خالـد الحـاج
3
.....................................
......................
...........................................
...........................................
عامٌ مضى وهُم في خيالي وقد شط النوى ، عامٌ بين الدرس والتحصيل وقسوة الظروف في مدينة لا ترحم. كانت هي "الخرطوم" التي لم تألفني فظللتُ حبيس قريتي وذكرياتي فيها حتى هلتْ العطلة الصيفية فحزمتُ يومها أشواقي لأطير دون جناح إلى دنياي التي أعشق ، جئتها تسبقني أشواقي. النيل ، الحقول وأهلي ، لأول مرة أحس بعمق هذه الكلمات الثلاث. أخيراً تخلصت من "الخرطوم" وضجتها اللاهثة وعدتُ إلى أرضي ، تلك الدافئة. سأفتح أبواب البيت الكبير وأوقد "تُقَّابة" تطرد البعوض ، الجنادب والهوام وأعيد ذكرى أبي. أنا أحب هذا البيت القديم ، إن كل ما فيه يربطني بذكريات حميمة ومواقف لا تنسى. الغرف القصيرة الضيقة المسقوفة بجريد النخل وأغصان البان ، "العناقريب" الضخمة التي يحتاج تحريكها لرافعة حديثة ، الفناء المتسع وأماكن ربط الحمير والمعيز ، السور القصير وقد تراكمتْ "السفَّاية" عليه من الخارج وأنا أطل منه مستجيبا ً لنداء أمي بينما أبي يحرك حبات مسبحته تحت ظل "الراكوبة".
جئت من "الخرطوم" وبي شوق ٌ غامرٌ للبيت القديم. لأول مرة أحسه بهذا العمق. ارتديت "العراقي" القصير ومن تحته "الكسلاوي" الواسع ذا التكة المحلاة بالحرير بعد أن وضعتُ على رأسي تلك الطاقية القروية المميزة. ولكن لقد بدا لي النيل موحشا ً قفرا ً وخبأتْ الحقول عني مفاتنها وانكرني أهلي. نعم لقد هشَّ الجميع في وجهي وأخذ الرجال يصافحوني بقوة ولكن لماذا بدا لي كل ذلك بارداً ومفتعلا. لماذا احسستُ أنني غريبٌ وسط أهلي ؟!
تلاشت تلك القهقهات العفوية التي يطلقها (ود أب دقن) وهو يهب لمصافحتي ويطلق علي ذلك اللقب ، (ود قلبوس) ، لم ينادني (ود أب دقن) هذه المرة بلقبي الذي أكره بل نطق اسمي باحترام وكأنني أحد ضباط الأمن وتلاشت مداعبات الحاج (البلَّة) معي عن "الأصل والفصل" وغابت تلك الحميمية التي كنت أحسها بينهم وتغمرني بالدفء وأنا اتنقل بين البيوت الطينية القصيرة.
كنت ألج البيوت صاخباً وأجلس مع الجميع كيفما اتفق، اشاركهم طعامهم وأسرارهم ولكن لماذا يبدو كل شيء مختلفاً اليوم. بدت الصنعة تحل محل الفرح الحقيقي والتكلف محل الانطلاق.
لقد أنكرتني (سكينة بنت العوض) أيضاً. جئتها حزيناً يائساً لأشكو أهل قريتنا وأسألها المشورة في ما يفعلونه بي. إنها ابنة شيخ الحلة وحبيبتي. ولجت دارهم كعادتي دون أن استأذن. كانت (سكينة) تكنس الحوش وهي تربط رأسها بسروال ٍ متسخ ، انحنت تكنس الأرض فبرزت أردافها المستديرة الرائعة مما أشعرني بالنشوة. ردتْ على تحيتي في برود لم تجهد نفسها في تزيينه وواصلتْ عملها وكأنها لا تحس بوجودي.آلمني الاستقبال الفاتر لكنني ابتلعته وتوغلت داخل الدار. أخذتُ أرشف كوب الشاي الذي صنعته لي أمها مجبراً وهو ينزل في جوفي كالعلقم وأنتظر. انتظرتُ طويلاً ولكنها لم تاتِ. خرجتُ من الدار وأنا ألعن ساكنيها. وبعد عدة أيام اكتشفت أنها تعشق (علي ود التوم) ، شاب في مثل عمري ، رصيده الأكاديمي صفر لكنه استطاع أن يهزمني ويأخذ مني (سكينة بنت العوض) حبيبتي. قالت لي صديقاتها :
- إن (سكينة) قد عرفتْ أنك اصبحت شيوعياً وهي لن ترضى أن تعيش حياتها مع كافر.
- ولكنني لم أنل هذا الشرف.
- إنك تكتب الشعر وتشتم الحكومة.
هكذا كان رد (حليمة بنت صالح) صديقة (سكينة بنت العوض).
من رواية (باب الحياة) الصفحات (30 - 31 - 36) أبريل 2000 مارس 2004م
الناشر مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي - السودان 2007م
الله عليك ي مبدع
ردحذفاجمل ماقرأت من الروايات
ردحذفوالله يا خال ... وكأني أقراء في كتابات الطيب صالح ...لغة جميلة ... وسرد راااائع ... نسأل الله لك التوفيق .... ونراك في مصاف العالمية .... تحياتي
ردحذفلك التحية الخال العزيز مامون .... لغة جميلة ... وسرد راااائع جداً ... وكأني أقراء في كتابات الطيب صالح ... نتمنى أن نراك في مصاف العالمية ... تحياتنا
ردحذفتحياتي الغالي (أنس) - لك الشكر على جميل الكلمات - تحياتي للأسرة - كن بخير ..!
ردحذف