التسميات

الأحد، 24 يونيو 2012

الصفـعـــة

   حينـما دوت ْ الصفعـة ُ القاسية ُ تشـق ُّ الفضـاء، خيـَّم على الحافلة صمـت ٌ عميق وحبـس الجميـع ُ أنفاسـهم في انتظار ما تسفر عنه اللحظات القادمة من أحداث. كلهم كانوا في انتظـار رد فعل الرجل الأشيب، بادي الوقار الذي كان وجهه النحيـل موضع تلك الصفعـة، حتى "الكمساري" نسي َّ معركتـه المحتـدمة مع بعض الطـلاب حـول تمسـُّكهم بنصف قيمـة التذكـرة فـي العطلـة الصيفيـة ، وأخـذ يراقـب المنظـر وهو يمسـح على أرنبة أنفـه بين لحظة ٍ وأخـرى في توتـر. بينـما أطفـأ السـائق "الراديو" الـذي كان يرتــِّـل بعض آي الذكـر الحكيـم. حبـس الجميع أنفاسهم بعد أن دارت الأعيـن في محاجرها هنيـهة ً ثم استقـرَّت على تلك السيـدة لاهثـة الأنفاس وخصمـها الوقـور الذي يجلس إلى جانبـها خلف مقعـد السائـق في هدوء وكأن الأمر لا يعنيه. كنـت ُ أعلـم ما حدث دون أن يقـول لي أحـد ٌ، الجميع كانـوا يعلمـون ، فليـس لتـلك الصفعـة سـوى سبـب وحيــد. إذ مـا الذي يدعـو سيــدة ً رقيـقـة ً كهـذه السيـدة لتصفـع رجلا ً سـوى أنــَّه  .......... !. 
ابتسمت ُ وأنـا أرحل بخواطري إلى عشريـن عام مضـت ْ. كنـت ُ حينها في السادسة عشـر وحـَب ُ الشبـاب ينتـشر على وجهـي كنجيـمات ٍ خابيـة. جلست ْ بجانبـي على المقعـد الصغيـر فتـاة ٌ في غايـة الجمال ، هكـذا رأيتـُها تلك اللحظة ، فتملكني التوتـر ثم ما لبـث أن هـدأت ُ وأنا أفكـِّر في ما يمكـن عمله. أخرجـت ُ رأسي من النـافذة المواربة استجمع شجـاعتي وأستنشـق بعض نسيـم الأصيل العليـل بينـما الحافلـة تتهـادى في شارع النيـل في هـدوء ٍ ميـَّاس أو هكذا خـُيـل لي. هنيهة ً ثم بـدأت ُ أجـَـدِّف بجنـاحي ذات اليميـن وذات الشمال محـاذرا ً أن يراني أحـد ٌ من الركاب وقـد بلـغ بي الانفعـال والوجـد مبلغـا ً عظيما ً. دهـر ٌ مضى أخيـراً وصلـت ْ سفينتـي إلى شطـِّها ووجدت ْ روحي مبتغاها ليستقـر كـُوعـي في المكان المقصود. كان لدنـا ً دافئـاً ورابيـاً. وسرى التيـار المزلزل مـن مصـدره ذاك، ليشحـن عضـدي بالمشـاعـر المذهـولة الفيـَّاضة ومـن ثــَم َّ ينقلـها إلى سـائر جسـدي لينـخـر الوجـد ُ عظامي نخـرا ً. وما لبـث أن صـُعـقت ُ وتزلزل كياني. كـدت ُ أن أصـرخ من هـول ما اجتاحني من مشاعـر. هنيهة ً وانحسر الموج، فحانـت ْ منـي التفاتـة ٌ يومـها نحـو مصدر الفرح الأكبـر ذاك ، لأجـِد  كـُوعـيَ التعـس وقـد استقـر َّ على حقيبـة الفتـاة ، بل تحديـداً على ذاك "الدبدوب" الصغيـر الـذي تـُزيـِّن بـه الفتـاة حقيبتها. دهمني حينها إحساس ٌ طـاغ ٍ بالخزي والعـار لم يـدم ْ إلا ثـوان ٍ ثـم انفجرت ُ بعـدها في الضحك. ضحكت ُ  يومها حتى سالت ْ دموعي على وجهي بينـما كان الركاب في حيـرة ٍ مما يحـدث ُ لـي. لكـن ما الـذي يدعـو رجـلا ً وقـورا ً كهذا الرجـل ليجـرَّب اليوم ما فعلتـه أنـا منـذ عشرين عاما ً.؟! ألقيت ُ عليـه نظرة ً متسائلة وكأنـي أطالـب دواخله بالإجابـة. في العقد الخامس من العمـر ، وسيـم الطلعـة ، لامـع العينيـن ، وقـد تنـاثر الشيـب على لحيتـه الكثـة ليمنحـه مظهـرا ً وقـورا ً، بينـما جلابيـتـه ناصعـة البيـاض تشعـرك بمـدى نظافـة أعماق صاحبها ونقـائها، والطاقيـة على رأسـه ملتصقة به في إحكـام وكأنـَّها جـزء ٌ منـه. فهمت ُ مـن همهمة بقية الركـَّاب وتعليقاتهم الساخـرة ، أن صاحبنـا قد فقـد رباطـة جأشـه أمـام سـاقي السيـدة الممتلئتيـن فانحنى خلـسة ً يمسـح عليهما في حنـان شفيـف لم تقـِّدره الأخيرة حـق قدره فكآفأتـه عليـه بتلك الصفعـة المدوِّيـة. كانت السيـدة لا زالت ترغي وتزبـد وهي تشرح لبعض الرجال تفاصيـل الواقعة وتجيب على أسئلتهم واستفساراتهم التي لم يخل ُ بعضها من خبث ، في حماس ، بينما الفتيـات قد انكمشن في مقاعدهـن يتظاهرن بالصمم وهـن يتابعن الحديث وأنفـاسهن تحتـدم  والنساء يتضاحكن بصوت ٍ مكتوم بينما لبـث َ صاحبـُنا ساكنـا ً صامتـا ً شاخص العينيـن نحـو سقـف العـربة وكأنـَّه يـرى من خلاله. ثم بغتة ً انفجـر بالبكاء. أخذ الرجل يبكـي ويبكي في مثـابـرة ٍ غيـر مبررة، وارتـفع نشيجـُه حتى عنـان السمـاء. وذهـل الجميع ، إذ أن ما فعلـه الرجـل لم يكـن ليـدور في ذهـن أكثـرنا خيالا ً وتشاؤما ً. كان غريبـا ً مدهشـا ً وغيـر مستساغ. كيف يبكي الرجل ؟! إنه رجـل ٌ من بلادي والرجال في بلادي لا يبكـون أبـدا ً، لذا فإن ما فعلـه صاحبنـا أفقـده تعاطـف القـلة الذيـن تعاطفـوا معه من الرُّكـَاب. وبدأ البعض ُ يسخرُ منـه بكلمات ٍ جارحة ويطلق عليه النكات الخبيـثة ولكـن ابن الخمسيـن لـم يأبـه بهم ، بل لم يحـاول أن يدافع عن نفسه ، لم يحـاول أن ينفي أو يفسر أو يشرح. ظلت ْ الدمـوع الحـَرَّى تنهمـر ُ من مآقيـه في تتابـع ٍ سلـس وكأنـَّه يغتـرف من نبـع ٍ من الدموع لا ينضـب بينما صوتـُه ُيعلو ويعـلو في جلجلة ٍ مزلزلة. وفجـأة ً انتفضـت ْ السيـدة من مقعـدها إلى جانب الرجـل لتقفـز على قدميها كالملـدوغة وهي تنظر تحت المقعد في دهشـة ٍ فـزعة ، ليخرج ذاك الجرو الصغير الأبيض من تحت المقعد وهو يلحظها بعينيـه البـَّراقتيـن النظيفتـين ويهـزُّ ذيله الصغير في رشـاقة ، ثم ينـدفـع ليلعـق السـاقيـن الريانتـين في حمـاس ومحبـة ويتمسـَّح بهمـا وهو يطوِّح بذيلـه في الهـواء في حركـة ٍ دائريـة ٍ منتـظمة. وعـم َّ الصمت ُ الثقيـل ُ أرجـاء الحافلـة. داس السائق على الفرامل بلا وعي ٍ منـه لتتوقـف الحافـلة إلى جانب الاسفلت بصوت ٍ مكتوم. بغتـة ً وانفجـرت ْ إحـدى الفتيـات بالبكاء ثـم تبعتــُها أنـا ثـم السائـق و"الكمساري" ثم الجميـع. تركنـا الحافلـة المشـؤمة ونزلنـا إلى الأرض ننشـج في حـرارة ونحـن نحتضـن بعضنـا بعضا  وقـد علـت ْ أصواتـُنـا حتى عنـان السمـاء ، ومـن خلفنـا النيـل الخالـد وأمواجـُه ُ الهادئـة تتكسـَّر عنـد الشاطئ في رتابـة فتلمع الحبيبات ُ علـى وهـج الأشعـة الغاربـة وكأنـها تبتـسـم.

                                             أم درمان - في أحد صباحات 2010م

هناك 3 تعليقات:

  1. كم انت رائع يا محمد بدوي

    ردحذف
  2. كم انت رائع يا استاذ - شوقتنا لرواياتك ! هل من جديد ؟ (تلميذك حسن حماد عبدالرحيم ).

    ردحذف
  3. تحياتي غير معرف وحسن - لكما الشكر على المرور والتعليق - ويظل السؤال الكبير حائرا ً عن جدوى الحقيقةإن كان من الممكن الحصول على ذات النتائج بالإيمان (الإعتقاد) ..!

    ردحذف