشنج ليدوي الانفجار الرهيب وتتطاير أشلاء العاشقــَـين وتختلط بعشرات الرؤوس والأيدي والأرجل التي تناثرت تملأ الساحة.
الصفحات (155 – 160) من رواية (امرأة على قوقل بلس) - (فبراير 2013م- يوليو 2013م)