لفظته "الحافلة" في الميدان الواسع وسط المدينة فطفق يمشي كما الجميع ، مقوس الظهر، قانطاً ومهدودا وكأن صدره ينوء بحمل ٍ ثقيل. لم تكن حاله بأفضل من حال الكثيرين الذين انفجرت عنهم المدينة هذا الصباح ،عينان غائرتان انطفأ بريقهما منذ زمن ٍ بعيد ، وجهٌ شاحبٌ مصفر وخطواتٌ هزيلةٌ مضطربةٌ تظن أنها ستهوي بصاحبها إلى جانب الدرب بين لحظة ٍ وأخرى. ولكن حينما اشتعل التظاهرممزقاً صمت المدينة الكريه ، انتصب ذلك الجسد المهدود فجأة ً لتعتدل قامته في شموخ وتنتفخ عضلاته ويدب النشاط في كل خلية ٍ من خلايا جسمه فتبرق عيناه وتقدحان رعدا ً وبروقا ، شهبا ً ونيازك ، بدا وكأن أحدهم حقنه بإكسير الفتوة.
أنضم إلى بركان الغضب الراعد مهرولا ً كحصان ٍ نشط. اليوم يوم الورد ..!"
أخذ يصول ويجول ، يكرُّ ويفرُّ، يهشِّم ، يحطِّم ويشعل النيران في قلب المدينة القاسية ، تلك التي ما فتئت تحرق قلبه كل صباح وتسحق الورد. وبيديه العاريتين أخذ يشوِّه وجه المدينة البذئ لتتهاوى المساحيق أمام ضرباته الساحقة. اليوم يوم الورد ..!
كان يزن ضرباته بميزان الورد ، ذلك الذي داسته الأحذية الغليظة نفسها، فما طفف وما خسر وما نبا له سهم. أخيراً جلس على جانب الرصيف يلتقط أنفاسه ويرقب النيران وهي تلتهم وجه المدينة المزيـَّف لتخبو نيران قلبه شيئاً فشيئا. لم يكن يدري سرَّ انفجار البركان هذا الصباح، بل لم يقف ليتساءل عن السبب. إن هذه المدينة بنت الكلب تستحق الشنق ، مدينةٌ يحيد القمر عن سمائها وتتحاشاها العصافير ظلت تطبق على أضلاعه حتى تهشمت وتدوس بحذائها الغليظ على وجهه حتى تعفـَّر وتسحق الورود كلما تفتحت. تفعل ذلك في صفاقة المومسات وجبن الطغاة ثم تمضي هازئة ً من آلامه ساخرة ً من عجزه. ولم يكن يهمه ذلك بقدر ما أهمه مصير الورد. ستة عشر عاماً ولم تتفتح في هذه المدينة وردة. فسكان هذه المدينة الدنيئة لا يهتمون بالورد ، لم يكونوا يولونه عنايتهم في القديم ولم يفكروا في الثأر له حين دهمته الأحذية الغليظة ، بدا وكأنهم لا يدركون ما للوردة من سلطان. ظل يرقبهم ليل نهار والألم يطبق على قلبه ، كان في انتظار بادرة منهم تبشِّر بمستقبل الورد ولكن ظلت أعينهم جميعها تعانق التراب وأنوفهم لا تفتقد عطر الورود أو تتساءل عن سر اختفائه من أسواق المدينة ، فكيف انقلبت الحال هذا الصباح، كيف انتصروا للوردة أخيراً وأخرجوا ألسنتهم لهذه المدينة القاسية. سمعهم يقولون أنها ابتلعت الزعيم ليلة الأمس وأن أنصاره الغاضبين هم من اخترق جدار الصمت. لم يكن يدري أي زعيم ٍ جديد ٍ ابتلعته هذه المدينة الدنيئة ولكن كان يعلم أن جوفها يتسع لابتلاع ملايين الزعماء لذا لم يشغل نفسه بالتفكير بل اندفع يقاتل مع المقاتلين منتصراً للورد.
بغتةً سمع الرجل همهمة ً غاضبة وصليل سلاح أبيض ، ورآهم يتقدمون نحوه وهم يزمجرون ، لم يكن ليتبين كلماتهم أو يفهم مغزاها بل لم يدر بذهنه أنها تعنيه أو أن أصحابها يقصدونه بالشر. لاحوا لعينيه المتعبتين في البعيد ، طوال القامة لامعي السواد ومتأنقين، فكر الرجل ، لابد أنهم أنصار الزعيم ، يا لشجاعتهم . اقتربوا أكثر ، ابتسم لهم من عينيه ثم رفع يده السمراء المتعبة شارة النصر ، اقتربوا أكثر ، فكـَّر أن يحدثهم عن الورد وروحه المعذبة ولكن لم يجد وقتاً لذلك ، عاجله أكثرهم أناقة بضربةٍ قاسية ٍ على أم رأسه لتتسع عيناه دهشةً وألما. صرخ بصوت ٍ متحشرج : " لماذا ؟!". وعادت "الفأس" تهوي على رأسه من جديد ليسقط غارقاً في دمائه.
بغتةً سمع الرجل همهمة ً غاضبة وصليل سلاح أبيض ، ورآهم يتقدمون نحوه وهم يزمجرون ، لم يكن ليتبين كلماتهم أو يفهم مغزاها بل لم يدر بذهنه أنها تعنيه أو أن أصحابها يقصدونه بالشر. لاحوا لعينيه المتعبتين في البعيد ، طوال القامة لامعي السواد ومتأنقين، فكر الرجل ، لابد أنهم أنصار الزعيم ، يا لشجاعتهم . اقتربوا أكثر ، ابتسم لهم من عينيه ثم رفع يده السمراء المتعبة شارة النصر ، اقتربوا أكثر ، فكـَّر أن يحدثهم عن الورد وروحه المعذبة ولكن لم يجد وقتاً لذلك ، عاجله أكثرهم أناقة بضربةٍ قاسية ٍ على أم رأسه لتتسع عيناه دهشةً وألما. صرخ بصوت ٍ متحشرج : " لماذا ؟!". وعادت "الفأس" تهوي على رأسه من جديد ليسقط غارقاً في دمائه.
قاوم الألم بضراوة كي يُبقي على صفاء ذهنه. أغمض عينيه في ألم وهو يجهد عقله في محاولة ٍ مريرة ٍ كي يفهم ، ويبدو أنه قد فهم أخيرا ً فلقد ألقى نظرة ً حزينة ً وعميقة على يده السمراء الداكنة المتعبة وكأنه يتهمها بجريمة ما، عاد بنظراته إلى وجه قاتله يتمعنه في فضول، لم يجد أية غرابة في تلك الملامح النيلية السوداء النبيلة. جـزَّ على أسنانه بقوة كي تخرج كلماته واضحة ومفهومة: "أنا هو أنت ... كلنا ضحايا يا أخي ... لقد سامحتك ... فقط ... تذكـَّر ... أنـَّهم ... يسحقون الورد".
الخرطوم في أحد نهارات 2005م. نشرت في صحيفة صوت الأمة - السودانية - في أحد أيام يناير 2008م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق