نـادر كـرف
................
...........................................................
.........................................................
..............................................
كنا قد اصطدمنا قبل أسبوعين بالشرطة ، أصيب ذراعي ، كان ألماً رهيباً يومها ولكنني قاومت. شاركتُ الرفاق حتى النهاية وكان عضدي الأيمن مكسوراً دون أن أدري. وعندما انتهى كل شيء فوجئت بساعدي يكاد أن يسقط على الأرض ، ولم يكن معي سوى (جولي) التي أخذت تبكي في رعب وهي تساعدني على حمل ذراعي المكسور ونحن نعدو على الإسفلت البارد، كائنين صغيرين وضعيفين لا حول لنا ولا قوة بينما "الخرطوم" عملاق ٌ معدني ٌ هائل ٌ لن يهتز لأحزان (جولي) ودموعها.
قاومت ُ الألم بفدائية من أجلها، طمأنتها ولم تطمئن ثم عدت إلى داخلية الطلاب حيث قام عم (عثمان) المكوجي بتثبيت العضد بجبيرة بدائية فخفَّ الألم قليلا ً ثم زال. وأخذت أمارس حياتي ويدي معلقة إلى عنقي بخيط طويل. وبعد أسبوعين عاد الألم قاسياً ورهيبا. قام عم (عثمان) بفك الجبيرة ليندفع الصديد. أخذ الرجل العجوز يومها يفرغ السائل في قسوة ربما نتيجة للرعب الذي أصابه مما حدث. ولم أقوَ على الاحتمال ، اغمى عليَّ وأنا بين يديه. وحينما أفقت وجدت الجميع يحيطون بي. كان جميع القذرين حول فراشي ودموعهم تنهمر. فتحت عينيَّ أحدق فيهم بذهول ليفاجئني (نادر) بعبارته الخالدة التي لم تكبر معه بمرور السنوات :
- أونكل (نادر) ... نحن نحبك ..!
أخذت أنقل بصري بينهم في دهشة ، أبي وقد تهدل حاجباه وزوت عيناه وكأنه يصوم عن الرؤية ، أمي والشيب المتكاثف على رأسها في سخرية ، (ناجي) ونظراته القلقة ، (ناهد) و(محمود) الذي كان يبتسم في وجهي مشجعاً ، (نور) و(نهال) والدموع المتيبسة على خديهما البريئين ، (نادر) الصغير وعبارته التي تفتت القلب.
عرفت أنني ظللت غائباً عن الوعي ليومين وأن أمهر أطباء "الخرطوم" ، كما عبَّر (محمود)، قد زارني وأوصى بالسفر إلى "الأردن" وإلا بُترت اليد.
كان ذاك أول يوم يضمني فيه بيتنا بـ"الخرطوم" وللحقيقة كان هذا أول بيت تملكه الأسرة فطوال أعوامنا السابقة كنا ضيوفاً على الدولة ، نسكن في بيوت الموظفين الحكومية. كان (ناجي) قد عاد إلى "الخرطوم" في العام السابق بعد خمسة أعوام قضاها عاملاً بإحدى الشركات في "تكساس" ، اشترى هذه الفيلا للأسرة ثم انشأ شركة هندسية صغيرة سماها "لايف قيت" بمساعدة (محمود) وأبي. عرفت ذلك في حينه ولم أهتم ، لم اعد حتى للسلام على (ناجي) وتهنئته بالعودة ، ورفضت مقابلته حين زارني بداخلية الطلاب. وعلقت (جولي) على ذلك بقولها :
- ترعبني قسوتك ..!
- لستُ بقاس ٍ ولكنني أحارب القذارة أينما وُجدتْ.
عادت تخاطبني وهي تلوح بيدها في ضجر :
- ولكنهم أهلك.
- هذا لا يشفع لهم عندي.
أجبتُ وأنا اغوص داخل عينيها بنظرة ثاقبة لترتجف أهدابها وهي تهمس :
- إنني لا أستطيع ان أفعل مثلك.
- وأين شرفك الثوري أيها الرفيق ؟!!
- وأين حياتك أيها المجنون ؟!!!
صرخت (جولي) في وجهي بحدة. أخذت أحملق في وجهها مستوضحاً. وجدتها تتأمل ثيابي البالية في أسى وكأنها تراها لأول مرة. ثم علقت بقولها:
- إنك تبدو كشحاذ ..!
- ولكنك تعشقين هذا الشحاذ.
علقتُ على عبارتها في هدوء لتتساءل والألم يخنق صوتها :
- ولكن إلى متى ؟!
- حتى نقضي على القذارة.
- أو تقضي علينا ..!
أكملت الفتاة وهي تندفع مبتعدة ودموعها شلال صغير.
لقد كانت (جولي) تحلم وكنتُ انكر عليها حلمها ، كانت تحلم ككل الفتيات ، تحلم بالبيت الصغير الدافئ الذي يأويها ومن تحب ، بيتٌ يمنح علاقتنا الشرعية المطلوبة ويبعد عنها قائلة السوء، بيتٌ تستطيع بداخله أن تصرخ في وجهي أو تشتمني أو تلقي بنفسها بين ذراعي دون أن يتدخل البوليس أو ينصحها أحد المارة ، ولكنني لم أكن أفهم. ليست (جوليانا) وحدها، إنما كان شعوري هذا يمتد ليطال كل رفيقات الحزب. لم يدر بخلدي يوماً أنهن من الممكن أن يتزوجن ثم يأوين إلى غرفةٍ مظلمة ليخرجن منها منتفخات البطون ، يحملن ويعانين آلام الوضوع كسائر النساء. كنت لا أراهن إلا وسط مظاهرةٍ هادرة وكلٌّ منهن تحتضن كف حبيبها ويعدو الجميع وهراوات الشرطة تلهب ظهورهم.
من رواية (باب الحياة) الصفحات (258 - 260) أبريل 2000 مارس 2004م.
الناشر مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي - السودان 2007م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق