التسميات

الأحد، 17 يونيو 2012

الجـريــمة


ككل الفتيات عرف قلبها الحب يوما ً ولكن لم يهنأ به طويلا ً ، بددته أخرى استطاعت أن تسلبها من تحب. ألقت ْ أسلحتها مستسلمة ً في يأس ٍ معترفة ً بالهزيمة بمجرد ظهور الأخرى إذ كانت تعلم أن المقارنة لن تكون في صالحها أبدا ً، فتركته لها وانطوت على نفسها تلعق جراحها. كانت تعلم أن أجمل ما فيها هو صدرها العامر وأردافها الملفوفة وشعرها المسترسل الطويل لامع السواد ولكن ثوبها الفضفاض وخمارها السميك سلباها أمضى أسلحتها في المعركة، ليبقى ذلك الوجه الذي يغطيه النمش والأنف الضخم والثياب الواسعة الفضفاضة السميكة، إضافة ً إلى الخمار الذي يخفي نصف وجهها، كل ذلك يبديها كساحرة ِ الغابة الشريرة، كما يصورها رسامو قصص الأطفال. وظل ذلك الجرح مفتوحا ً يشعرها دوما ً بالخوف من خوض التجربة مرة ً أخرى رغم مرور السنوات وتقدم العمر الذي كان يزيد الأمر سوءا ً على سوء. 
ورغم إيمانها المتيقن الذي يضرب بجذوره عميقا ً في قلبها منذ الصغر إلا أنها كانت تضعف في بعض الليالي فتعاتب الله على ما أنعم عليها من سدر ٍ قليل ثم تعود تستغفره وهي تردد في إيمان ٍ يمازجه الكثير من الشك أن هنالك حكمة خفية في ذلك القبح عميتْ عن ادراكها ونعمة غير ظاهرة يدَّخرها الله لها ليوم ٍ لا شك آت. تلك الحكمة الخفية لاحت لعينيها وتلمستها بيديها حين التقديم للوظيفة. الرجل الذي توسـَّط لها للحصول على تلك الوظيفة نسي في غمرة حماسه إحساسها الأنثوي، فأفضى إليها بفرحة ٍ ساذجة ٍ أنه لا يشك مطلقا ً في توظيفها لأن "أمير القسم الداخلي بالجامعة" لا يوظف الغانيات. فهمت أنه يقصد الجميلات اللائي يستغنين بجمالهن كما ورد في أحد المعاجم القديمة فأحسَّت بغير قليل ٍ من الألم. 

وكان ما قاله الرجل. فمن بين ستين فتاة  تقدمن لشغل وظيفة الحارسة في "بيت الطالبات" تم اختيارها هي وواحدة أخرى فعرفتْ أنها أقبح فتاة بينهن أو ثاني أقبح فتاة على أحسن تقدير، مما أفسد عليها فرحة الظفر بالوظيفة. ولكن سرعان ما انغمست في واجبات وظيفتها لتخف آلام الجرح شيئا ً فشيئا. ولم تكن تلك الواجبات بالأمر الهين إذا كان عليها مراقبة مئات الطالبات المشاكسات في غدوهن ورواحهن وتقييم سلوكهن وتوجيههن بما يرضي الله وملاحظة ما يرتدين من ثياب ومدى توافقها مع الزي الشرعي المعتمد في الدولة. وكان الاخلاص ديدنها منذ نعومة أظافرها فأخذت الأمر على محمل الجد فمن أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل. كما أن الخطبة الرائعة التي ألقاها على مسامعها "أمير القسم الداخلي بالجامعة" حين سلمها وزميلتها مهام الوظيفة تركت في قلبها أثرا ً لا ينسى. إذ رفض "الأمير" تسميتهن بالحارسات بل قال أنهما مرابطتان في سبيل الله يسددن ثغرة مهمة من ثغور المسلمين. كل هذا جعلها لا تتهاون أبداً مع رعيتها من الطالبات بالقسم الداخلي فاشتهرت بالقسوة والصرامة بينهن، ساعدها على ذلك صوتها الخشن الذي يشبه صوت الرجال كثيرا ً مما جلب عليها كراهية رعيتها من الطالبات وسخريتهن فأخذن يروين عنها الطرف الساخرة ويهزأن من هيئتها ولباسها في جلسات سمرهن. وكانت تعلم كل ذلك ولكن إيمانها الراسخ بعظم مهمتها ونبلها جعلها لا تكترث لكراهيتهن ولا تهتم بما يروين عنها  بل تجد لهن الأعذار وتزيد يوما ً بعد يوم من اللوائح المنظمة لـ"بيت الطالبات" حتى تستطيع حماية أولئك الغريرات من شرور أنفسهن.
يوما ً ما ، لاحظت (المرابطة) أن إحدى الطالبات اعتادت الخروج يوميا ً بعد صلاة العشاء ولا تعود إلى "بيت الطالبات" إلا قبل موعد إغلاق الأبواب بقليل. أقلقها الأمر كثيرا ً ففكرت في تحذير الفتاة. أخذت تتعمد مضايقتها حين الدخول والخروج وتبديء ملاحظاتها على ما ترتديه من ثياب وعدم ملاءمتها للزي الشرعي ولكن الفتاة العنيدة لم ترعو ِ، فهكذا هن دائماً حين يبدأن السقوط يتدحرجن حتى القاع ويصبح الحياء كلمة لا معنى لها في قاموسهن فظلت الفتاة على عادتها المشينة في الخروج والعودة في الوقت المشبوه مما جعل (المرابطة) تعترف بأن الأمر أكبر من قدرتها ويتجاوز اختصاصها فاتصلت برئيسها "أمير القسم الداخلي بالجامعة" ووضعت أمامه الصورة كاملة كما رأتها. ورغم ثقته في من تحدثه ، إلا أن الرجل لم يأخذ بذاك النبأ حتى يتبيـَّن، فأوصى بمراقبة الفتاة المقصودة مراقبة لصيقة حتى تضبط بالجرم المشهود، حينها تكون العقوبة ُ عادلة ً مهما بلغت من القسوة.
وفي اليوم الموعود كانت (المرابطة) واثنان من رجال الحرس الجامعي على أهبة الاستعداد لتنفيذ المهمة. عبأ كل منهم هاتفه الجوال بالرصيد واشترى كل من الرجلين علبة سجائر "برنجي"1 واحتفظوا بباقي مبلغ "النثرية"2. وحينما رن تلفون (المرابطة) عرف الجميع أن المهمة قد بدأت لتتجمد نظراتهم على الباب الرئيسي لـ"بيت الطالبات". برهة ً وخرجت الفتاة منسَّلة بخطوات مضطربة وهي تتلفت حولها. إنها ذات الفتاة بفستانها الأخضر الطويل ووشاحها الأحمر الذي تزينه الورود البيضاء وعينيها الجميلتين اللتين توحيان بالإثم. أدار كل من الرجلين محرك "الموتوسيكل" لتسخين الماكينة ثم لبث ثلاثتهم ينتظرون وقد حبسوا أنفاسهم. وعلى غير ما توقعت (المرابطة) لم تقف الفتاة بجانب الاسفلت لتنتظر السيارة المشبوهة وإنما أسرعت على قدميها بخطوات ٍ نشطة متجهة نحو الكوبري الذي يفصل بين المدينتين. - هذه فتاة ذكية جداً يبدو أنها متمرسة على مثل هذا العمل - هكذا فكرت (المرابطة). - وفي لحظة ما ، ستتوقف إحدى السيارات الفخمة إلى جانبها وتنسل داخلها.-  لذا اعطت (المرابطة) أوامرها للرجلين لمتابعتها بعد قليل بـ"الموتسيكلات" بينما سارت هي خلف الفتاة على قدميها بخطوات ٍ متلصصة.
تنفست (المرابطة) بعمق وهي تسير خلف الفتاة على الكوبري المرتفع نسبيا ً عن المدينة كان النسيم عذبا ً أنيقا ً يلف المدينة الناعسة بغلالة ٍ من الهدوء الشفيف بينما أضفت البنايات الحديثة والأبراج الضخمة بأنوارها المتلألئة على المنظر بهاء ً ورونقا ً، وقد بدت الملاهي من تحت ذلك العلو بأنوارها الحمراء والصفراء والخضراء كجنة ٍ أخرى وسط ذلك الجمال اللاهث وضحكات روادها وصيحاتهم تصل إلى أذني (المرابطة) غامضةً مبهمة، والفتاة تسير أمامها مسترخية الخطوات كما النائم ثم أحست بصوتها يعلو قليلا ً. أسرعت (المرابطة) في خطواتها لتقترب أكثر كانت الفتاة تغني بصوت ٍ حنون. لم تستطع الأخرى أن تتبين كلمات الأغنية التي أخذت الفتاة ترددها بعذوبة ٍ أخـَّاذة ولكن الصوت الحنون الذي تزينه "لـَجـَنـَةٌ"3 محببة جعل دواخل (المرابطة) تهدأ ويتسرب شيء ٌ من البهجة إلى نفسها ثم يطويها فيض ٌ من الذكريات وصورة الحبيب الغادر تلوح أمامها فتغرورق عيناها وتسيل الدموع الحارة على وجنتيها مدرارا وهي تبكي ذلك الزمن الجميل. ثم انتبهت إلى نفسها فأسرعت تمسح الدموع من على وجنتيها وهي تتلفت حولها خوفا ً من أن يكون رآها أي من الرجلين الذين يتبعانهما. أكملت الفتاة رحلتها و(المرابطة) في إثرها ليستقبلهما مطعم "مجيك لاند" بواجهته الفخمة وأنواره المشعة بينما سيارات الرواد الفارهة تنتظم في تشكيل ٍ بديع في المكان المخصص إلى جانب المدخل. 
وبدلا ًمن أن تتجه الطريدة إلى مدخل المطعم حيث الأنوار البهيجة والفرح المبهر كما توقعت الصيادة إذا بها تتجه بخطوات ٍ مضطربة إلى الجانب الخلفي المظلم من المطعم. توترت عضلات (المرابطة) فأخرجت هاتفها الجوال تدل زميليها على مكان الجريمة والذين تسللا إلى جانبها في ثوان. اتجه ثلاثتهم بخطوات ٍ متلصصة إلى حيث اختفت الفتاة ليتوقفوا مشدوهين. رآوها وهي تدخل رأسها في برميل القمامة بينما يداها تعبثان في محتوياته وهي تصطفي مما يحويه ما يروق لها لتضعه داخل أحد الأكياس وهي ترفع رأسها بين لحظة ٍٍ وأخرى تراقب ما حولها كقطة ٍ مذعورة، حتى امتلأ الكيس لتحمله الفتاة و تقفل راجعة ً تلتقط خطواتها المسترخية على الكوبري الذي يفصل بين المدينتين وهي تغني بصوت ٍ حنون تزينه "لَجَنَةٌ"3 محببة بينما سارت (المرابطة) في إثرها مهدودة الخطوات ودموعها تنهمر مدراراً على وجنتيها دون أن تهتم بمسحهما كما تعودت قديما ً أو تهتم للرجلين الذين يسيران خلفها متعجبين.

                                الخرطوم في إحدى ليالي 2011م. 
1/ برنجي : ماركة سجائر سودانية وهو من أجود أنواع السجائر وأكثرها تأثيراً.
2/ النثرية : هو المبلغ الذي يخصص في المصالح الحكومية وغيرها لأجل تصريف الأعمال غير الرسمية والأعمال التي تتم في الظل ومكافأة من يؤدونها. وهو غير منضبط غالباً وغير خاضع للمراجعة القانونية. 
3 / لَجَنَة. كلمة من العربية السودانية تقابل اللثغ في العربية الفصحى. فالشخص الألجن هو الألثغ الذي ينطق بعض الحروف كالأطفال كأن يقلب الراء لاماً. والكاف تاءً وهي محببة عند الفتيات. 

هناك تعليقان (2):

  1. وينك يا استاذ محمد..اختفيت

    ردحذف
  2. مساء الجمال استاذي القصة رائعة تحوي حكمة اروع وهي عدم التسرع في اصدار الاحكام علي الاخرين قبل التاكد اخالف الراوي في وصفه للمرابطة التي فقدت حبها بسبب الثوب الفضفاض والخمار السميك اعتقد دي محمدة في حقها وايضا وصفها بالساحرة الشريرة ظلم قد تكون خسرت المعركة بسبب الحياء مثلا والاخري اكثر جرءة منها وايضا كون الامير لا يوظف الغانيات هذا ظلم للجميلات ليس كل جميلة كما يظن ..القصة ممتعة وهادفه لك التحية استاذي سلمت وسلمت يمناك

    ردحذف