التسميات

الثلاثاء، 6 نوفمبر 2012

فـي المحطـة


    الشـارع الواسـع يعـج ُّ بالشحـاذين وهـم يمدون أيديـهم النحيـلة نحـو الأرض متوسليـن السماء، عربـة البوليـس تطلـق صافرتها المزعجـة في إلحـاح ٍ محمـوم ٍ وهي تطـارد بعـض الصبيـة المشـردين، فتـاة ٌ ترتـدي نقـابا ً أسـود تجـادل بائـع الخضروات بصـوت ٍ مهمـوس، عجـوز ٌ يسيـر محنـي الظهـر وهـو يسبـِّح الله، امـرأة ٌ تلـقـم وليـدها ثديـها المنتـفخ وقـد استظلـَّت بجـدار مبنـى السينـما المتهـدِّم، فتـاة ٌ متـوردة الخديـن تسيـر كما النائـم، ودرويـش ٌ يعـتمـر "برنوسا ً" أخضـر وهـو يهمهـم بلغـة ٍ غيـر معروفة. الساعـة تجاوزت منتصف النهار بقليـل والشمس تشـوي وجـوه الجميع في إصـرار المتجبـِّر، سـرت ُ وأنـا استظل بالصحيفـة معامـدا ً إيـاها علـى رأسـي.

   فـي المحطـة القديمـة لـم يكـن الكثيـرون يأبهـون بسيـاط الشمـس اللاهبـة، كانوا وقـوفـا ً وأعينهـم ترقـب فـي الكثير مـن القلـق والـرجاء مدخـل المحطـة، لـم أكـن لأفعـل مثلهـم، فسنـوات انتظـاري السابقـة على ذات المحطـة علمتـني أن لا فائـدة تعـود علي َّ مـن مطـاردة "الحافلـة" كي أحظى بمقعـد ٍ فيها، فـدائما ً ما كنـت ُ أتنـازل عـن ذاك المقعـد العـزيز في اللحظة الأخيـرة لامرأة ٍ لـم تكـن جميلـة، امـرأة ٌ متعبـة العينـين مضمخة ٌ برائحـة العـرق والتـراب ولـن ألتقـيها مجـددا ً، ودائمـا ً مـا كانت النسـوة يشكرنني ويدعـون لـي، ولكـن رغـم مـرور السنـوات لـم يستجـب الله لأي من تلك الدعـوات الطيبـات.
   أسمع صـوت أزيـز ٍ آت ٍ مـن البعـيد ، يبـدو أن "الحافلة" تقـتـرب، يمـوج الجمـع مشمـرين عـن سواعدهـم، أرقـبهم ساخـرا ً، أبصـر عينـين طيبتـين تلحظانني في رجاء، أبـادل صاحبتـهما النظـرات، تبـتسم لي، يـرف ُّ قـلبي، أقـرر أن أخـوض تلك  المعركـة مـن أجلها، مـن أجـل العينـين الطيبتـين والابتسامـة الجميلـة، أطوي الصحيفـة لأحـرِّر يـدي، أجـذب نفسـا ً عميقـا ً مـن الهـواء المتـرب، أجـد أن جيـبي لا يتـسع للصحيفـة، أرمي بها على الأرض بـلا مبالاة ثم أندفـع وسـط طوفان الأجسـاد لأقاتل مـن أجـل عيـني الأنثى الطيبتـين.

   أندفـع في جسـارة منزلقـا ًوسط الجمـوع المتلاطمـة، العـرق الغـزير الذي يغطي الجميـع يساعدني كثيرا ً في مهمتي النبيـلة، جسدي ينـزلق بين الأجساد المبتـلة كما الأفعى، اتخطى الكثيرين مقـتربا ً من باب "الحافلة"، رفيقـتي خلفي مباشرة، يبدو أنها قد قررت ألا تكـتفي بدور المتفرج، أناملها المتشبـثـة بكتـفي تشحنني بمزيد ٍ من القـدرة والإصرار، يصارعني رجل ٌ ضخم الجثـة كث اللحية مشعثها على الباب، يصرعني متقدما ً، أحـس ُّ بالمرارة تسكـن حلـقي، التفت ُ نحـو رفيقـتي محاولا ً أن استـشف من عينيها مـدى خذلانها في رجولتي، العيـنان الطيبـتان لا تقولان شيئا ً، اندفـع نحـو الرجل ولكنـه يسبقـني إلى الباب، تعلـق جلابيـته البيضاء فـي أحـد المسامير الناتـئة فـلا يعيـرها انتباها ً، تتمـزق الجلابية بصـوت ٍ مسمـوع ٍ فلا يهـتم الرجل، بل يقـفـز ليلـقي بنـفسه في أقـرب مقعـد ٍ صادفه وهو يلهـث، أقـفـز ورفيقـتي خلفي نحـو المقعـد المجـاور، يبتسـم لنا الرجـل الضخـم وهـو يستـوي على ظهـر صيـده الثميـن ويتلـو مستشهـدا ً وعينـاه تبرقـان:  (وَمـَن ْ يـَتــَّق ِ الله َ يَجـْعـَل  لـَّه ُ مَخـْرجَا ً ويـَرزُقـْه ُ مِن ْ حـَيـْث ُ لا يـَحـْـتـَسـِب). فيضـج الجميـع وهـم يستـوون على مقاعـدهـم هاتفيـن : (الله أكبر).
 تحرَّكت ْ "الحافلة ُ" بحملها القدسي متهادية ً على الدرب الأغبر وهي تطلق دخانا ً كثيفا ً ومن خلفها قبعت جموع ُ الخطاة والمنافقين تحت الهجير والغبار وعيونهم تتبعها بغيظ ٍ وحسد. 
..............
الخرطوم بحري - 21 أكتوبر 2012م.

السبت، 3 نوفمبر 2012

لعنة الشيخ "حسن ود حسونة" 5


                                     20
سمَّى الله بصوتٍ هامس ثم مد يديه نحو "الجردل" الكبير وأخذ يغترف منه ويصب الماء على رأسه وسائر جسده في تؤدة وهو يتمتم بالشهادتين وبعض الأدعية المأثورة. توضأ أولاً وضوءه للصلاة ثم غسل رأسه ثلاث مرات ولم ينسَ أن يخلل شعره عند كل غسلةٍ حتى يصل الماء إلى فروة رأسه. ثم بدأ بغسل ميامنه مبتدئاً بالأعلى حتى الأسفل ثم مياسره بذات الترتيب. ثم عمم جسده جميعاً بالماء. فجأةً بُصر بها وهي تتمدد بين فخذيه في سفورٍ وقح. وومض البرق ودوى الرعد وتألقت عينا الشاب بالفهم العميق.
-  اقتل الحيَّة تنجو.
أسرع (محمود) يعدو نحو الحجرة عارياً. فتح الدولاب الصغير في اضطراب وأخذ يقلب داخله وهو لا يكاد يملك زمام نفسه من الإنفعال. يداه ترتعشان وصدره يعلو ويهبط في "كريرٍ" طامٍ وكأنَّه حصان يعود من سباق طويل. وجد ضالته أخيراً فقبض عليها بيمناه في قوةٍ  ثم كرَّ راجعاً إلي الحمام وقد تبدل حاله إلى السكون المهيب والطمأنينة الشفيفة.
أخذ الشاب يتأمل الحيَّة الذي تمدد بين فخذيه وكأنَّه يراها لأول مرة. وضع الخنجر على الأرض ثم أمسك بالكائن يقلبه في دهشة، هذه هي الحيَّة سر شقائه الأبدي، هذا هو الضعف والهوان.
رفع (محمود) الخنجر عالياً سَمَّى الله وكَبَّر بصوتٍ مهيب، وكلمح البصر كان قد فصل الحيَّة السامة عن جسده.
أحس الشاب بروحه يتسع ويكبر ليحوي كل الكون داخله. أمسك بعضوه المقطوع، تأمله في فضول وكأنَّه يحاول أن يستشف سره الخفي ثم لفَّه بقطعة من القماش ولبث ساكناً يترقب وقد تكوم الثعبان أمامه كمليكٍ مطرود.
أخيراً توقف النزيف. اغتسل (محمود). ثم حمل ثعبانه وخرج إلي الشارع المشمس. اختار شجرة ظليلة في وسط القرية أخذ ينكش تحت جذعها حفرةً عميقة. ألقى الحيَّة داخلها في هدوء، أهال عليها التراب ثم تسلق الشجرة في خفة. وقف على أعلى أغصانها مشرفاً على القرية وهو يهتف بصوتٍ جهوري:
-  هلموا إليَّ يا معشر الحزانى، هلموا إليَّ..!
أخذ يرددها في انفعالٍ مثنى وثلاث ورباع دون كلل، وهم يتجمعون حوله زرافاتٍ ووحداناً والتساؤل يلوح في أعينهم.
اجتمعت القرية كلها هناك تستمع للخطبة الأخيرة التي يلقيها الشاب في حماس الأنبياء والأبصار شاخصةٌ نحو شفتيه، بينما أصحابها ساكنون صامتون وكأنَّ على رءوسهم الطير وقد ضاق بهم ظل الجميزة الضخمة على اتساعه.
بدا (محمود) هادئاً ملء ثيابه ثباتاً وقوة. حمد الله وأثنى على نبيِّه ثم انبرى قائلاً:
-  (أيها الناس، سار المثل وحقق العمل وقدم الوجل. وصمت الناطق وضاق الزاهق. وثقلت الظهور وضاقت الأمور وحجم المقدور. وأرغم المالك ومنعت المسالك وسلك الحالك. وعمرت الفترات وكثرت الحشرات. ولجت الأمواج وحفت العجاج وضعف الحجاج وأطرح المنهاج. واشتد الغرام وألحق الآرام ودلف القثام وازدلف الخصام. وصحب الوصب ونكص من الهرب. وطلب الديون فبكت العيون وفتن المفتون وسكت المغبون. وشاط الشطاط وهاط الهياط ومط الغلاط. وقدحت الحوادث ونفث النافث وعبث العابث وهجم الدابث. وظهر الإيجاز وبهر الرجاز. واختلفت الأهواء وعظمت البلوى واشتدت الشكوى. وقرض القارض ورفض الرافض. وتأضل البازخ ونفخ النافخ. وزلزلت الأرض وضيع العرض وحكم الرفض. وقام الأدعياء ونال الأشقياء وتقدمت السفهاء وتأخرت الصلحاء. وغلس العبوس وكسكس العموس ونافس المعكوس وحلب الناموس.).
صمت الشاب برهةً يلتقط أنفاسه المتسارعة لتندفع (السُّرَّة) في زغرودةٍ مجلجلةٍ عانقت السماء. ليسود الهرج والمرج بعد أن نفض الجميع عنهم غبار الذهول.
عاد الشاب يواصل خطبته وهو يتفحصهم واحداً واحداً وعيناه تبرقان:
-  أتدرون من أنا؟!
صمت برهةً يحدق في الوجوه المتسائلة وكأنَّه يمنحهم فرصة للرد. ثم عاد يجيب بصوتٍ يهدر كالشلال:
-  (أنا آية الجبار، أنا حقيقة الأسرار، أنا سخي الأنوار. أنا دليل السماوات، أنا أنيس المسبحات. أنا خليل جبرائيل، أنا صفي ميكائيل، أنا قائد الأملاك، أنا سمندل الأفلاك. أنا سائق الرعد، أنا شاهد الوعد. أنا سرير الصراح، أنا حفيظ الألواح. أنا قطب الديجور، أنا البيت المعمور. أنا زاجر العواصف، أنا محرك المعاصف. أنا سبب الأسباب، أنا أمين الحساب. أنا مدد الخلائق، أنا محقق الحقائق. أنا شريف الذات، أنا محدث الشتات. أنا البرق اللموع، أنا السقف المرفوع. أنا مؤول التأويل، أنا مفسر الإنجيل. أنا أم الكتاب، أنا فصل الخطاب، أنا صراط الحمد، أنا أساس المجد. أنا مبيد الكفرة، أنا أبو الأئمة البررة. أنا قالع الباب، أنا مدير الشراب).
وعادت (السُّرَّة) وبقية النساء يشحن الأفق بالزغاريد وتعالى تكبير الرجال وتهليلهم ثم فرقعت الدراويش سياطها في الهواء وهي تهتف:
-  يا منصور تقدم بنا صوب السور ... يا منصور..!
سار الشاب مبتعداً في هدوءٍ وهم لا زالوا يهتفون. عاد إلي حجرته والهدوء الشفيف يلتحفه. أخرج المصلاة والمسبحة ثم غرق في لجة النور.
ولم تمض دقائقٌ معدودات حتى تعالى صراخ (سالم النَّضِيف) وهتافه وهو يشير نحو السماء:
-  (محمود) .. يا (محمود) .. ما معقول .. أنا مجنون..!
كان (سالم النَّضِيف) يصرخ في هستريا وهو يتابع ببصره الشبح النحيل الذي يخترق الفضاء سابحاً في رشاقة. واستمر (سالم) يصرخ وهو يشير بيده نحو الفضاء. وخرجت القرية كلها إلي الشارع. أخذوا يرقبون الشاب الذي أخذ يبتعد ويبتعد مخترقاً الفراغ حتى اختفى خلف السحاب الأزرق.
من رواية (لعنة الشيخ حسن ود حسونة) أغسطس 1998م - مارس 2011م الصفحات 120 - 123
* الخطبة التي ألقاها بطل الرواية هذه منقولة من كتاب "تبرئة الزمة في نصح الأمة" لمحمد عثمان عبده البرهان وهو يسندها لسيدنا على كرم الله وجهه.

لعنة الشيخ "حسن ود حسونة" 4

..........................................................................................
ظل (أبو السُّرَّة) ساهراً والألم والحيرة تأخذان بقلبه وعقله. ماذا يحدث لهم وما هي تلك القوة الخفية الخبيثة الماهرة التي تسيطر عليه وعلى بقية الرجال فتجعلهم ألعوبةً في يد الحاج (حامد)؟ إنه يعرف نفسه جيداً، (أبو السُّرَّة) وهذا يكفي ويعرف بقية الرجال، يستطيع أن يحصي آباءهم جميعاً حتى الجد العشرين. فما بالهم اليوم وأي سحرٍ يسلطه عليهم هذا العجوز المتهالك؟ أي سحرٍ غامضٍ وشريرٍ هذا الذي يجعلهم يتحركون بلا إرادة. يبتسمون والقلوب تنزف دماً. يلعنون من يحبون ويدعون بالخير لأعدائهم وغاصبيهم. 
وتعالى شخير (سكينة) زوجته وكأنَّها تصرفه عن هذه الأفكار الغريبة، لتدوي الصرخة الحادة مخترقة حجب الظلام والصمت تنبئ عن كارثة مخيفة.
هبَّ (أبو السُّرَّة) منتصباً في الظلام وقد توترت عضلاته وأخذت أطرافه ترتعش وهو يمد سمعه منصتاً وقد حبس أنفاسه، ولكن لا شيء، عاد الصمت الثقيل يطبق على القرية من جديد. وعادت الحيرة تغلف عقل الرجل، ماذا يحدث حولهم؟ لقد دوت الصرخة حادةً وكأنَّ صاحبها يعاني من إلمٍ خرافيٍ مميت ولكن ما بال السكون يبسط رداءه هكذا ؟ وكيف لم يصل الصوت سمع بقية الرجال؟ فكر أن يخرج إلى الشارع يستجلي الخبر. جمع أشتات نفسه الخائرة، استجمع تاريخاً طويلاً من البطولات وإرثاً خالداً من الكبرياء ولكن ما بال التردد يقيد خطواته؟ ما بال هذا الشيء الكريه يجعل أطرافه باردةً خائرةً وضعيفة؟!
أضاع وقتاً ثميناً في محاولته اليائسة للسيطرة على نفسه دون جدوى، كان شخير (سكينة)  يزيد في حدة التوتر والقلق. فكر الرجل أن يوقظها أو ينهرها أو حتى يكتم أنفاسها، حينما خيل إليه أن هنالك ثمة من يطرق على باب الدار.
أخذ (أبو السُّرَّة) ينصت وقد حبس أنفاسه عادت الطرقات بعد هنيهةٍ تخترق أذنيه في إلحاح، ليعود الرجل يستعيد ذلك التاريخ الحافل متشجعاً ليخطو نحو باب الدار متسائلاً:
-  ده منو؟
خرج الصوت ضعيفاً واهناً وكريهاً. رد الطارق والانفعال يقيد صوته:
-  ده أنا (محمود) يا (أبو السُّرَّة). افتح الباب.
فتح الرجل الباب والخجل يلجمه ليندفع الشاب إلى الداخل كسهمٍ طائشٍ ويطيش عقل الرجل بما يروي له من أخبار.
.......................................................................................
أخذت هذه الأحداث تحاصر (أبو السُّرَّة) طيلة الأيام التالية. قضى الرجل أسبوعاً وهو يحبس نفسه عن الجميع مفترشاً تراب الحجرة والألم يصرعه. كان يجلس على أرض الحجرة المتربة وحياته السابقة تتحرك أمامه كشريطٍ سينمائي ناصعٍ ومشرق. طفولته الشقية وهو يجري إلى جانب أبيه في أزقة القرية قوياً ومهاباً من بقية الأطفال. شبابه الزاهر في المدينة الكبيرة والعراك مع زملاء المهنة الذي كان بطله الأوحد. زواجه من (سكينة) بنت زعيم "الْعَرْبَجِيَّة" السابق. (السُّرَّة) مولوده الأول التي يكنى بها. (الحاج) وفتاة القبور. حُلول (بابكر) و(محمود) في القرية وصراعهم العادل مع (الحاج). وقوفه المشرِّف إلى جانبهم ثم تضعضعه وتخاذله الأخير حين واجهه الرجل. ويعود (أبو السُّرَّة) يغلق عينيه في ألم. إنه ليس جبانا. إنه (أبو السُّرَّة) أسد البلد وزعيم "الْعَرْبَجِيَّة". "أب شنباً يكتف الدود" فكيف يخشى ذلك العجوز المتهالك. كيف ينسى نفسه وتندفع عبارات الثناء والحمد من فيه في سخاء حينما يقف أمام حاج (حامد). لشد ما يكره تلك اللحظة ويندم عليها بعد ذلك أشد الندم. لقد كان ذلك الشاب رجلاً حقيقياً فتح بصيرتهم وعبَّد الطريق أمامهم ودفع حياته ثمناً لخيرهم والدفاع عنهم، ولكنه خذله بكلماته الجبانة تلك، ليلة احتفال الناس بعودة (الحاج) من الأراضي المقدسة. ولو كان (بابكر) مكانه ذلك اليوم لوقف في شجاعةٍ وأعلن لـ(الحاج) أنه .... أنه .... أنه ..... وأخذ عقل (أبو السُّرَّة) يضج وهو يبحث عن الكلمة التي كان سيقولها (بابكر) في وجه (الحاج) دون جدوى. بذل ذهن الرجل مجهوداً خارقاً لا عهد لأدمغة البشر به، بحثاً عن تلك الكلمة الصادقة والمعبرة فلم يعثر عليها. واشتعل دماغ الرجل، تقدمت بعض الخلايا وتأخرت أخرى واحترقت البقية ثم أخذت عينا (أبو السُّرَّة) تومضان ببريقٍ غريب. هبَّ الرجل مندفعاً إلى الشارع وهو يصرخ:
-  يا ناس الحلة عووووك، (الحاج) إنتهازي ...
   (الحاج) إنتهازي ...
   أنا (أبو السُّرَّة) والحاج إنتهازي.
من رواية (لعنة الشيخ حسن ود حسونة) أغسطس 1998م - مارس 2011م صفحة 89 و 95

لعنة الشيخ "حسن ود حسونة" 3

....................................................................................................................................................................................
كان (سالم النَّضِيف) يمشي إلى جوار (السُّرَّة) طوال الوقت ويثرثر متعمداً لفت انتباهها والتي أخذ خداها يزغردان وهي تستقبل تعليقاته البسيطة الساذجة والدنيا لا تسع فرحتها. كانت تعلم أنه يحبها وإن لم يقلها يوماً، ولكن كل الدلائل كانت تشير إلى ذلك الإحساس المستحي في غموض مبهر، واليوم بدا كل شيء لعينيها ناصعاً صادقاً وجلياً. لأول مرة في حياتها تختبر (السُّرَّة) هذا الإحساس الممتع، أن يكون لها رجلها، يمشي إلى جوارها سنداً، يغمرها بأحاديثه واهتمامه ويعملان معاً مع أهليهم من أجل هدفٍ واحدٍ بهذا الحماس والتفاني. رأته يمسك بالجاروف منهمكاً في حمل الأوساخ إلى عربته "الكارو" المميزة بلونها الأخضر والخرز و"الحجاب" الذي يزين به (سالم) عنق الحمار خوفاً من أعين الحاسدين وأولاد الحرام كما يقول. انهمك الشاب في ما بين يديه في حماسٍ والعرق يتصبب من جبينه مختلطاً بالغبار. كانت (السُّرَّة) تراقب كل ذلك مبهورةً الأنفاس وقد غابت عن كل ما حولها. بدا لها (سالم) تلك اللحظة والطين يلوث وجهه، نظيفاً  ناصعاً ومطمئناً، بدا لها رجلاً حقيقياً. فجأةً دهمتها تلك الفكرة المجنونة أو قل الإحساس الطاغي أو الرغبة العارمة أو سَمِِّهَا ما شئت، اندفعت الفتاة نحو (سالم النَّضِيف) مفرودة القامة، شامخة الصدر، متوردة الخدين. بدا الكون لعينيها طيباً ودوداً والحياة رائعةً، أروع من أي وقتٍ مضى. توقفت على بعد خطوات منه وهي تغوص داخل عينيه في تبتل، ثم مدت يدها تمسح العرق من على الوجه الأسمر النحيل باهتمام. وذهل الشاب والأنامل البضة تعبث في وجهه لتتلطخ بالعرق المتسخ، عرقه هو ،(سالم) دون كل الناس. رفعت (السُّرَّة) طرف ثوبها ثم أخذت تمسح به العرق من على وجه الشاب الذي أخذ يرتعش بين يديها كعصفورٍ مقرور. أكملت عملها ليشرق وجهها بابتسامةٍ حلوة وهي تخاطبه آمرة:
-  الكارو اتملت. قوَّام أمشي فرِّغها وتعال.
وتحرك الشاب يقود حماره في آليةٍ كما أمرت الفتاة وهو ذاهل عن كل ما حوله، وتظاهر الجميع بأنهم لم يروا شيئاً بينما زعيم (الْعَرْبَجِيَّة) يرقب المشهد وهو يبتسم في رجولةٍ وأبوية.
-  تقدر تشرح لي الحاصل؟!
قالها (سالم) مخاطباً حماره وكأنَّه يستنطقه. هز الحمار رأسه ليطرد الذباب الذي تجمع حول أذنيه ومنعه من سماع العبارة، ليبتسم الشاب وهو يخاطبه معلقاً:
-  وإنت كمان ما عارف ليه هي عملت كده؟!
عاد الحمار يهز رأسه مرةً أخرى لينفجر (سالم) ضاحكاً والدنيا لا تتسع لحمل سعادته. ثم عاد يخاطبه قائلاً:
-  لكن أنا عارف، عارف السبب.!
تلفت الشاب حوله وكأنَّه يخشى أن يكون هنالك من يسترق السمع، وحين اطمأن وضع شفتيه على أذن صديقه الكبيرة وهمس بصوتٍ لا يكاد يسمع:
-  هي عملت كده لأنها بتريدني.!
وامتدت أصابعه تتحسس وجهه النظيف. توقف فجأةً وقد سكنت جوارحه ورقت نظراته متلاشيةً في الفضاء البعيد، وتوقف الحمار عن السير احتراماً لتلك اللحظة الخالدة، وغاب (سالم) عن كل ما حوله وهو يسترجع تلك اللحظة النادرة في عمر الوجود. برهةً ثم نهق رفيقه بصوت منكر وكأنَّه يذكره بوجوده.
-  يخصي عليك.
هتف بها الشاب مؤنباً حماره ثم أضاف في حسرة:
-  قطعت علي أجمل لحظه. صحيح والله حمار.
هز الحمار رأسه معترضاً على عبارة رفيقه. و(سالم) يواصل سباحته في الفضاء ثم يعود يسأله فجأةً وكأنَّه تذكر أمراً ما:
-  لكن قول لي، ليه الليله بالذات؟! سنتين وأنا بحاول أسمّعها صوتي و(السُّرَّه) ما عايزه تسمع. سنتين وأنا بحاول أورِّيها وشي، و(السُّرَّه) عميانه طَبْ. الحصل شنو الليله، خلَّاها تسمع وتشوف وتحس؟!
ولم يكن الحمار ولا سيده بقادرين على إجابة مثل هذه السؤال. أطلق الشاب ضحكةً جزلى وهو يفرغ حمولته ثم ينثني وحماره عائدين إلى أهليهم.
من رواية (لعنة الشيخ حسن ود حسونة) - أغسطس 1998م - مارس 2011م الصفحات 45 - 46

لعنة الشيخ "حسن ود حسونة" 2

                             5
   قالوا: وكان بعض عربان "الضَّهَارِي" ذوي الأنوف الطويلة المستقيمة والشوارب الكثة الفخيمة وهم ثلاثة إخوة أشقاء، ورثوا المجد كابراً عن كابر وزادوا عن حياضه غابراً إثر غابر، ذهبوا مغاضبين أهليهم فنزلوا بمواشيهم في سهل "الكريزاب" قريباً من جبل (أَنْطَاكَا) منذ مائتي عامٍ ونيف. ولم يكن في صحبتهم أحد من الإنس سوى شقيقتهم الوحيدة (بقارة). وهي فتاة في ميعة الصبا بلغت من الجمال وحسن الأدب مبلغاً عظيماً لم تبلغه أية من فتيات ذلك الزمان. كان الإخوة الثلاثة يحبون شقيقتهم حباً جمَّا ولا يرون في الدنيا من تماثلها عزةً ومنعة أو تدانيها شرفاً ورفعة. حب زاد في ناره وألهب أواره وفاة والدهم الرقيق العطوف والذي لم تسلمه شجاعته من الحتوف. فكان أن قضى في مبارزة مع أحد فرسان (الهِضَيلابْ) وهي قبيلة تسكن تلك الناحية في ذلك الزمان. وجاءت وفاة الأب بعد وفاة زوجته بنحو شهر، فكان موته على الفتاة قاصمة الظهر. فقتلت نفسها هماً وغماً ونواحا ولبثت في كربٍ عظيم. فألتف إخوتها حولها يتعهدونها بالرعاية والاهتمام محاولين تخفيف المصاب على الفتاة. ثم عزموا على أن يكون هذا ديدنهم إلى آخر الزمان حتى يعوضونها فَقْدَ أولئك الكرام. فعاشت (بقارة) بين إخوتها الثلاثة كملكة غير متوجة.
قال الراوي: ومضى على الفتاة حينٌ من الدهر وهي تتمرغ في حب أخوتها الثلاثة ورعايتهم وتدليلهم إلى أن جفت تلك البلاد وأصبح سهل "الكريزاب" قفراً يباب لا ماء فيه ولا شجر ولم يعد يسكنه إلا الحجر فلقد خاصم تلك الناحية المطر ولم يعد يزورها إلا لماما. ففكر الأخوة الثلاثة في الرحيل إلى بلاد الأحابيش ذات الخير الوفير والماء النمير. وحينما عزموا على الذهاب وأعدوا العدة والركاب أُسقط في أيدهم وتلاشت أمانيهم فلقد أهمتهم أختهم الوحيدة اليتيمة (بقارة) وما يمكن أن يحدث لها في غيابهم الذي قد يطول.
جلس الإخوة الثلاثة يتبادلون وجوه الرأي علَّهم يخرجون بأحسن التدبير. رأى أصغرهم (حمدان) أن يصطحبوا أختهم معهم إلى بلاد الحبش. خاطب شقيقيه بقوله:
-  هذه الرحلة ستفيدها كثيراً وخير لها أن ترى بلاد الله الواسعة وتمرح قليلاً.
-  ليس هذا بالرأي يا أخي. كيف ستحتمل أختنا وعورة الطريق ورهق الأسفار وأنت تعرف ما في بلاد الأحابيش من أخطار.
هكذا كان تعليق الشقيق الأكبر (حامدين) على مقالة أخيه. وتدخل (أبو المكارم) شقيقهما الأوسط بقوله:
-  أنا من رأي أخي (حامدين). شقيقتنا لا تحتمل رهق الطريق ولكن إذا لم نأخذها معنا فكيف ستعيش وحيدة في هذه القفار وأنتما تعلمان أن عربان (الهِضَيلابْ) يحقدون علينا كثيراً ويتربصون بنا الدوائر وقد يحدثون أمراً في غيابنا.
-  لن يجرأوا يا أخي. فلنترك أختنا مع نعاجها السبع ولنكثر لها من الدخن والسمسم ولن يمسسها سوء بإذن الله.
-  بئس الرأي ما تقول يا (حامدين) كيف نترك شقيقتنا وحيدة وسط هذه البيد والقفار؟! ماذا لو هاجمها ذئبٌ أو أسد أو حتى حيَّة.
قالها (حمدان) ثم صمت هنيهة ليضيف:
-  الرأي عندي أن نترك أختنا مع رجل صالح وديعة يحفظها إلى أن نعود.
-  وأين نجد هذا الرجل الصالح في هذا الزمان؟!
تساءل (حامدين) مشككاً ليجيب (حمدان) مباشرة:
-  الشيخ (حسن ود حسونة).
-  ونعم من ذكرت يا أخي.
قال الراوي: وكان الشيخ المذكور هو قطب ذلك الزمان وتجري على يديه خوارق العادات ويسكن تلك الناحية منذ حين وكان في  جواره رحمة للعالمين.  فأودع الإخوة الثلاثة شقيقتهم لدى القطب الكبير وارتحلوا إلى بلاد الأحابيش وهم مطمئنون على شقيقتهم الوحيدة. 
ولبث الإخوة الثلاثة ما شاء الله لهم أن يلبثوا في تلك البلاد الغريبة يتاجرون ويتبضعون وتحسنت أحوالهم واغتنوا. ثم قفلوا بعد عامٍ ونيف عائدين إلى سهل "الكريزاب" وهم يحملون غرائب الأشياء والمخلوقات والكثير من الهدايا لشقيقتهم الوحيدة وللشيخ (حسن ود حسونة).
قال الراوي: وكان أن نفذ أمر الله في الجارية قبل ثلاثة أيام من قدوم إخوتها فغسلها القطب الكبير وكفنها بقماش من الكتان باعه من حر ماله ودفنها قريباً من خلوته. وحينما عاد الإخوة الثلاثة أطلعهم على ما كان من أمر شقيقتهم وأن أمر الله قد نفذ فيها.
وكان للخبر وقع الصاعقة على الإخوة الثلاثة فجنَّ جنونهم وهاجمتهم ظنونهم وأحدثوا في قلوبهم أمراً نُكرا وهاجوا وماجوا وكادوا أن يفتكوا بالقطب الشيخ وهو لا يفتأ يراجعهم ويتلو من الآيات ما يُبَلِّغُهُمْ حتى هدأ الشقيقان الأصغران فأكثرا لشقيقتهما الراحلة الدعاء ثم أجهشا بعد حينٍ بالبكاء.
 أما (حامدين) الكبير فلقد اتهم الشيخ بالكذب وتحدث بما لا يليق ثم أنشد يقول:
وأفجع من فقدنا من وجدنـا           قُبيـل الفقــد مفقــود المثـالِ
وليست كالإناث ولا اللواتي          تعد لها القبور من الحجالِ
وما كانت (بقارة) أخت مِيِلٍ         ولكنـَّا الأسنة في النصالِ
ولو جاءت لها (عدنان) طراً        لما عـادوا بشسع من نعـالِ
ولكنـَّا خَدعنـا شيبُ شيخٍ            يقول الناس عنه خيـر قالِ
وقد كانت مقالتـهم خبالاً           وغُمِّسَ ناظراهم في الضلالِ   
فلا تأمن لحسن ود حسونة       فتدخل يدك في جحر الصلالِ      
قال الراوي:
فغضب الشيخ غضباً عظيماً حتى أحمرت حدقتاه وارتجفت من هول غضبه يمناه ولكنه لم ينبث ببنت شفة بل تقدم إلى قبر الفتاة والإخوة الثلاثة يخبّون في إثره وكأنهم العوز المطافيل. ووقف الشيخ وتفكَّر ثم تلى من القرآن ما تيسَّر وهتف:
-  يا (بقارة).
-  سيد أم (بقارة).
ردت الفتاة من داخل القبر بصوتٍ رخيم ثقب جلاؤه أذن الحاضرين. ليعود الشيخ يخاطبها آمراً:
-  قومي واذهبي مع إخوتك.
وإذا بالقبر ينشق في جلجلة مزلزلة وتخرج الفتاة تجر أكفانها لتنتصب بينهم ونظراتها تتجول في ما حولها في عجب وحيرة وإخوتها حولها ساكنون صامتون وكأن على رؤسهم الطير وقد ألجمهم الخوف وهم يظنون بالهلاك. والتفت الشيخ نحو (حامدين) قائلاً:
-  كل أنثى من صلبك إلى أبد الآباد. تقوم قبل التناد. وتستبيح الديدان جسدها إلى يوم المعاد.
وأسرع (حامدين) يتمرغ في التراب ويحثو على رأسه الرماد وهو يبكي وينوح. وشقيقاه يراجعان الشيخ حتى يخفف العذاب عن نسل الرجل. وأنشأ (أبو المكارم) يقول مخاطباً القطب الكبير نسأل الله حسن المصير:
أيا من عاش بين الناس دهراً        كتوم السـر صدّاق المقـالِ
ويُستسقى الغمام بناظـريه            تـذل لحكمه عنـق الرجالِ 
وعشتَ تعلِّم النـاس التآخي          وأخذ العفو في الحرب السجالِ
وحالات الزمان عليك شتى         وحـالك واحـــدٌ في كــل حــــالِ
فأعفو عن شقيقي، كن عطوفاً      أيا أسدٌ على ضعف الرئـالِ
وأعرض عن جهالتنا وأصفح       فإن العفـــو صنـــوٌ للكمـــــالِ
وبعض الرزء يُفقد كل عقلٍ         فكيف الموت في هذا الجلالِ
هي المدفون قبل الترب صوناً      وقبل اللَّحد في كـرم الخلالِ
ولو كان النسـاء كمن فقدنـا         لفُضلت النسـاء على الرجــالِ
فآسي في مصيبتنا وأصفـح         ومـا عهدي بمجدٍ عنك خالي
فلا غيضت بحارك يا جموماً       علـى علل الغرائب والدخالِ
رأيتك في الذين أرى شيوخاً         كأنك مستقيـم في المحـالِ
فإن تفق الأنـام وأنت منهم          فإن المسك بعض دم الغزالِ
قال الراوي: فرق الشيخ بعدها لحالهم وأكرم جوارهم فأردف يقول:



-  من تَعْبر منهنَّ إلى ما وراء جبل (أَنْطَاكَا). تحظى بالقبول ولا تخشى الهلاكا.
فأسرع الإخوة الثلاثة يشكرون الشيخ معترفين بفضله مقرين بحلمه ثم شدَّوا بغالهم وأردفوا شقيقتهم ميممين صوب الجبل المقصود حتى عبروه بسلام. هناك ماتت (بقارة) في الحال. فحفر لها إخوتها قبراً واسعاً تحت دوحة سامقة ودفنوها لتنعم بالراحة كبقية خلق الله.
قال الراوي: وظلت تلك عادة راتبة في أسرة الرجل (حامدين) والذين سموا بـ"تَرَبْ البِنَيَّة"، يعبرون بنسائهم بعد قيامتهن الأولى إلى ما وراء جبل (أَنْطَاكَا) فيمتن في الحال فيواروهن الثرى خلف الجبل، فينعمن بالراحة ولا يقمن بعدها إلا يوم المعاد كسائر الأناسي.
من رواية (لعنة الشيخ حسن ود حسونة) أغسطس 1998م - مارس 2011م الصفحات 28 - 31 

لعنة الشيخ "حسن ود حسونة" 1


...............................................................................................
اليوم هو الجمعة اليتيمة في (صَفَر) والفتاة تقترب وتقترب متوجهة نحو منزل أبيها وعطرها يتماوج حولها في هالاتٍ دائريةٍ تتسلل إلى البيوت القريبة بنعومةٍ ماكرة بينما صاحبته تسير في وقار وقد اشتعل خيالها. ذكرياتها في القرية تتجسد أمامها كشريطٍ سينمائي طويل. كانت حزينةً تأسف على ما آل إليه حالها وهي تنكر تلك العفونة التي تفوح منها وتتساءل عن ماهية المرض الذي جعل جسدها يهترئ ويتمزق ويورثها كل هذا الألم والعذاب. 
الشيخ (حسن ود حسونة) أوضح أسباب هذا المرض قبل مائتي عام مضت وشرح كيفية علاجه في حواره الغاضب ذاك مع الجد الكبير (حامدين). قال الشيخ في ذلك اليوم البعيد أن من تتمرَّد منهن على اللعنة وتعيش حياتها الثانية وسط الأحياء، تعاقب بالتعفن والعذاب الأبدي ولكن من تلتزم منهن بـ"الطريق" وتنفذ شروطه لتعبر إلى ما وراء جبل (أنْطَاكَا) لتموت هناك للمرة الثانية، يحيا روحها في سلام وتبعث تحت لواء سيد الخلق يوم القيامة كعامة المسلمين الصادقين. ولم تكن الفتاة تدري عن ذلك شيئاً فلقد ألجمت والدها الثروة الوفيرة عن ذكر الحقيقة أمامها.
 اقتربت الفتاة من البئر التي توسطت القرية. منظر الدلو الملقى إلى جانبها جعل الحزن الشفيف يهاجم (سالمة) بغتة. كانت لها ذكرياتٌ حميمة مع هذا الدلو وهذه البئر، فلكم لعبت هنا في صغرها ولكم تبادلت الأسرار الصغيرة مع صويحباتها ولكم غنين معا للحب والحياة. كانت البئر تقع أمام منزل (أبو السُّرَّة) زعيم "الْعَرْبَجِيَّة" على بعد ياردات قليلة منه، ويتسلل العطر الغريب إلى داخل المنزل في نعومةٍ ماكرة. وتهِبَّ (سكينة) زوجة زعيم "الْعَرْبَجِيَّة" من نومها مذعورةً وهي تصرخ:
-  ولدي ... ولدي ... البنت خطفت ولدي .!
ويستيقظ (أبو السُّرَّة) على صرخاتها المرعوبة فزعاً، ويسرع الرجل نحو سرير المرأة الذي يتوسط الفناء مهرولاً وهو يهتف:
-  مالك يا وَلِيَّه ؟ مالك ؟!
أخذت المرأة تحدق في الطفل النائم إلى جوارها متوسداً ذراعه في وداعةٍ، غير مصدقة ثم ضمُّته إلى صدرها في لوعةٍ وهي تتمتم وقد تسارعت أنفاسها:
-  الحمد لله. حلمت بالبنت خطفته.
-  بنت شنو يا وَلِيَّه ؟ قولي بسم الله.
انتهرها (أبو السُّرَّة) بتلك العبارة وهو يعود إلى فراشه مغضباً. استعاذت (سكينة) بالله من الشيطان الرجيم ثم احتضنت طفلها الحبيب مطمئنة لتغرق في سباتٍ عميق. وفي الصباح أطلقت صرختها المجنونة وتعالى الصراخ من بقية البيوت الطينية البائسة يشق الفضاء، صراخ خمس عشرة امرأة وهن يحتضن خمسة عشر طفلاً تمددوا جثثاً هامدةً بلا حراك.
من رواية (لعنة الشيخ حسن ود حسونة) - أغسطس 1998م - مارس 2011م - صفحة 8

الخميس، 1 نوفمبر 2012

الرسالة إلى مؤمني "توكتــَّو" 6

......................................................................................................................................................................
وسار ما شاء الله له أن يسير على تلك الحال في معجزةٍ غير مفسرة. ثم أحس (الجزمجي) بالعطش الشديد يحرق جوفه. ماء، أريد ماء.! غامت المرئيات أمام ناظريه. ماء.! جزَّ على أسنانه بقوة وهو يتقدم. ماء.! لم يعد يرى وجهته. ماء يا الله، ماء.! لسانه يلتصق بحلقه الجاف كقطعةٍ من الصخر. ماء، أين الماء.! قدماه ترتجفان. ماء.! ركبتاه ترتعشان. ماء يا إلهي، ماء!
كان يعلم أنه إذا ضَعُف وتهاوى فسيغمى عليه، وحينها سيهلك لا محالة. سيسد لسانه مجرى تنفسه بعد قليل فيموت اختناقاً. ماء يا رب .. أين الماء؟!
لكل شيء حدود كما يُؤثر وللجسد حدود لا يستطيع تخطيها، ومهما بلغ صاحبه  من قوة العزيمة والإصرار فسينهار لا محالة و(جابر الجزمجي) ليس سوى كائن بشري ضعيف لا يشذ عن تلك القاعدة الأبدية، فسقط الرجل على الأرض أخيراً. سقط وهو يرفس بقدميه كحملٍ ذبيح. سقط (الجزمجي) رغم قوة عزيمته وإصراره وصدق قلبه واتساع روحه. سقط على جحيم الرمضاء المحرقة لتكوي صفحة وجهه وجسده. آلامٌ هائلةٌ لا طاقة له باحتمالها ولكنه لم يكن يقوى على الصراخ. سلم جسده للقدير ولبث ينتظر النهاية. ومن عمق الفراغ هتف هاتفٌ بصوتٍ عميقٍ مجلجل:
-  (جابر) ...  يا (جابر).
حاول الرجل أن يرفع بصره ليرى من بحضرته فلم يستطع، ظلت عيناه مغمضتين وَهَنَاً رغما عنه وعاد الصوت يهتف باسمه منبِّهاً:
-  (جابر) .. أيها الجزمجي الشجاع. هنيئاً لك الفوز. تقدم لتنال جائزتك.
وكان من المستحيل على الرجل في تلك اللحظة أن يقوى على تحريك جفنيه دعك من الوقوف والتقدم. عاد الهاتف يخاطبه مكملاً:
-  قل لنا ما تريد وسآتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.!
وتمنى الرجل لو أنه يستطيع النطق أو به قدرة على الكلام أو حتى الإشارة. إذاً لتمنَّى على مخاطبه من كل كنوز الدنيا ماء، قطرةً واحدةً من السائل المقدس يبلل بها شفتيه، ويطعم جوفه المحترق. وعاد الصوت يقول:
-  نحن نعرف ما تريد. وحق علينا مكافأتك. اضرب بعصاك الحجر يا (جابر). 
فتح الرجل عينيه بصعوبةٍ بالغةٍ وقد شحنه الأمل بقدرٍ من القوة ضئيل ولكن كان كافياً ليرى الصخرة الضخمة ترقد أمامه على بعد خطواتٍ قليلة. ولم يكن يستطيع أن يستوي واقفاً لذا أخذ يزحف كالأفعى نحو الصخرة المقصودة وهو يبذل جهد الجبابرة في الإمساك بعصاه الصغيرة والمحافظة عليها. إنها حياته تلك العصاة، وإن أفلتها يفقد كل شيء. أخذ الرجل يزحف متقدماً نحو الصخرة المعنية وهو يجرُّها إلى جانبه بصعوبةٍ فلقد أُنهكت يداه حتى الشلل. وعلى الرغم من أن الصخرة الموعودة لم تكن تبعد عن مكان سقوطه إلا بضع يارداتٍ إلا أن الوصول إليها استنفذ من الوقت أكثره ومن الألم أقساه.
رفع (جابر) العصا على قدر ما ارتضته قواه الخائرة، كانت ثقيلة وكأنها تزن آلاف الأطنان ثم بيدٍ واهنةٍ ضعيفةٍ ضرب الصخرة المقدسة لتتفجَّر بالمياه، عينٌ رقراقةٌ تأتلق على ضوء الشمس الباهر. ماءٌ حلوٌ شهيٌ وعذبٌ. أدخل الرجل يديه الجافتين في الماء وهو يحمد الله في قلبه. كان عذباً سلسبيلاً يرطب جلده المتيبس وينفذ من مسامه فيشحنه بالقدرة. ملأ الرجل كفيه الواهنتين بسائل الحياة وهو لا زال مستلقٍ على بطنه ثم رفعهما نحو شفتيه وهما تهتزان والماء ينسرب من بين أصابعه الواهنة. ومن عمق الفراغ عاد الهاتف يحذره بصوتٍ عميقٍ مشحون:
-  فمن شرب منه فليس مني.!
توقفت يدا الرجل الكليلتان في منتصف المسافة إلى شفتيه. أحس (جابر) بالألم العميق يقطع نياط قلبه والبؤس يسوِّد وجه الدنيا. كان الماء قد تسرب من بين أصابعه الواهنة ليعود إلى مجراه. عاد (الجزمجي) يغترف مرةً أخرى ويداه تتجهان إلى فمه بلا أرادةٍ وعاد الصوت يهتف وقد اكتسى بلهجة سلطويةٍ مخيفة:
-  ليس مني .. ليس مني .. ليس مني.!
كان يعلم أنه الموت لا محالة ولكن لم يملك إلا أن يطيع الهاتف الغامض. همس الرجل بالشهادتين كآخر ما يحدثه به قلبه ثم ترك الماء ينسرب من بين أصابعه في هدوء واستلقى ينتظر مصيره.
من رواية (الرسالة إلى مؤمني توكتو) - مارس 2009 - أكتوبر 2011م  الصفحات 63 - 65