التسميات

الثلاثاء، 5 يونيو 2012

باب الحيـاة 3

عمـار بحـر الدين

 3

    ابتعتُ من (بركات) قبل يومين بعض أقراص السعادة. أخذتُ اتفحصها في فضول ، بيضاء وعادية المظهر ككل الأقراص الأخرى ، ليس فيها ما يشير إلى السعادة ولكنني أثق في الأمريكان ، إنهم قادرون على كل شيء. ورغم ذلك لم آنس في نفسي الشجاعة الكافية لاستعمالها ، إنني رجلٌ لم يختبر طعم السعادة وأخاف منها ، أخاف من إحساس لم اختبره وشعور لم آلفه ولم يألفني. ترددت طويلاً ، أخيراً وضعت الأقراص داخل حقيبتي دون أن أمسها، من يدري ، ربما تواتيني الشجاعة يوماً فأسعد.
-  ما هي السعادة ؟!
نطقتُ بالعبارة وأنا أتفحص وجوههم بإمعان. لم تفتني تلك الارتعاشة الطفيفة في عيني (كومار) ولا الحركة القلقة التي ندت عن (حميَّدة) ولا عيني (مكين) وقد ضاقتا أكثر واندفع (سبايجو) يرد مباشرة ً :
-  امرأة ٌ جميلة وطعامٌ وفير.
-  أوافق.
أمَّن (كومار) على قول الصبي في اقتضاب.
-  الرضا بالمقسوم.
أجاب (حميَّدة) وهو يشيح بنظراته بعيداً وكأنه يهرب من شيء ما.
-  المرأة الجميلة والطعام الوفير يحتاجان إلى مال. إذا ً السعادة هي المال.
قالها (مكين) معلقاً على رد الاثنين متجاهلاً الثالث.
-  هل تصدقون ، إن أجرة غسل الصحن الواحد في (أمريكا) ثلاثة دولارات ؟!
نطق (سبايجو) بالعبارة المعتادة وهو يعتدل جالساً على الحشية الرقيقة وكأنه يستعد لمحاضرة طويلة. كنا يومها نستلقي كعادتنا على أرض الصالة الصلدة بالكافتريا لا يفصلنا عن البلاط سوى تلك الحشيات الرقيقة التي تتوسد ظهورنا وقد نال منا التعب والارهاق ولكن لابد من الثرثرة اليومية المعتادة والذي يحفظ كل منا دوره فيها عن ظهر قلب.
-  وما أدراك أنت بـ(أمريكا) ؟!
تساءل (حميَّدة) بنبرته المتشككة مما جعلني أزداد إيمانا ً بأن هذا الشاب ممثل من الدرجة الأولى ، كيف يستطيع أن يحافظ على نبرته المتشككة لسؤال سمع إجابته عشرات المرات. ولكن يبدو أننا جميعاً لا نقل عنه موهبة فلقد انبرى الصبي يهتف في وجهه محتدا ً :
-  ابن عمي ... لقد عاش هناك خمسة عشر عاما ً واستخرج جواز سفر أمريكي.
عرفت أن دوري قد حان لأتدخل في الحوار بقولي :
-  هذا يعني أن أجرة غسل عشر صحون أكبر من مرتب مذيع تلفزيوني لامع.
-  مذيع تلفزيوني ؟!!
يهتف (كومار) مستنكراً ثم يصمت لتتجول نظراته محاولا ً تبين وجوهنا في العتمة ليردف بعدها قائلا ً :
-  لقد ولى زمن العلم والشهادات ،إننا في عصر التجار والنشاط الطفيلي.
وتحنقني عبارته كالمعتاد ولا أعلق ليأتي دور (مكين) قائلاً وهو يرمق الصبي في خبث:
-  سمعت أن الأمريكان يفضِّلون النهدين العظيمين.
-  صحيح. هكذا قال ابن عمي.
هتف الصبي وهو يتحسس حب الشباب على جهه في الظلام لننفجر ضاحكين ويستغفر (حميَّدة) الله وهو يلقي موعظته مقتبساً الآية الكريمة :
-  لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد.
-  ماذا تقصد ؟!
يتساءل الصبي بنبرة عدائية. ليواصل (حميَّدة) قائلا ً:
-  لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله ...
-  لم أفهم شيئاً.
-  الأمريكان لن يدخلوا الجنة.
يؤكد (حميدة) في ثقة مزعجة. ليهتف (سبايجو) وهو يلوح بيده في الظلام محنقا ً :
-  وماذا يفعلون بالجنة ؟! (أمريكا) هي الجنة .!
-  استغفر الله العظيم ..!
-  هل ستدخل أنت الجنة يا (حميَّدة) ؟!
يلقي (مكين) بسؤاله المعتاد ليعتدل (سبايجو) في جلسته مطاردا ً (حميَّدة) المسكين بالأسئلة :
-  ماذا فعلتَ بـ(التومة) بائعة "التسالي" ؟!
-  ألم تغويها داخل المطبخ ؟!
-  ألم تسرق البيض من أجلها ؟!
-  ألم تكذب على (خالد الحاج) بخصوص مستحقاتك ؟!
-  كيف ستدخل الجنة بعد كل هذا ؟!!
ويستغفر (حميَّدة) الله بصوت ٍ أشبه بالبكاء ليهمس (كومار) بالعبارة الأخيرة :
-  تصبحون على خير.
إن أول من يغرق في النوم منهم (حميَّدة). ألقيت عليه نظرة فاحصة ، كانت أنفاسه تعلو وتهبط في رتابة وهو يستلقي على جنبه الأيمن كما أمرتْ السُّنة النبوية. إنه سعيد بإيمانه رغم أنف (التومة) والأمريكان ، إنه شخص لطيف ومهذب ويملك إجابة مقدسة لكآفة الأسئلة ولولا موقفه من الأمريكان لكان صديقاً للجميع ولكن موقفه من (أمريكا) جلب عليه كراهيتهم ، إنه يسميها دار الحرب. أنا لا أحب (أمريكا) ولا أكره (حميَّدة) ولكن تعليق (عبد الصادق) شقيقي ذلك اليوم البعيد أحنقني كثيراً.
-  لو نطق (ريغان) بالشهادتين لدخل الجنة.
هكذا علقت أمي وعيناها تعانقان جوال الدقيق الضخم الذي توسط الحجرة.
-  ومن هو (ريغان) ؟
سألتها وأنا أقفز على الجوال وأجلس متربعا ً عليه لترد أمي بامتنان :
-  (ريغان) هو من منحنا هذا الدقيق.
-  ولماذا لا يدخلونه الجنة ؟!
-  لأنه كافر ..!
ردت أمي يومها بصوتٍ خافت مشبع بالأسى وهي تشيح بعينيها بعيدا ً وكأنها تعتذر عن كفر الرئيس الأمريكي أو كأنها غير واثقة منه. ليتدخل (عبد الصادق) في الحوار بقوله:
-  إن الدقيق ملك لله ولا فضل لـ(ريغان) علينا ، لقد سخـَّره الله لنا كالحمير والبغال وغيرها من مخلوقات الله المسخـَّرة لخدمتنا.
غمرني حزنٌ جارف لمقالة (عبد الصادق) التافهة تلك، حزن تجاوز سنوات عمري العشر ولم أجد ما أقوله فلذتُ بالصمت. كنت أعرف أن (ريغان) هذا قد منح جميع أهل قريتنا والقرى المجاورة هذا الدقيق ، أذكرها تلك الأيام ، لم يكن هنالك شيء ليؤكل ، حتى مخزن شيخ الحلة أضحى خاوياً. لم أجد حينها ما أرد به على (عبد الصادق) ورأيت أمي تنكس رأسها وكأنها تتحاشى التعليق.
من رواية (باب الحياة) الصفحات (184 -187) أبريل 2000 مارس 2004م
الناشر مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي - السودان. 2007م 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق