التسميات

الثلاثاء، 5 يونيو 2012

بـاب الحيـاة 1

فيفيان أبستلو

- 7 -

...........................................
..................................................................
......................................................
وصمتَ (خالد). فشلتْ جميع محاولاتي لاستدراجه في الكلام ، وتركته ، وليتني ما فعلت ، لكنت قد اكتشفت السر وتجنبت الكارثة ، الكارثة التي أودت بحياة حبيبي ووالد طفلي والقت بي وراء القضبان ووصمتني بأبشع ما يمكن أن توصم به فتاة ، القاتلة. نعم أنا القاتلة. قتلت (خالد) ، سددت إلى صدره النبيل أربع طعنات ٍ قاضيات ٍ وأخذت أرقبه يموت وهو يهتف :
-  (فيفيان) ، أعشقك ، قبِّليني ، أرجوك ..!
كانت هذه آخر عبارةٍ نطق بها (خالد) وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وعرفت يومها أنه لم يكن يحبني بل لم يحب أحد ، فقط كان يمارس طقوس عبادته الغريبة ، ذلك الدين الذي اخترعه واعتنقه وأضاع شبابه راهباً متبتلاً في محرابه ثم قدم حياته قرباناً له وهو يؤمن بأنه السبيل الوحيد كي يرتقي ويُمنح الخلود في الأبدية ..!

- 8 -

    صحوت من نومي في أحد أيام "أبريل" الدافئة مشوشة التفكير، إنها الخامسة صباحاً وقد أيقظ الكون صياح ديك ٍ فتي. أحسست أن الفراش متسعٌ أكثر من المعتاد. فكرتُ أن (خالد) سبقني في الصحو على الرغم من أنه لا يفعلها عادةً. فتحت عينيَّ ببطء وأنا أقاوم رغبتي في مواصلة النوم، أخذت أجول بنظراتي داخل الحجرة ، كان الكرسي الصغير خالياً ولا أثر لـ(خالد) داخل الغرفة. وفجأةً التقطت عيناي منظراً هائلاً ورهيباً ، ولم اصدق عينيَّ. كان (خالد) ينام أمامي معلقاً في الفراغ وهو يتوسط سماء الحجرة. دقائق والذهول أنا ، لم يكن حلماً. قفزت من السرير وأنا أقدم رجلاً وأوخر أخرى. أخذت اقترب من المنظر في حذر. كان (خالد) يغط في نوم هادئ وعميق وقد توسد ذراعه اليمنى ولا شيء يسنده ، فراغٌ ، فراغ. كان ينام في مستوى أعلى من قامتي ، تشجعتُ لأجذب المقعد الصغير، صعدت عليه واقتربتُ ، اقتربتُ حتى غمرتْ أنفاسي وجهه.
-  (خالد) ..!
همستُ بها وجسدي يرتعش. ولم يتحرك ، عدتُ أهتف وأنا أمد يدي أهزه ، تنفس في عمق ثم أخذ يتمطى كسلاً وانقلب ليدير لي ظهره كعادته ، انقلب في الفراغ ، نعم ، لقد فعلها ولا أدري كيف فعلها.
-  (خالد) ستسقط ..!
وجدتُ نفسي أهتف والبكاء يخنق صوتي.
-  كم الساعة الآن ؟
خاطبني بالعبارة متسائلاً وهو لا يزال مغمض العينين.
-  (خالد) ..!
عدتُ أهتف ملتاعة ثم لم أعد أحتمل ، أطلقتُ صرخةً حادة ثم انفجرت في البكاء.
فتح (خالد) عينيه متسائلاً ليسيطر الذهول على حواسه ، أخذ يتطلع لما حوله ببلادة ثم اعتدل ، اعتدل جالساً في الفراغ وهو يتمتم :
-  يا قيوم السموات والأرض ..!
-  (خالد) ... انزل ..!
كنت لا أزال أقف على المقعد الصغير أحاذيه ، ولم يرد ، بل مد يديه يجذبني نحوه ثم رفعني ليجلسني في حجره ولا شيء يسندنا.
-  (خالد) ... سنسقط ..!
هتفتُ بها والرعب يلجمني ليرد بلهجة الواثق :
-  لن يحدث.
-  كيف فعلتها ؟! كيف تنام على اللاشيء ؟!!
-  إن اللاشيء شيء.
قالها وعيناه تعانقان المجهول. عدتُ أتوسل إليه قائلة :
-  (خالد) ... لم اعد احتمل ...أرجوك فلنهبط ..!
وهبطنا ، لا أدري كيف ، وجدت نفسي جالسةً في حجره على فراشنا الصغير.
كنتُ مرعوبة إلى حد الانهيار وكان هادئاً إلى حدٍ مرعب ، أدار معصمي ينظر إلى الساعة وهو يخاطبني بقوله :
-  ايقظيني عند السابعة.
ثم جذب المفرش الأحمر وعاد يغرق في النوم وكأن شيئاً لم يكن.
......................................................................................
................................................................
........................................
غادر (خالد) الكافتيريا ذلك اليوم قبل نهاية الدوام بعد مكالمة هاتفية قصيرة دون أن يخبرني عن وجهته ، سألت (نادر) فرد والحيرة تعصف بعينيه :
-  إن (خالد) لم يكلمني بل اندفع إلى الشارع وكأنه يطارد شيئاً.
وعدتُ إلى البيت وحيدة. ظللت ساهرة انتظره حتى الواحدة صباحاً وأنا اضرب أخماساً لأسداس ، ثم اطبق عليَّ النعاس فغفوت لأصحو على صوته وهو يخاطبني قائلاً :
-  (فيفيان) ... يا ابنوستي الرائعة ... إنهم يسرقون (ميسون) حبيبتي ..!
اعتدلت جالسة على السرير وانا اقاوم بقية من نعاس. وجدته إلى جواري. بدا على ضوء الفجر الشاحب أكثر شموخاً وكأن قامته قد طالت كثيراً.
-  هائل يا "سبرت" ..!
وعرفتُ أنه مخمور. نهضت لأنزع عنه ثيابه وانا أخاطبه :
-  وهل كان من الضروري أن تشرب ؟!!
-  لقد سرقوا (ميسون) حبيبتي ..!
عدتُ أخاطبه منتهرة :
-  ماذا سيقول ابنك حين يعرف ؟! ألا تخجل من نفسك ؟!! إنك أب ..!
ويبدو أن العبارة قد اثارت انتباهه فلقد أخذ يدقق النظر في بطني المنتفخ وكأنه يراه لأول مرة ثم ربت عليه وهو يقول مخاطباً الصغير بداخله :
-  (محمد) ... يا غزالي الأسمر ... إن ما يدخل بالفم لا ينجِّس الجسم وإنما ينجِّس الجسم ما يخرج بالفم ..!
-  لقد قالها (يسوع) الناصري.
وجدتُ نفسي اهتف وأنا احملق فيه مذهولة.
-  وقالها الأستاذ أيضاً.
-  ومن هو الأستاذ ؟
-  رجلٌ نادى بالحقيقة فقتلوه.
جلل الصمت فضاء الحجرة طويلاً بعد تلك العبارة. اخذت افكر فيها ملياً ثم عدت أخاطبه :
-  هيا لتنام فأنت متعب.
-  فعلاً ، لابد أن أنام فأنا متعبٌ جداً ، إنهم يسرقون (ميسون) وهذا اقصى ما استطيع احتماله من الألم ، لقد تعبت ..!
جاءني صوته عميقاً ، نقياً وكأنه آتٍ من الملكوت. أخذت أحدق في عينيه وأنا مذهولة مما يحدث له ، بدا رقيقاً ، شفيفاً وكأنه صيغ من البللور. سمعته يهمس وكأنه يحدث نفسه :
-  لابد أن أرتقي الليلة ، إنه الموعد المناسب.
كذبتُ كل هذا ، كذبتُ عيني واذني قلت أني أتوهم وأخذت أحاول إقناعه بالذهاب إلى الفراش ولم يكن يسمعني. أخذ يتأمل أصابعي باهتمام وكأنه يختبرها ثم ناولني السكين وهو يقول :
-  ستساعديني.
ولم أكن أفهم شيئاً. امسكتُ الخنجر وأنا اخاطبه في رقة:
-  هيا لتنام فأنت متعب.
-  فعلاً أنا متعب ولكن لقد انتهى كل شيء ، وقريباً تكون السعادة الأبدية ..!
صمت ليتجول بنظراته داخل الغرفة وكأنه يبحث عن شيء ما ثم عاد الصوت العميق الهادئ يشرخ الصمت :
-  (فيفيان) ... إني ادعوك إلى درب الحقيقة.
-  وما هو درب الحقيقة ؟!
تساءلتُ أجاريه لعله يرضى أن يذهب إلى الفراش.
-  الألم ..!
قالها وكأنه يوحى إليه. ثم واصل حديثه بعد هنيهةٍ وهو يغوص بنظراته عميقاً داخل عينيّ :
-  افعلي دائماً ما تكرهيه ، افعلي ما يجلب لك أكبر قدر ٍ من الألم والتعاسة ، افعليه بسعادة ٍ وغبطة ٍ فتلوح لك الحقيقة ..!
-  (خالد) ..!
وجدتُ نفسي أصرخ في هستيريا فلقد انكشفت لي الحقيقة أخيراً ، كريهةً ومؤلمة. خيل لي أنه يهمس :
-  لقد كانت (ميسون) نصفيَ الآخر ، تركتُها وأخذت ألثم خدوداً لا تستحق سوى الصفع بالنعال ..!
-  (خالد) ..!
-  كنتُ أعلم أن الجميع كاذبون ، تافهون ، ومخادعون ..!
-  (خالد) ..!
-  كنتُ احتمل الألم بغبطة ..!
-  (خالد) ..!
-  وكان روحي يرتقي ..!
-  (خالد) ..!
-  كانوا كلهم مكشوفين أمامي ..!
-  (خالد) ..!
-  حتى أنت ِ ..!
قالها وهو يشير نحو التمساح الرابض على الجدار. ولم أدر ِ بعدها كيف حدث هذا. وجدتُ نفسي اندفع نحوه والسكين بيدي، وفـَرَدَ حبيبي ذراعيه على اتساعهما وهو يهمس :
-  تعجَّلي ... لا أستطيع صبرا ..!
ودفعتُ بالسكين داخل صدره مثنى وثلاث ورباع وسقط (خالد) ونافورة من الدم تندفع من قلبه نحو الفضاء. صرختُ وأنا أتأمله ملتاعةً. أخذتْ عيناه تبرقان وكأنه يرى كوناً بهيجاً ثم همس وقد علتْ وجهه علامات الرضا:
-  (فيفيان) ... أشكرك ... قبليني ... أرجوك ..!

                      من رواية (باب الحياة) الصفحات (164 - 170) أبريل 2000 مارس 2004م
الناشر مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي - السودان 2007م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق