التسميات

الخميس، 19 يوليو 2012

ظـلــي

ظلـي ...
يـَا هـذا المغـزول ُ بأنـفـاس ِ الزَّمـَن ِ ...
بعـض ٌ مـن وجهـي ، بعـض ٌ مـن بـَدنـي 
يقتـات ُ الصـمت َ القاسـي فيـُورقــني
ينـقـر ُ ، ينقـر ُ روح َ العـقــل ِ ويـفـزعـني
ويحيـل ُ جمـال َ الكـون ِ إلى دمـن ٍ ..!
ظلـي ...
يـَا هـذا المغـزول ُ بأنفـاس ِ الزَّمـَن ِ ...
يـرهقــُني صمتــُك َ ، يـرهقــُني
وكآبـَة ُ وجهـك َ ترعبـُـنـي ..!
ظلـي ...
هـذا الشبـح ُ الغـارق ُ فـي الظـَّـلـْمـَة ؟!
رأسـي ... عينـي ... أذنـي ... أنـفـي ...
هـذي العتـمـَة ؟!!
يـا ظلـي المغـزول ُ بأنـفـاس ِ الزمـن ِ
مـاذا لو ترفـع ُ سـُود َ ستــَائـرك َ ، تـضيءُ الغـُرفــَة
ماذا لو تـتـبعـُنـي نجلـس ُ في الشـُّرفــَة
نـتـسـامـرُ كصـدقـيـن ِ عـزيـزيـن ِ بلا أدنـى كـُلـْفـة
ونـردد ُ ثـرثـرة َ الأصحـاب ِ ونشرات ِ الجـَو ِ
وأخبـار َ الجيـران ِ،
السـوق َ ، المستـشـفى ..!   
مـاذا لو نخـرج ُ للشمـس ِ حفـاة  ً ونعانـقـها عنـد َ المرفـَأ
وتمازحني وتشاكسني ، نتـسـابـق ُ فوق َ رمـال ِ الضـفــَّة 
وتـصيـح ُ وتـصـرخ ُ كالأطفـال ِ لضربات ِ المـوج ِ
تـقهقـه ُ إذ أروي طـُرفـة
وتـنـاجي لـون َ الشمـس ِ ،
شروق َ الشمـس ِ ، غـروب َ الشمـس  ِ
وتتـرك ُ أصـل َ الشمـس ِ وما خلـف َ الشمـس  ِ
وتحمـل ُ مـَا خـَـف َّ ..!   
مـاذا لو قلبـك - يومـا ً - رَف َّ
لعيـون ِ الأنثـى حيـن َ تحـن ُّ وتـصـرعـُها الإلـْفــَة
أو كـأس ِ مـدام ٍ وأغاريـد َ وسلطـان ٍ ومحـَفــَّة   
مـاذا لو عقـلـك أغـفــَا
وتركت َ سفيـنـة َ أيـامـك َ للأيـام ِ وأطلقـت َ الـدَّفــَّة
وكنـت َ بسيـطا ً مثلـي تـأخـذك َ الصـُّدفـَة
تكـره ُ بالصـُّدفـَة
تعشـق ُ بالصـُّدفـَة
وتـقابـل ُ أحـلى أنـثـى بالصـُّدفـَة
وتغـازلها صـُدفـَة
وتقبـِّلـها - دون َ تسـاؤل َ أو فلسـفـة ٍ - صُـدفـَة
أو تهجـرها صـُدفـة
لماذا تلك الأسئـلـة ُ الجائـرة ُ الحـائـرة ُ الملتـفــَّة
ماذا يعنـيـك َ إذا كان وجـود ُ العـَالـَم ِ أكـذوبـة  ْ ،
أو كان قلـوب ُ العـَالـَم ِ غـُلـْـفـَا 
مـاذا لـو نـمضـي نـرقـص ُ فـي الـزَّفــَّة ...!
يـا ظلـي ..!



                       الخرطوم - يونيو  1998م

الأربعاء، 11 يوليو 2012

الحربي واسـم الله الأعظـم


     من دون كل حواريه ومريـديه ظل شيـخي يدعوني بـ(الحربي) وانتشر هذا اللقب على مدار العشرة أعوام المنصرمة حتى أصبح اسمي الرسمي في "المسيد" وامتـد إلى كل بيـوت القرية والقرى المجاورة ولم أعد أُعـْرف إلا به. بدأ بـ(أحمد الحربي) ثم بعد عدة أعوام أو شهور- لا أدري- أختـفى (أحمد) وأصبح الجميع ينادونـني بـ(الحربي). ولم يزعجني ذلك أبدا ً إلا يوم أمس حين عرفت أن لقبي ذاك لم يكن مما يفـتخر المرء به أو يسعد بحمله ، إنما كان منـقصة ً وميزة ً سالبة في "طريق القوم" وصفة يتحرز منها كبار "المريدين السالكين". عرفت أن ذلك اللقب يحرمني من درجة في "السلك" كم تاقت نفسي للتربع عليها ويبعدني عن "مقام ٍ" طالما حنـَّـت روحي إلى بلوغه. 
    حياتي في "المسيد" مع أبيـنا الشيخ لم تكن تختلف كثيرا ًعن حياة رفاقي "المريدين" في الخدمة والملازمة والانقياد والتسليم والطاعة. حبي له لم يكن ليقل عن حبهم له إن لم أكن أفوقهم حبا ً ولكنهم يقولون عني غير ذلك. ظلوا طوال العشرة أعوام المنصرمة يقولون غير ذلك وليس لديهم من دليل يقدمونه سوى زعمهم بأنني أخاطب أبانا الشيخ وأنا أنظر إلى وجهه وأن هذا دليل ٌ كاف ٍ لما يعتـقدون.  لم ألاحظ ذلك إلا بعد أن نبهتـني تعليقاتهم المستـنكرة، ودهشت كثيرا ً فلقد كنت أعلم أن هذا المسلك غير لائـق في عـُرف "القوم" ويجب أن يجتـنبه "المريد" فكيف سقطت فيه. حاولت جاهدا ً أن أراقب نفسي حتى لا أقع في المحظور مرة ً أخرى ولكن لم يكن من الأمر بـُد ، بدا وكأنه قدرا ً مقدورا.  فرغم مراقبـتي الحذرة لنفسي وانتباهي الدائم إلا أنه دائما ما تجدني وأنا أخاطب أبانا الشيخ وعيناي تخترقان عينيه مباشرة. قال الكثيرون أن هذا قد يقـودني إلى العمى وفقدان نعمة البصر وأنا نفسي لم أكن راض ٍ عن هذا المسلك المشيـن ولكني لم استطع اجتـنابه فالأمر ليس بيـدي. وحينما زجرني أحد كبار "المريدين" يوما ً ما قبل عشرة أعوام أمام الشيخ ، تبسـَّم أبونا وهو يقول: "دعوه إنه الحربي ولن يكون سوى ذلك". تلك العبارة رفعتـني مقـاما ً عليا ً حينها  في نظر بقية "المريدين". لاحظت ُ ذلك خلال تعاملهم اللاحق معي. وكنت مثـلهم طوال السنوات العشر أعتقد أن هذا اللقب تميـيزا ً كبيرا ً وشرفا ًرفيعا ً حباني به شيخي. ظل هذا الاعتقاد ديدني حتى يوم أمس حين واجهت ُ الحقيقة المـرَّة فإذا باللقب منقصة وسـُبـَّة. فيوم أمس فقط  لاحظت أن أكثر رفاقي تخطو المقامات أسرع مني بكثير. فمثلا ً لم أحظ َ بدرجـة "المقـدم" إلا بعد خمسة أعوام ٍ في الخدمة بينما نالها البعض في عامين. صحيح أن شيخي لم يـبخل علي ببعض الأمور العظيمة والمقامات النورانية المهمة التي تتطلب رقيا ً روحيا ً خاصا ً بل جاد علي منها بالكثير. ففي "الحضرة النبوية" الأخيرة عهد لي بالوقوف أمام الباب وما كانت تلك الوظيفة ليلـقاها إلا ذو حظ ٍعظيم. من موقعي المميز ذاك رأيت الكثير المثير. ملائكة الرحمة كانت تحف ذلك الاجتماع العظيم وأجنحتها المذهبة ظلت تصطفق في حبور طوال الليل حول الغرفة الطيـنية الصغيرة حيث تـُعقـد "الحضرة النبوية الشريفة". وأنوارهم الشعشعانية المهيبة أضاءت قريتـنا الصغيرة وما حولها بنور قدسي مبهر وتسبيحهم وتحميدهم المنغم أحال صمت الليل إلى حفلة عرس ٍ رائع. استطعت أن أتعرف على الكثيرين منهم مثل "جبريل" و"ميكائيل" و"إسرافيل" وهم يحلقون صافين في سماء القرية كما أنني رأيت عند الفجر في نهاية "الحضرة" الأقطاب الأربعة وهم يمتطون خيول الغيـب منطلقين في الفضاء. ولم أميـِّز منهم سوى سيدي "عبد القادر الجيلاني" بقامته السامقة ولحيته البيضاء الكثة. وكنت أعلم أنني وحدي من يسمع ويرى فلقد كشف شيخي عني بعض الغطاء ذلك اليوم فأضحى بصري حديدا ً وسعـدت بذلك أيما سعادة.  رغم ذلك إذا بي اكتشف يوم أمس أن لقب "الحربي" لم يكن ذا دلالة عظيمة كما كنت اعتـقد.
    يوم أمس رأيت أنني وبعد عشرة أعوام ٍ من الخدمة المخلصة استحق أن أمتلك الاسم الأعظم. ذلك الذي إذا دعي به الله أجاب وإذا سـُئل به أعطى، وكانت في خيالي الكثير من الأمور المهمة التي يحتاج إنجازها لذاك الاسم. وكعادتي خاطبت ُ أبانا الشيخ مباشرة بذلك في عبارة صريحة لا لبث فيها ولا غموض ودون كناية أو تورية: " أريد الاسم الأعظم". تبسـَّم شيخي بغموض وهو يقول: "إنك الحربي والحربي لا يـُملـَّـك الاسم الأعظم أبدا ً". شعرت بإحباط ٍ عارم ٍ يحتويني فلقد كنت أعتـقد ويعتـقد الجميع أن لقب (الحربي) يعـد ُّ تشريفا ً وميزة ً حسنة فإذا هو منقصة تحول بين "المريد" وبلوغ "المقام". خرجت من عنده حزينا ً كاسف البال وإحساسي بالهوان يعذبني. ولجت إلى داري وقد إسـود َّ الكون أمام ناظري. أقمت جزءً من تلك الليلة تسبيحا ً وتحميدا ً وتهليلا، ثم دعوت المرأة إلى الفراش فأطاعتـني. بعدها احسست بالكثير من الهدوء والسكينة وزال بعض ما بي من إحباط فقررت أن أعاود الكرَّة وأعيد الطلب في الصباح رغم أن ذلك يعتبر من سوء الأدب ولكن نفسي هوَّنت علي الأمر حينها وأقنعتـني بأن شيخي قد يستجيب.
   حين انتهت الصلاة وفرغنا من الباقيات الصالحات وأكملنا قراءة "الراتب" ثم دعونا الله، كانت الأشعة الباهتة تتخلل نوافذ "المسيد" الخشبية البالية بهدوءٍ مثابر. تقدمت من الشيخ، وجهي قبالة وجهه وعيناي تغوصان عميقا ً في عينيه. رددت ذات الطلب: "أريد أن أملك الاسم الأعظم". وعاد شيخي يبتسم من جديد بذات الطريقة الغامضة والحنق يأكل صدري ثم خاطبني بقوله :"اذهب الآن إلى السوق الكبير، سجل لي كل ما تراه، كن متيقظا ً، ولا تعد إلا عند الغروب". لم أجد أية علاقة بين أمنيتي العزيزة وما يحدث في السوق فعدت أكرر طلبي متجاهلا ً التوجيه ليرمقني الشيخ بنظرة ٍ هائلة زلزلت دواخلي حتى النخاع ، للحظة ٍ خلت ُأنني احترق وأن جسدي سيتحول إلى هباء تزروه الرياح فدهمني رعبٌ هائل، لأول مرة أحس بالرعب فأطرقت ببصري إلى الأرض دون وعي مني. لأول مرة أطرق في حضرة الشيخ ولا أجد الجرأة للنظر في عينيه.
     خرجت من عنده والاضطراب يقيد خطواتي. كانت السوق كما عهدي بها تضج بالغادين والرائحين من المشترين والباعة المتجولين وأصحاب المحال الثابتة من بقالين وجزارين وبائعي الخضر والفاكهة نساء ورجالا وأطفالا ولم يكن هناك ما يستحق التسجيل أو يلفت الانتباه إلى أن ظهر ذلك الحطـَّاب العجوز، حينها أحسست أن في الأمر شيئا ً يستحق الملاحظة فلقد كان الرجل عجوزا ً نحيلا ً، ضعيفا ً ومتعبا، يسعل باستمرار وهو يحمل حزمة ً ضخمة ً من الحطب تفوق قدرته بكثير، يسير بها في عناء ومشقة وهو يكاد أن يتهاوى بين لحظة ٍ وأخرى. فكرت أن اساعده على حملها. وقبل أن أخطو نحوه إذا بشاب ضخم الجثة قوي البنيان مفتول العضلات يتـقدم نحوه مهرولا ً. وبدلا ً من أن يساعده في حمله الثـقيل كما كنت أتوقع إذا به يوجه إلى الحطـَّاب العجوز لكمة ً هائلة ً بقبضته الحديدية ألقت الأخير أرضا ً ثم يحمل حزمة الحطب تلك ويعدو بها بعيدا ً تاركا ً الحطـَّاب المسكين في سقطته العاجزة. أسرعت نحو العجوز اساعده على النهوض. ابتسم ابتسامة ً متعبة وهو يشكرني ثم انثـنى لا يلوي على شيء ليغوص في الزحام. 
    أخذت أفكر في ما حدث والمرارة تسكن حلقي كنت حانقا ً وموتورا ً بينما احساس خفي بالذنب يعذبني. كان علي َّ أن أدافع عن ذلك الحطـَّاب العجوز ولكنني لم أفعل وهذا يشعرني بمزيج من العار والخزي. أخيرا ً اقنعت نفسي بأن الأمر كان مفاجئا ً لي وغير متوقع. ولم ألبث إلا لماما ً حتى عاد ذات الحطـَّاب بحزمة أخرى متوجها نحو ساحة المبـيع. بدا أكثر تعبا ً وإجهادا ً وازدادت حدة سعاله فأشرت إليه مشجعا. وفي لمح البصر ظهر ذاك الشاب المجرم مرة ً أخرى ليلكم الحطـَّاب العجوز بكل ما أوتي من قوة فيلقيه أرضا ً ثم ينحني ليحمل حزمة الحطب في هدوء. ولم أضيع أي وقت في التفكير هذه المرة. اشهرت خنجري الصقيل وأنا أعدو نحو الشاب وعيناي تقدحان شررا ً. ألقى علي الحقير نظرة ً هازئة ثم أشار نحوي بحركة ٍ بذيئة ٍ وهو ينطلق مسابقا ً الريح وأنا خلفه أسبـَّه وألعنه، ولكن بدا وكأن ذلك المجرم من قبيلة الجان فلقد كان يعدو بسرعة ٍ غير متصورة ولم يكن أمامي سوى أن اتوقف عن المطاردة وقد نال مني التعب والإرهاق وصدري يعلو ويهبط مجهدا ً بينما إحساسي الخانق بالعجز وقلة الحيلة يمزق نياط قلبي. آهـٍ لو كنت أملك الاسم الأعظم. أخذت أدعو على ذلك الوغد بكل ما يخاف ويحذر من عظيم الأمراض والشرور وسوء الخاتمة. وحينما عدت ُ إلى الحطـَّاب وجدته قد اختفى.
    كان الغروب قد أذن إلى جانب ذلك لم يكن بي رغبة في مواصلة المراقبة فلقد بدت لي الحياة بائسة ً ظالمة ً ولئيمة ، حياة تافهة لا تستحق أن نحياها. فعدت التقط خطواتي المنهكة نحو "المسيد" مهزوما ً جريح القلب ومتعبا. كان أبونا الشيخ يجلس أمام "المسيد" متربعا ً على المصلاة كعادته وحوله بعض "المريدين" ، بدا وكأنه فرغ من الوضوء لتوه فلقد كان التراب أمامه مبتلا ً بشكل دائري. نظر في وجهي بإمعان ثم خاطبني بهدوء: " إن ذلك الحطـَّاب العجوز يملك اسم الله الأعظم". قالها لأَخـِر َّ أمامه على التراب لا حول لي ولا قوة.
                                        أم درمان - أغسطس 2011م 
أصل هذه القصة حكاية شعبية يرويها المتصوفة السودانيون منسوبة إلى الشيخ عبد الباقي المكاشفي. ت: 1960م.

الثلاثاء، 10 يوليو 2012

سفـر الأسـفـار

تـلـك الدمـَاء  ...
تصطخب ُ وتمـورُ ،
داخل صـَدري
كـقـدور ِ البـَدو في المسـَاء ..!
أو تحـدو
كترجيـع ِ الإبـل ِ في صحـراء َ قاحـلة
أو كنعير سـاقيـة ٍ وحيدة ٍ في ليلة ٍ مقـمرة ..!
تـلـك الدمـَاء ...
تنـدفع ُ في شراييـني بقـوة ٍ خارقـة
كنهـر ٍ إستوائي شـَبـق ٍ
يعـدو مزمجـرا ً نحـو مصبـِّه
يحمـل ُ فـي طريـقـه كـل َّ مـَا يصـَادفـُه ...
التمـاسيـح َ وأفـراس َ النـَّهـر والعـَوالـق
وهو يلهـث ُ وقـد تـغـَبـَّـر وجهُـه ُ ..!
تلـك الدمـَاء ...

الضـاربة ُ بجـذورها في التـَّاريخ ِ والأرض
منذ "كوش بن حـَام"
وحتى "طـَماي" و"طـَوكر" ونشيد العـَلم ..!1
تلك الدمـَاء ...
لا تنـام ُ أبـداً  ...
ولا تجعلني استـريـح ..!

ذلك المزج ُ المقـدَّس ..!
إنها دماؤهـم ...
دمـاء ُ أجـدادي العظـَام ..!
  *  *  *
هـا قـد لاحـوا فـي الأفـق ِ البعيـد
كأسراب ِ الأبابيـل
أو كبقـع ٍ مـن النـُّور ِ معلـقـة ً فـي الفضـاء ..!
أبـادمـاك ..! 2
خيـل ٌ تعـدو علـى درب التبـَّانـة
سحـب ٌ مثقـلات ..!
أبـادمـاك ..! 2
تتقدمهم قلوبـُهم الرقيقـة ُ البـَاسلـة
إنني أسمع دبيـب َ خطواتـهم ...
أقدامـُهُم النبيـلة ُ تشـرخ ُ الصمـت
كأزيـز قاطـرة ٍ تقتـرب ُ مـن المحطــَّة ..!
يهجمون كأسـراب نحـل ٍ غاضبـة 
مـن أجـل كرامة الحيـوان 3
هـؤلاء الرائعـون َ الإنسـان
المهندمـون حتى في قبـورهم ..!
إن جلجلة َ عرباتـهم
وصهيـل َ خيـولهم
يصـل إلى أذنـي َّ كهديـر "البحـر ِ الكبيـر" ..!
أبادمـاك ..! 2
أولئـك الراكضون نحـو "مِشِـن ْ كـَيـْلا" 4
وهم يبـرقـون كنبـع ٍ صـَاف ٍ
أولئـك الفـارعون كنخـلة ٍ يتيـمـة ..!
إنها دمـاؤهم ...
الزرقـاء ُ ابنـة ُ الشمس ِ العظيـمة ...
التي اغتسـلت ْ هنـاك في النبـع ِ المقـدس ِ خلـف َ الجبـل
ثم أخـذت ْ تغنـي تحـت ضـوء ِ القمـر ِ كجنيـَّة ٍ عـَاشقـة ..!
تلك الدماء ُ الرقيقـة ُ كحـد ِّ المـوسى
الشفافـة ُ كلسان ٍ مـن نـار
الدافئـة ُ كحليـب ِ المسـَاء
التي تقـودنـي نحـَو الأمـس المضـيء
الغـد ِ الـزاهر ...
فأنـا هناك في "مشن كيلا" أنعـم ُ بالـدفءِ  4
بينـما العـالم ُ يصطـك ..!
  *  * *
هأنـذا اندفـع ُ عاصفـة ً هوجـَاء
والرمـل ُ أمامـي بحـر ٌ طـام ٍ
اقتلـع ُ كـل َّ مـا يصـَادفنـي
مضـارب َ القبيـلـة ِ، قـدور َ الطعـام ِ وأعشـاب َ الربـْع ..!
الابـل ُ تمخـرُ أمامـي كسفـن ٍ مذعـورة
أحمـل ُ زادي مهاجـرا ً إلـى وادي "عبقـر" ..!
اسـامر ُ الجـن  َّ
وأآخي الشيـاطيـن ..!
أعشـق ُ إلـى حـد ِّ  المـوت
وأمـوت ُ بحـد ِّ السيـف ..!
أنحـر ُ مطيـتي للغـواني
وأعـود ُ إلـى خيمـتي كخـَيـال ٍ ثمـل ٍ
فارغ َ الجيـب ِ ، عـَامـر القـلب والـرُّوح
والفجـر ُ يلـقي علـي َّ بظـلاله السـَّاحـرة ..!
إنـها دمـَاؤهم ...
أولئـك القـوم ُ الأقحـَاح
الذيـن انشقـت ْ عنـهُم ُ الصحراء ُ فجـأة ً
أو انشقـوا عنـها ...
لا أدري ولا هـُم يـدرون ..!
أولئـك الأجـداد  ...
الذين يقامـرون لإطعـام ِ ضيـوف ِ الله ...
يقامـرون ويسـرقـون ...
نعم ... يسـرقون لإطعـام ِ ضيـفهم
أو ينحرون مطيتـه ولا يبيـت ُ جـائعـا ً ..!
أولئـك الأجـداد  ...
الذيـن لم يهـدأوا أبـَدا ً
وظلـوا يكتبـون الأشعـَار َ وينـُشـدونـها
ويعشقـون ويتنـاسلـون
حتى أ ُرسـل َ للبشـريـَة ِ منـهم نبـي ..!
  *  *  *
من هـؤلاء ..؟!
الذين تندفـع دماؤهـم في شراييني بقـوة ٍ حـَارقـة
وكأنه قـد أضيف َ إليها الفلفل  ..!
أولئـك المنحدرون على ضفتـي النيـل جنـوبـا ً
يمشـون مرهقيـن َ كخيـول ٍ تجـرُّ عـربـات ٍ ثـقيـلـة ..!
إنـهم يحملـون علـى أكتـافهم آلاف َ القتـلى
آلاف َ الأرواح ِ النـَّجسـة ِ التـي أرسَـلـوها إلـى الجحيـم
وارتضـوا أن يدفعـوا الثمـن ،
هجـرة ً مـن الأرض
الأرض ُ الحبيبـة ُ ، المـراعي
الضفـاف ُ 
التي ترقص ُ على رمالـها الحـوريات ُ فـي الليـالي المقمـرة
الحدائـق ُ الغنــَّاء ...
السـَّواقـي و"الرواحات" ...
الأطفـال ُ ودفءُ البيـت
البيـت ُ الكبيـر
حيث ُالمستقبـل ُ عـَروس ٌ كالنـُّضـَار ..!
لقـد ركلـوا كـل َّ ذاك النعيـم
كما يركـل ُ الـراعي كلبـَه ُ المشاكس
لأنهم كانـوا صادقيـن مـع أنفسـهم 
وكانـوا رجـَالا ً حقيقييـن ..!
  *  *  *
حينـما ينـوي أحـد ُ الشبـان أن يـزور َ أهـل َ فتـاتـه ...
أحـد ٌ مـن أولئـك الشبـان المثقفيـن ...
ذوي اليـاقـات ِ المنشـاة ِ 
والأحـذية ِ اللامعـة كسطـح "الفـورمايـكا" ...
أولئـك الشبـان ُ المتخرجـون في الجـامعات ِ
ذات اللافتـات ِ الضخمـة ِ الكـذوبـة ...
حينـما يذهـب ُ أحـدُهُم إلى بيـت ِ فتـاتـه
يتـرك ُ خلفـه أولئـك الأسـلاف ..!
يغلـق ُ عليـهم باب حجـرتـه ثم يتسـلل في حـذر ٍ
مـن البـاب ِ الخلفـي للـدار
حتى لا يتبعـه واحـد ٌ منـهم  ..!
أولئـك الأجـداد ُ الذيـن يمتـصـُّون كـل َّ الألـوان
كما يقـول ُ علـم ُ الفيـزيـاء ..!
ويجيـدون العمـل َ دون أجـْر ٍ
كمـا يقـول أحـد ُ الساسـة ِ الإقطاعييـن
وهو يمسـح ُ على كرشـه الضخم مترفقـا ً ..!
الأجـداد ُ ذوي الابتسـامة ِ البيضـاء ِ الوحيـدة ِ فـي هـذا الكـَوكب
كمـا يشيـر ُ أحـد ُ المؤلفـات ِ الضخمـة ِ فـي علـم الجمـَال ..!
القادمـون مـن سـُرَّة ِ العـالـَم
حيـث ُ تتشـاغـل ُ الصـَبايـا هنـاك بقطـف النـجوم ِ
وهـن َّ يـرددن أغنيـة ً عاطفيـة ..!
حيـث المروج ُ الفسيحـة ُ تبـدو كبـلاط ِ كبيـر ِ الغـِيـلان
والأسـود ُ تتـراكض ُ وزئيـرُهـا يشـرخ ُ السمـَاء
بينـما تقـوم ُ السعـَالي بإرضاع ِ أطفالهن خلـفَ الدغـل ِ
على ضـوء الغسـق ِ الشـاحـب ..!
والقـرود ُ الصغيـرة ُ منهمـكـة ً فـي فعـل الحـب ِ
هنـاك في الهـواء ِ الطلـق ..!
ولكن حينما ذهبت ُ لأقابـل َ والـد َ حبيبـتي
وكنـت ُ أضـع ُ حبـات ِ البـن ِ فـي جيـبي 
كانت أرواحـُهُم ُ العظيـمةُ تتبـع خطـواتي
وهـي تختـرق ُ الأثيـر في نعـومة
وتتخـطى أشجـارَ "الباباي" و"التبلدي" بسـلاسـة
وتنشـد ُ في حبـور ٍ
وهي تدعـو لـي بالنجـاح ِ في مهمـتي
والفـوز بمـن ارتضاها قلبـي ..!
أنـا فخور ٌ بتلـك الدمـاء المتدفـقة في شراييـني
التي تحلـِّق ُ بـي نحـو سماوات ٍ أخـرى
حيـث ُ القلـوب ُ النظيـفة ُ الممطـرة ُ دومـَا ً ..!
أنا فخـور ٌ بهـؤلاء الأجـداد ...
وفـي المسـاء ،
أسكـب ُ اللبـن قـُرب َ الـدار 
لتشرب َ أرواحـُهـم عصيـر َ الحيـاة
وتحرس ُ القبيـلة َ وهـي في كامـل قـُواهـا ..!
  *   *  *
هـذا المزيـج ُ المقـدس ُ يتصـارع ُ داخـلي
فـي جدليـة ٍ مرعبـة ٍ بعض الأحيـان ..!
لكنـه يصـب ُّ في النبـع ِ الخـالد ِ أخيرا ً ..!
لن يهـدأ أبدا ً
ولن يجعل َ الآخريـن يهـدأون ..!
يزعجنـي كثيـرا ً ...
ذلك الإزعـاج ُ المحبــَّب..!
القلـق ُ المدمـِّر ُ البـنـَّاء ..!
الشـَّـك ُ المطمئـن ُ الفخـور ..!
                               أم جر - بحر أبيض - يناير 2000م.
1/ معركتا "طماي" و"طوكر" دارت بين المهدويين السودانيين "البجة" بقيادة مواطنهم أمير الشرق "عثمان دقنة" والمستعمر البريطاني  ويعتبر البجة هم الوحيدون الذين استطاعوا كسر مربع المشاة لجيش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس "مارس 1884م". وألحقوا الهزائم بأكبر القواد الإنجليز مثل "بيكر" "وجراهام". وقبائل البجة من القبائل السودانية الضاربة في القدم ويقال أن نسبها يرجع إلى "كوش بن حام".
 2/ أبادماك - الإله الأسـد : أول إله سوداني محلي يعبد في مملكة السودان النوبية القديمة "270ق.م". قبلها كان السودانيون النوبيون يعبدون الإله المصري "آمون" والذي يرمز له بالحمل. يعتبر تاريخ عبادة هذا الإله هو البداية الحقيقية لإستقلالية الدولة النوبية السودانية عن نفوذ الكهنة التابعين للمملكة المصرية والذي وصل نفوذهم إلى السيطرة الكاملة على مفاصل المملكة والتدخل في كل شئونها حتى عزل الملك. فثار السودانيون النوبيون وحطموا معبد الإله "آمون" وقتلوا كهنته ومن ذاك التاريخ ظهر الإله السوداني "أبادماك" الذي يرمز له برأس الأسد وأنشأت له المعابد وهي باقية في شمال السودان حتى يومنا هذا.
3 / يذكر التاريخ  أن أحد أسباب غزو الملك السوداني النوبي العظيم "بعانخي" لمصر "751ق.م" هو أساءة المصريين للخيول وتحميلها ما لا طاقة لها به من صنوف العمل الشاق.
4/ مشن كيلا : كلمة سودانية نوبية تعني حد الشمس. والبحث عن حد الشمس يرد كثيرا ً في قصص القدماء من الملوك والممالك القديمة كذي القرنين وغيره.