....................................................................................................................................................................................
كان (سالم
النَّضِيف) يمشي إلى جوار (السُّرَّة) طوال الوقت ويثرثر متعمداً لفت انتباهها
والتي أخذ خداها يزغردان وهي تستقبل تعليقاته البسيطة الساذجة والدنيا لا تسع
فرحتها. كانت تعلم أنه يحبها وإن لم يقلها يوماً، ولكن كل الدلائل كانت تشير إلى
ذلك الإحساس المستحي في غموض مبهر، واليوم بدا كل شيء لعينيها ناصعاً صادقاً
وجلياً. لأول مرة في حياتها تختبر (السُّرَّة) هذا الإحساس الممتع، أن يكون لها
رجلها، يمشي إلى جوارها سنداً، يغمرها بأحاديثه واهتمامه ويعملان معاً مع أهليهم
من أجل هدفٍ واحدٍ بهذا الحماس والتفاني. رأته يمسك بالجاروف منهمكاً في حمل
الأوساخ إلى عربته "الكارو" المميزة بلونها الأخضر والخرز و"الحجاب"
الذي يزين به (سالم) عنق الحمار خوفاً من أعين الحاسدين وأولاد الحرام كما يقول.
انهمك الشاب في ما بين يديه في حماسٍ والعرق يتصبب من جبينه مختلطاً بالغبار. كانت
(السُّرَّة) تراقب كل ذلك مبهورةً الأنفاس وقد غابت عن كل ما حولها. بدا لها
(سالم) تلك اللحظة والطين يلوث وجهه، نظيفاً ناصعاً ومطمئناً، بدا لها رجلاً حقيقياً. فجأةً
دهمتها تلك الفكرة المجنونة أو قل الإحساس الطاغي أو الرغبة العارمة أو سَمِِّهَا
ما شئت، اندفعت الفتاة نحو (سالم النَّضِيف) مفرودة القامة، شامخة الصدر، متوردة
الخدين. بدا الكون لعينيها طيباً ودوداً والحياة رائعةً، أروع من أي وقتٍ مضى.
توقفت على بعد خطوات منه وهي تغوص داخل عينيه في تبتل، ثم مدت يدها تمسح العرق من
على الوجه الأسمر النحيل باهتمام. وذهل الشاب والأنامل البضة تعبث في وجهه لتتلطخ
بالعرق المتسخ، عرقه هو ،(سالم) دون كل الناس. رفعت (السُّرَّة) طرف ثوبها ثم أخذت
تمسح به العرق من على وجه الشاب الذي أخذ يرتعش بين يديها كعصفورٍ مقرور. أكملت عملها
ليشرق وجهها بابتسامةٍ حلوة وهي تخاطبه آمرة:
- الكارو اتملت. قوَّام أمشي فرِّغها وتعال.
وتحرك الشاب يقود حماره
في آليةٍ كما أمرت الفتاة وهو ذاهل عن كل ما حوله، وتظاهر الجميع بأنهم لم يروا
شيئاً بينما زعيم (الْعَرْبَجِيَّة) يرقب المشهد وهو يبتسم في رجولةٍ وأبوية.
- تقدر تشرح لي الحاصل؟!
قالها (سالم) مخاطباً
حماره وكأنَّه يستنطقه. هز الحمار رأسه ليطرد الذباب الذي تجمع حول أذنيه ومنعه من
سماع العبارة، ليبتسم الشاب وهو يخاطبه معلقاً:
- وإنت كمان ما عارف ليه هي عملت كده؟!
عاد الحمار يهز رأسه
مرةً أخرى لينفجر (سالم) ضاحكاً والدنيا لا تتسع لحمل سعادته. ثم عاد يخاطبه
قائلاً:
- لكن أنا عارف، عارف السبب.!
تلفت الشاب حوله وكأنَّه
يخشى أن يكون هنالك من يسترق السمع، وحين اطمأن وضع شفتيه على أذن صديقه الكبيرة
وهمس بصوتٍ لا يكاد يسمع:
- هي عملت كده لأنها بتريدني.!
وامتدت أصابعه تتحسس
وجهه النظيف. توقف فجأةً وقد سكنت جوارحه ورقت نظراته متلاشيةً في الفضاء البعيد،
وتوقف الحمار عن السير احتراماً لتلك اللحظة الخالدة، وغاب (سالم) عن كل ما حوله
وهو يسترجع تلك اللحظة النادرة في عمر الوجود. برهةً ثم نهق رفيقه بصوت منكر وكأنَّه
يذكره بوجوده.
- يخصي عليك.
هتف بها الشاب مؤنباً
حماره ثم أضاف في حسرة:
- قطعت علي أجمل لحظه. صحيح والله حمار.
هز الحمار رأسه معترضاً
على عبارة رفيقه. و(سالم) يواصل سباحته في الفضاء ثم يعود يسأله فجأةً وكأنَّه
تذكر أمراً ما:
- لكن قول لي، ليه الليله بالذات؟! سنتين وأنا
بحاول أسمّعها صوتي و(السُّرَّه) ما عايزه تسمع. سنتين وأنا بحاول أورِّيها وشي،
و(السُّرَّه) عميانه طَبْ. الحصل شنو الليله، خلَّاها تسمع وتشوف وتحس؟!
ولم يكن الحمار ولا
سيده بقادرين على إجابة مثل هذه السؤال. أطلق الشاب ضحكةً جزلى وهو يفرغ حمولته ثم
ينثني وحماره عائدين إلى أهليهم.
من رواية (لعنة الشيخ حسن ود حسونة) - أغسطس 1998م - مارس 2011م الصفحات 45 - 46
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق