...............................................................................................
اليوم هو
الجمعة اليتيمة في (صَفَر) والفتاة تقترب وتقترب متوجهة نحو منزل أبيها وعطرها
يتماوج حولها في هالاتٍ دائريةٍ تتسلل إلى البيوت القريبة بنعومةٍ ماكرة بينما
صاحبته تسير في وقار وقد اشتعل خيالها. ذكرياتها في القرية تتجسد أمامها كشريطٍ
سينمائي طويل. كانت حزينةً تأسف على ما آل إليه حالها وهي تنكر تلك العفونة التي تفوح
منها وتتساءل عن ماهية المرض الذي جعل جسدها يهترئ ويتمزق ويورثها كل هذا الألم
والعذاب.
الشيخ (حسن
ود حسونة) أوضح أسباب هذا المرض قبل مائتي عام مضت وشرح كيفية علاجه في حواره
الغاضب ذاك مع الجد الكبير (حامدين). قال الشيخ في ذلك اليوم البعيد أن من تتمرَّد
منهن على اللعنة وتعيش حياتها الثانية وسط الأحياء، تعاقب بالتعفن والعذاب الأبدي
ولكن من تلتزم منهن بـ"الطريق" وتنفذ شروطه لتعبر إلى ما وراء جبل (أنْطَاكَا) لتموت هناك
للمرة الثانية، يحيا روحها في سلام وتبعث تحت لواء سيد الخلق يوم القيامة كعامة
المسلمين الصادقين. ولم تكن الفتاة تدري عن ذلك شيئاً فلقد ألجمت والدها الثروة
الوفيرة عن ذكر الحقيقة أمامها.
اقتربت الفتاة من البئر التي توسطت القرية. منظر
الدلو الملقى إلى جانبها جعل الحزن الشفيف يهاجم (سالمة) بغتة. كانت لها ذكرياتٌ
حميمة مع هذا الدلو وهذه البئر، فلكم لعبت هنا في صغرها ولكم تبادلت الأسرار الصغيرة
مع صويحباتها ولكم غنين معا للحب والحياة. كانت البئر تقع أمام منزل (أبو السُّرَّة)
زعيم "الْعَرْبَجِيَّة" على بعد ياردات قليلة منه، ويتسلل العطر الغريب إلى
داخل المنزل في نعومةٍ ماكرة. وتهِبَّ (سكينة) زوجة زعيم "الْعَرْبَجِيَّة"
من نومها مذعورةً وهي تصرخ:
- ولدي ... ولدي ... البنت خطفت ولدي .!
ويستيقظ (أبو السُّرَّة)
على صرخاتها المرعوبة فزعاً، ويسرع الرجل نحو سرير المرأة الذي يتوسط الفناء
مهرولاً وهو يهتف:
- مالك يا وَلِيَّه ؟ مالك ؟!
أخذت المرأة تحدق في
الطفل النائم إلى جوارها متوسداً ذراعه في وداعةٍ، غير مصدقة ثم ضمُّته إلى صدرها في
لوعةٍ وهي تتمتم وقد تسارعت أنفاسها:
- الحمد لله. حلمت بالبنت خطفته.
- بنت شنو يا وَلِيَّه ؟ قولي بسم الله.
انتهرها
(أبو السُّرَّة) بتلك العبارة وهو يعود إلى فراشه مغضباً. استعاذت (سكينة) بالله من
الشيطان الرجيم ثم احتضنت طفلها الحبيب مطمئنة لتغرق في سباتٍ عميق. وفي الصباح
أطلقت صرختها المجنونة وتعالى الصراخ من بقية البيوت الطينية البائسة يشق الفضاء،
صراخ خمس عشرة امرأة وهن يحتضن خمسة عشر طفلاً تمددوا جثثاً هامدةً بلا حراك.
من رواية (لعنة الشيخ حسن ود حسونة) - أغسطس 1998م - مارس 2011م - صفحة 8
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق