التسميات

الأربعاء، 29 أغسطس 2012

وعنـده أم الكتــاب

    عنـدما أخـرج ذلك العملاق حربتـه الرهيبـة وتهيـأ لطعني بها بيـن السحـر والنحـر ، كان الخوف قد بلغ بي مبلـغا ً عظيما ً ولكنني لم أفكـر في التوسـل إلى الرجل أو حتى مراجعـته ليعـدل عما انتوى ، فلقد كنت أعلم أنـه عـبـد ٌ مأمـور وأن مناقشـته أو الدخـول فـي حـوار ٍ معـه لـن يجـدي ولـن يغيـر في مصيري شيئا ً. جاءته تعلـيمات علـيا بأن يقبض روحي في هذا اليـوم وهـذه الساعة بهذه الحربة المرعبة وما علـيه سـوى أن يطيـع. إلى جانب ذلك فهـو لا يعرفـني وغيـر مهيأ نفسـيا ً لسماع التوسلات أو التقـرير بشأنها مهما كانت صادقة ً وإنسانيـة. كما أن مقاومته هي آخـر ما يمكن أن يفكر فيه رجـل ٌ مثلي ، رجـل ٌ لم تمـس يـده طوال حياته السابقة أي من أنواع الأسلحة  البيضاء منها أو غير ذلك، ولم يتجاوز وزنه طيلة الثلاثين عاما التي عاشها على الأرض مائة وثلاثين رطلا ً. سيصرعني ذاك العملاق الضخم في ثوان ٍ كما أن التمـرد عليه ومقاومته قد تشعـل نيـران الغضب في نفـسه فتجعله يمثــِّـل بي مما يزيد في ألم احتضاري،  لذا وجب علي َّ أن اغتـنم تلك الثواني القـليلـة التي تبقـت لي من العمـر في ترديـد الشهادتيـن والإستغـفار والدعاء ببعض الأدعية المأثورة عسى الله أن يرحم روحي ، هكذا فكرت تلك اللحظة.
   منظر الحربة الضخمة ذات الشراشـف الحـادة المسننـة جعل الحـزن يتسرب إلى قلـبي عميقا ً عميقا ، فلقد كنت أعلـم من قرآءاتي السابقة في كتب الدين أن هذا يعني أنني من الأشقياء وسـينكـل بي بعـد قليـل وإلا لكانت تلك الحربة دون شراشف ونهايات حادة ومسننة. كانت ستكون حربة ً رقيقة الأطراف هينة المخبر، رائعة المنظر تنزع روحي بكل رشاقـة ويسـر فأحسها كمـس النسيم ككل الطيبين. ذاك الكشف دعاني لاستعرض حياتي الماضية مجتـرا ً إياها بكل ما يعـيه عقـلي تلك اللحظة من تفاصيل محاولا ً الوصول إلى أسباب ما أنا فيه من موقـف ٍ عصيب. ولم أجد شيئا ً ذا بال يستحق أن ينكـل بي بسببه ، ولكن مادام أن الرجل سيتولاني بتلك الحربة المخصصة للأشقياء فهذا يعني أنني منهم واستحق ما يحدث لي ، فيبدو أنني ارتكبت بعض الخطايا التي لا أذكرها وغابت عن بالي لسبب ما ولـيس أمامي الآن غير الدعاء ليكون الله في عوني.
   ويبـدو أن الرجل لم يكن وراءه من المهام المستعجلة ما يجعله يسرع في مهمـته فلقـد لاحظت أنه أضاع الكثير من الوقت متجولا ً بنظراته في أنحاء الحجرة مبتـدأ ً بالسرير البالي حيث كنت استلقي ليمسحه بنظراته المتأملة جـيئة ً وذهابا. امتدت يدي بلا وعي إلى كيس "التنباك" 1 الذي كان يرقـد إلى جانبي على السرير لأخفـيه تحت الوسادة في عجلة ٍ واضطراب ، ويبـدو أن الرجل لم يشأ إحراجي فلقد أشاح بعينيه بعيدا ً لتستقـر نظراته على الصورة الكبيرة المعلقـة أمامه على الحائط أخـذ يتأملها مليا ً وقد انفرجت أساريره وإن كان ثمة تعبيـر غامض قد بان على وجهه ، إنها أمي جالسة على مقعـد ٍ صغير وأنا خلفها حين كنت في الرابعة من عمري أحاول أن أتسلـق ظهرها وهي تبتسم  بينما أختي الصغيرة راقـدة في حجرها وقد راحت في سبات ٍ عميق. ولم تمض  ِ برهة حتى خيل لي أن ابتسامة ماكرة تداعب شفـتي العملاق مما جعلني أنكمـش في سريري مرتعبا ً فلقد تذكرت فجأة أن تعليـق الصور على الحائط من الأمور التي نهى عنها الدين وتستوجب غضب الرب فأخذت استغفره من قلبي بحرارة. ثم طالت نظرات الرجل المنضدة الصغيرة في زاوية الغرفة والأوراق المبعثرة عليها ، إنها قصيدة جديدة كنت أمـرن عليها تلميذاتي في المدرسة الابتدائية لينـشدنها في عيـد الأم هذا العام. رحـت استعرض وجوههن الحلوة واحدة ً واحدة. عينا (أروى) البريئتان المعبرتان ، ابتسامة (سارة) النابضة بالطفولة الدفاقة ومشاكسات (عزة) وصوتها الألثغ الحبيـب و .... و .... لتنحدر الدموع من عيني َّ مدرارا ً إذ شـق علي َّ أن يمـر هذا العيـد ولا أكون وسطهن ، سيكون فقدي عظيما ً لهن إذ كنت الوحيد من بيـن زملائي معلمي المدرسة الابتدائيـة الذي يهتـم بمثـل هـذه المناسبات ويعـد للإحتفال بها. وأية مناسبة كانت ، إنها عيد الأم الذي كان له القـدح المعلى في قائمة اهتماماتي.
وعلا نشيجي وعيناي تسكنـان على نقطة محددة في المنضدة الصغيـرة، إنها هدية العيد التي كنت سأقدمها لأمي ، سـوار من الذهب الخالص لفـه البائع بعناية ٍ فائقة ووضعه داخـل العلبة بكل احترام حين عرف أنه هدية لأمي في عيدها ثم قدمه لي وكلانا يبتسم من أعماق قلبه.  لقد مـر وقت طويل منذ أن عرفـت أن أمي تتمنى أن يكون لها مثـل هذا السوار ، طوال عمرها لم تكن أمي تتمنى لنفسها شيئا ً أو تطلب شيئا ، وحتى في حياة المرحوم والدي لم أسمعها يوما ً تطالبه بشيء خاص لها بل كانت كل طلباتها تتركز على احتياجاتي أنا وأختي الصغيرة ومنذ خمسة أعوام عرفت أن أمي تتمنى أن يكون لها مثل هذا السوار ، لا أذكر بعـد كل هذه السنوات كيف عرفت ، ربما رأيت نظراتها تتـبع يـد إحدى الجارات اللائي كن دائما ما يتعمـدن تحريك أيديهن أثناء الحديث مما يجعل أساورهن ترن بطريقة معينة. يومها قررت شـراء السـوار لتقديمه هدية ً لأمي في عيـدها ولم يكن شـراء مثل هـذا السوار بالأمـر الهيـن على رجل ٍ مثلي ، إذ كان راتبي الصغير لا يكاد يسـد احتاجاتنا المتواضعة لذا فلقـد تأخرت ْ الهدية عـن موعدها كثيرا ً.
   خمسـة أعيـاد مرت وأنا أجمع القـرش على القـرش حتى اكتمل المبلغ هذا العام واشتريت السوار وبقلبي سرور ٌ لا يوصف فلقد كنت أعلـم ما سيـدخلـه على قلب أمي من فـرحة ، ولكن قضى الله بغيـر ذلك وها هـو ذا العملاق القاسي وحربته الرهيبة ذات النهايات المشرشفة الحادة جاهزان لانتزاع روحي من بين جنبي َّ بمنتهى البـرود. ويبدو أن الرجل يقـرأ أفكاري إذ انتقـلـت نظراته الفاحصة المدققـة إلى العلـبة الزرقاء الصغيرة التي ترقـد بداخلها هديتي الغالية ثم هـز حربته الرهيبـة ذات اليمين وذات الشمال فقـفـز قلبي إلى حلقي وسـد مجرى تنفسي. حاولت أن أستعيـد تركيزي لأدعـو الله بما يتناسب وهذا الموقـف فلم أفـلـح ، إذ أرتج َّ علي َّ وأخـذت أهمهم بما لا يبيـن وقـد علا نشيجي حتى عنان السماء. ثم لا أدري من أين واتتني القـوة والشجاعة فلقـد وجـدت نفسي أقفـز إلى المنضدة لاختطف العلبة الزرقاء واحتضنها ودموعي تنهمر على وجهي مدرارا. أخـذ الرجـل يتفحصنـي وطوفـان مـن الدهشـة يتدفق من عينيه ، ثم فجـأة أسـرع يطـوي حربته الرهيبة ويستـديران نحو باب الخروج بخطوات ٍ شفيفة تتبعتهما ببصري مأخوذا ً حتى غاصا في الظلام. ومن البعيـد علا صـوت مـؤذن المسجـد وهـو يتلـو مل ء الفضاء : "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنـده أم الكتاب".
                                 الخرطوم - مارس 2011م
1/ التنباك أو السعوط : نبات سوداني مخدر يوضع تحت الشفة السفلى بغرض الكيف ذلك بعد تخميره بالعطرون

الأحد، 26 أغسطس 2012

الكافـر والشيـطان

   لـم يكـن (شريف) ليعـرفه الكـثيرون منـَّا فلقـد طالت غيـبـته عن القـرية لأكثـر من ثلاثـين عاما ً وفي المـرات القـلائل التي تأتي سيـرته على لسـان أحـد مـن السكان، كان المتحـدث يتلفـت حوله ثم يخفـض صوتـه حتى يغـدو كالهمـس وتقـترب رؤوس الرجال من بعضها البعض وهم يتبـادلون حـوارا ً قصيـرا ً ومتعجـلا. ودائما ً ما كانوا يصمتـون أو يغيـرون مجـرى الحديـث حين يلـوح في بداية الزقـاق والـده الشيخ (عبد النبي ود صالح) متجها ً نحوهـم أو تبـدو أمـه الحاجة (آمنة بنت سليمان) قادمة ً نحـو الدكان. 
   لكن اليوم أصبح الجميع يتحدثون عن (شريف) بقـدر ٍ عظيـم ٍ من الحرية والكثيـر من الفخـر. أصبح الحديث عنـه مزيجا ً من الاحترام والدهشـة والقداسـة. بل أصبحت قصـة حياة (شريف) من المآثـر الخالدة التي سيـفاخر بها أهـل قريتـنا القرى المجاورة إن طال النقـاش ميـدان الشجاعة والبطولة والفروسية ، كيف لا وهـو الرجل الذي تصدى لجمـع ٍ غـفـير ٍ من الشياطين وقاتلهم حتى أفـناهم عن بكـرة أبـيهم.
   أول مـرة ٍ أسمـع فيـها عـن (شريف ود عبد النبي) كانت قبـل عشـرة أعوام ٍ أو يزيـد. كنا يومها نلعـب على ضفـة النهـر نحـو ثمـانيـة أطفـال. (عبد الله ود الطاهر) كان أمهرنا في تشيـيد قباب الرمـل وتزيـينها بالأصداف والمحـار وقـشـر الأسمـاك ولكن (أحمد ود عبد النبي) وكان وقـتها شقـيـا ً إبليسي السلوك دائما ً ما كان يحطـِّم تلك القباب الجميلة ويدوس مكوناتها الرقـيـقـة بقدميه الكبيـرتيـن ويساوي بها الأرض وكان ذاك يقودهما دائما ً إلى الصدام والعـراك الذي كان ينتهي بانتـصار (أحمد ود عبد النبي) بحكم بنيـته الجسـدية القـوية. يومـا ً ما حيـن وصل (عبد الله) إلى أقصى درجات الألم والإحساس بالظلم والقهـر صرخ في وجه المعتـدي بقـوله : "أخـوك الكافـر ... أخـوك الكافـر ..!" ويـبدو أن هـذه العبارة قد لاقـت صدى حسنا ً في نفوسنا جميعا ً إذ سرعـان ما تحلـقـنا حـول (أحمد ود عبد النبي) وأخذنا نهتـف ونحن ندور حوله : "أخـوك الكافـر ... أخـوك الكافـر ..!" ولم يكن أمام المسكـين سـوى أن ينفجـر بالبكاء ، ومـن ثـم يعـدو نحـو منـزلهم يجلله العـار. ولم نكن نعـرف من هو أخـوه الكافـر ذاك وكيف كفـر ولكن يبـدو أن (عبد الله ود الطاهر) يعرف ، فلقـد أخبـرنا لاحقـا ً أن (أحمد ود عبد النبي) لديـه أخ اسمه (شريف) يكفـر بالله وما أنزل على الرسول (محمد) صلى الله عليه وسلم مما جلب عليه غضب الحكومة، يقول (عبد الله ود الطاهر) أنه سمع أمـه وأباه يتحدثان بذلك في إحدى الليالي. أرعبتـنا تلك المعلومة الغريبة المدهشة في جرأتها كثيـرا ً. أخذنا نتـداولها بينـنا لأيام ٍ كأحد الأسـرار الهائلة والمقـدسة ، سـرٌ يخـصنا وحدنـا، كنا نخـرج إلى النهـر بعيدا ً عن العـمران وأعيـن الكبـار ومن ثـم نتحلـق حول (عبد الله ود الطاهر) نستعيـد ما قاله سابقـا ً ونتجـادل حوله محاوليـن أن نضـع صـورة ً متخيـلة لذاك الكافـر فنـفـشـل، فكـون الرجل من قريتـنا وشـقيـق صديقـنا وقريـب بعضنـا، كل ذلك جعـل من الصعب أن تتطابق صـورته مـع الصـورة المفتـرضة للكفـَّار في مخيلتـنا. ثم لم نلبـث أن نسينا الأمـر بـرمته ونسـينا وجـود (شريف ود عبد النبـي) نفـسه. والآن بعد عشـر أعـوام من هذه الحادثة إذا بالرجـل يعود إلى مسرح الأحداث بقوة والسبب "سـَرايَا" (مَاكْ مَيكْ) أو البيت المسكون.
   قبل ما يقـرب مـن عام لاحظ سكـَّان القريـة أن حركـة مريبة تـدور في "سرايـا" (مَاكْ مَيكْ)، وهي مبنى واسـع يتكـون من طابقيـن شـُيـِّد في عهـد الاستعمـار وكان مخصصا ً لسكنى المفتـش الإنجليزي المشرف على المشروع الزراعي في قريتـنا وقـد استغله المفتشون الوطنيـون مـن بعـده ثم هُجـر بعـد أن جـف َّ المشروع وتعطـَّـلت "البَيـَّارَةُ" الوحيدة التي كانت ترويـه ولم يعـد يسكن تلك "السرايا" سـوى البـوم والخفافيـش وقـد كنت أمـرُّ بها دائما ً حين أسيـر في الطريق المؤدي إلى المقابر حيث مقـام وضـريح سيدي الشيخ (فضـل الله) قدس سـره، فلا تلفـت انتباهي أو تثير لدي أي احساس بالغرابة. كانت "السرايا" تتوسط الخلاء في فضاء فسـيح يغري بالعـَدْو وفي موسم الأمطار كانت النباتات الطفيلـية تغطيها من كل جانب حتى تكاد تخفيـها عن الأعين ورغـم ذلك لـم يأتِ على خيـال أي منـَّا أن سرايـا (مَاك ْ مَيك ْ) يمكـن أن تروق لأحـد سكان العالـم السفلي ليتخـذها وكرا ً لنشـاطه إلى أن لاحـظ البعـض في إحدى الليالي أن الحياة تـدب في "السرايا" المهجورة ولكن يا لها من حيـاة. إذ أخـذت الصرخات ُ تنـدفـع من خلال نوافـذ المبنى بعد منتصف الليل بقليـل ، صرخات مرعـبة وصياح وبكاء وعويـل واستغاثات تمزق نياط القلب تخالطـها بعض الأحيـان شتائـم مقـذعة تعلو بها بعض الأصوات الغاضبة كانت تستغـرق الليل بطولـه في بعض الأحيـان وحين ينبلج الفجـر يعـود الصمـت البـارد يجـوس في المكان وتعـود "السرايا" إلى سابق عهدها من السكـون والوحشـة. ولم يجرؤ أحـد ٌ من سكان القرية على الاقتراب من "السرايا" أو تحدثه نفسه بالذهاب إلى هناك ومعرفة ما يجري إذ بـدا الأمـر للجميـع غريبـا ً وخارقـا ً للمألوف لا يستبعـد أن يكون لقبــيل الجـن يـد ٌ فيه ، وهـذا ما اتضـح لنـا جليـا ً بعـد ذلك وشهـد عليـه مسؤلو الحكومة. 
   فبعد أن تكرر الأمـر وأصبح عادة ً راتبة سافـر شيخ القرية وبعض الأعيان إلى المدينة الكبيـرة ووضعـوا الأمـر أمام السلطات والتي أمرتهم بتحذير جميع سكان القرية من الاقتـراب من "السرايا" من بعد صلاة العشاء وحتى الفجر فلابـد من أنها أرواح الإنجليز الملعونة عادت لتسكن "السـرايا" وتتـنازع في أيهم أحـق بإدارتها والاشراف عليها. من جانـبهم أنفـذ شيخ القرية والأعيـان أمـر السلطات في حـزم حيث جمعوا كل السكان وافضوا لهـم بحقيقـة الأمـر وحذروهم من الاقـتراب من "سرايـا" (مَاكْ مَيكْ) ووضعوا عقوبات رادعة لكل من يخالف تلك الأوامر. الشيخ (باب الله) إمام المسجد أضاف أمـرا ً آخر لما قال به المسؤلون إذ وجـَّه السكان بالاكثار من الصلاة والاستغـفار والدعـاء عسى أن يكف الله شـر تلك الأرواح النجـسة عن قريتهم لترحل وتعـود مـن حيث أتـت. ذلك الاقتراح وجـد صـدىً حسنا ً في نفـوس السكان واصبحت تلك عادة ً راتبة ً في مسجد القرية ، يجتمع الناس في الضحى فيؤمهم الشيخ (باب الله) فيكثروا مـن الصلاة والاستغـفار والدعاء على تلك المخلوقات الغريبة. 
   ولكن ظل الحال كما هو عليه زمانا ً طويلا ً وتلك الأرواح الكافـرة تفعل أفعالها المنكرة في سرايا (مَاكْ مَيكْ) دون أن تأبـه لكثـرة صلاتنا أو عظيم دعائنا وأوراد الشيخ (باب الله) إلى أن  وجدنا أنفسنا في ذلك الضحى ننـدفع من داخل المسجـد مهرولين نحو "السرايا" دون تفكيـر، بل دون أن يذكـر أي منـَّا تحذيـر السلطات أو يخشى مغـبة ما يفعـله. اندفع جميع المصلـين نحو البيت المسكون ، إلى حيث كانت الآلة المجنونة تهدر بصرخاتٍ شيطانيةٍ قاسـية. أسرعوا إلى حيث الرصاص، البارود ورائحة الموت، ليجدوه منتصبا ً أمام "السرايا" وعيناه شاخصتان إلى السماء وبندقـيـته في يمناه وقد نفـذت رصاصاتها. كان داكن اللون وكأنه طـُمر تحت الطمي لسنواتٍ طويلة. بدا بقامـته الفارعة ورأسـه الأصلع وذقنـه المشعـث الأشيـب وتلك الأسمال التي لا تكاد تسـتر عورته وقد خضبتها الدماء والعـرق وهو في وقفـته الشامخة وسط الفضاء اللانهائي وقـد جللته الحمـرة القانية التي انبعـثت من الشـرق، بدا وكأنه مخلـوق ٌ أسطوريٌ هبط من السماء لتـوه. كنت ُ أول من وصل إلى حيث يقـف الرجل، خيل إلي أنه يخاطبني بقولـه: "أنا (شريف) ... (شريف) ... (ود عبد النبي) ..." صمت الرجل وقد تغضـن وجهـه وكأنـه يعـاني ألما ًخرافياً مميـتا ً ثم عـاد يجـز ُّ على أسنانه بقوةٍ وكأنه يستدعي كل قـدراته ليهمـس قائلا ً: "سلم لي على ناس الحلـة كلهم ... قول ليهم (شريف) قتـل الشياطين ... كلهم ميتين جوَّه!" قالها ثـم خـر َّ على الأرض كعمـود ٍ هائـل. 
   ومن الباب الخلفي للسرايا خرج صـف ٌ طويـل من الرجـال نحيلي الأجسـاد يسيرون منهكيـن نحـو الطريق المـؤدي إلى النهـر. تتبعـتهم ببصـري إلى أن اختـفوا خلف غابـة السنـط القريـبة.
                            أم درمان - يوليو 2012م

السبت، 11 أغسطس 2012

تسـابقـوا في المكـرمات

   بعد أن أضـاع أكثـر مـن عشريـن عامـا ً مـن عمـره في النضـال من أجل الحرية والديمقراطية والعـدالة لبـني وطنـه مواجها ً أعـتى الدكتاتوريات وأكثرها شراسـة ً ولؤمـا ً- كما يقول - اكـتـشف السيـد (سيـن) أخيـرا ً وهو على أعتاب الأربعيـن من العمـر أنه خـُدع بطريقـة ٍ أو بأخرى وأن كل تضحياتـه السابقـة راحت هبـاء. حـدث هـذا بيـنما كان الرجل يتجـول بـ"الريموت كنتـرول" بيـن القـنوات الفضائية مسترخيا ً على أحـد المقاعـد الوثيـرة في منـزله وقد أشعـل سيجـارته وراح يمتصها في شغـف وإذا به يـُفاجأ بكريمـة زعـيم المعارضة تطـل مـن خلـف الشاشة البللورية لإحـدى القـنوات الفضائـية الشهيـرة تهـدد الحكومة والعسكـر وتدعو عليهم بالويـل والثـبـور في شجاعة الفرسان وثـقـة العلماء دون أن يعقــِّب أحـد ٌ على قولها بل ظـل مقـدِّم البرنامج طوال الوقـت يهـز رأسـه بين الفيـنة والأخرى مؤمـِّنا ً على ما تـقول الفتـاة وهو يبـتـسم. اكتشف السيد (سيـن) في تلك اللحظة أن الحاكم ظـل هو ذات الحاكم ذو السطوة والجاه والسلطان طـوال العشـرين عاما ً المنصرمة وأن المعارضين المعـترف بهـم والذين يُطـوى لهم الأثـيـر وتُسـوَّد صفـحات الصحف بتصريحاتهم وآرائهم وأخبـارهـم هـم ذات المعارضيـن مـن البيـوت الكبيرة والأسـر الغنـيـَّة إلى جانب حاملي السلاح من المعارضيـن في أطراف الدولة القصيـَّة. ولم يكن للسيد (سيـن) من نبـل الأصل وشرف الأرومة وكـرم المحتـد ما يؤهـله ليتبـوأ مقـعـده في زمـرة الأولين ، كما أن هناك من الأسباب ما يمنعـه عن حمـل السـلاح ومجالـدة الحكومـة فظـل في منزلـته تلك بيـن المنزلتـين يغطيه الغـبار الكـثـيف رغم ما يحمل من عميـق الفكـر وثاقـب العقـل وعظيـم الرؤى. 
  اكتشف السيـد (سيـن) فجأة ً بعـد حديث الفـتاة أن معارفـه وأصدقـاءه لم يتجاوزوا  زملاء دراسته وبعض أعضاء حزبـه الصغير وأن عـدد من يـُقـدِّرون نضاله وتضحيتـه منهم لا يتجاوز أصابـع اليـد الواحدة رغـم أن الرجل - وفي ظل الصمت المريب عن بطولاته تلك - ظل طوال السنوات العشر الأخيرة لا يـدع مناسبة ً أو لقاء مع أحد من الناس يمر دون أن يـُوثــِّق َ فـيه لمعارك فكـرية خاضها أو خصوم ٍ سياسييـن أفحمهم أو  أمجاد ٍ حازها في صراعه مع الدكتاتورية ولكـن كل ذلك لم يأت ِ بالثمـار المرجوة، إذ أن الجميع لم يكونوا ليأخذوا حديـثـه على محمل الجـد وإن أظهروا غير ذلك إذ اشتهر السيد (سيـن) بسعـة الخيال وبعـد المرمى خاصة في الأمور التي تمـسـه ويعـود عليه ريعها بفائـدة ٍ معنـوية ٍ مهـما بلغـت ضآلتها. لذا فلـقـد ظل الرجل محصورا ً في دائرة ٍ صغـيرة ٍ من المعارف تضيق يوما ً بعد يوم ، ساعـد على ذلك أن السيد (سيـن) - ولمواقـفه الواضـحة من غيـر تنـاقض وصدقـه مع نفـسه والآخرين، كما يقول - كان دائما ًما ينخـرط في صراعات عنيـفة ومعارك شرسـة مع أصدقائه المعارضيـن مـن الأحـزاب الأخـرى أو حتى أعضاء حزبه وحيث أن له بعض القراءات في علم النفـس لا يـريـد لها أن تظـل حبيسـة صـدره يتـراكم عليها الغبـار والنسيـان، فإن السيـد (سيـن) كان غالبا ً ما  يـُعـْرض عـن القضية الماثـلة للنقـاش ويـُوجـِّه سهام نقـده إلى شخصية مـن يحـاور ليتهمه في نهاية المطاف بأحد الأمراض ذات الأسماء الفخمة في ذلك العلـم كـ"الشيزوفيرينيا" و"الأندروفوبيا" و"الليتلبارانويا" وغيرها من الكلمات المرعـبة التي كان مجرد ذكر اسمها يجعـل الخصوم يفـرُّون من لـدنه متضعضعين يتبعهم العـار الثقيل وغالبا ً ما كانوا يتحاشونه بعد ذلك وكان ذلك يشعـره بالكثير من الرضا ويصور له نفسه فارسا ً لا يشق له غبار. 
   أغلق السيد (سيـن) التلفـاز وأخـذ يعتصر ذهنـه جاهـدا ً علـَّه يجـد حـلا ً ناجعا ً لما أهمه ، ولـم يطـل بـه التفكيـر حتى هبطـت عليه الفكـرة الجهنميـة وكأنها كانت مخبأة في عقله تنتظر اللحظة المناسبة لتـنـبـثق. نعم ، لـم َ لا يـُهـدر دمـُه ُ مـن إحدى الجماعات الدينية المتطرفة التي اشتهرت بالقسـوة والبطـش، بـل يكـفي أن يأتي التهديـد من أية جماعة مصحوبا ً بتكفـيره واستحلال دمـه. إن هذا كفيـل ٌ بأن يمنحـه شهـرة ً لا تدانيها شهـرة ويضع فضاءات الأثير تحت تصرفـه ليعبـِّر عن ذات نفسـه ومصالح شعبه. تاه الرجل في حلمه العـذب ليـرى نفسه وقـد عقـد مؤتمرا ً صحفـيا ً ضخما ً يتقاطر عليه عظماء القوم من كل فـج والقنوات العالمية وكبريات الصحف ومراسلاتها الجميلات يتوسلن تعليقاته وضوء الكاميرات يلمع بين الفـينة والأخرى حول وجهه كالبروق الخاطفة وهـو في كامل أناقته يدلي بعميق الفكر وثاقب القول ، فابتسم لنفسه ابتسامة ملؤها الفخـر ثم قـفـز ليجلس خلف مكتبه الصغيـر يسوِّد الصفحات.
   ظل َّ السيد (سيـن) يثبت ما يشاء ويمحو حتى ساعة ٍ متأخرة ٍ من تلك الليلة. وصف نفسه بما لا يمكن أن يخطر على عقـل أكثـر خصومـه فجـورا ً أو أكثر الجماعات الدينية جهلا ً وتطرفا ً من صفات الكفـر والإلحاد والانحلال الخلقي وما بين ذلك من زنـدقـة وهرطقـة ومثلها وهو يبتسم تارة ً ويهز رأسه استحسانا ً تارة ً أخرى حتى أنهى خطابه.
  وفي الصباح بينما كان السيد (سيـن) يصعد سلـم المبنى متوجها ً إلى مكـتبه وفي معيته ثلة ٌ من الأصدقاء إذا ببواب العمارة يتـقدم نحوه بخطوات ٍ مترددة ٍ ويدفع إليه بالخطاب. تظاهر السيد (سيـن) بالدهشة وهو يخاطب العجوز متسائلا ً : " ده شنو ده يا عم عبد الله ؟". تلعثم البواب ودارت عيناه في محجرهما قـبل أن يهـمس بصوت ٍ خجول: " ده خطاب جابوهو ليك ناس هنا ". ألقى السيـد (سيـن) نظـرة ً غاضبة ً على الرجل فـلقـد أحنقـه ان صوت العجوز كان منخفضا ً بصورة ٍ تدعو للريـبة فصرخ في وجهه قائلا ً :"ناس أيه الجابوا لي الخطاب ده ؟". ليرد الرجل متلعثما ً وهو يدير نظراته في وجوه الحاضرين :" ناس عندهم دقـون كبيـرة ". وكانت تلك العبـارة هي مربـط الفـرس في خطة السيد (سيـن) ، وحينما رأى الفـزع يطفـر من أعـين الحاضرين جاهـد كثـيرا ً حتى يكبح ابتسامة كادت أن تفضحه.
  لم ينـقض ِ ذلك النهار حتى عـم َّ الخبـر أرجاء المدينة واصبحت سيـرة السيد (سيـن) على كل لسان وانهالت التلفـونات على مكـتبه تطمئـن على صحته وتعـرف جليـَّة الخبـر وهرع كبار الصحفيين إلى مقـام الرجـل لتخرج صحـف الصباح وصـورة السيد (سيـن) في حـلة ٍ كامـلة تـزيـِّن صفحاتها الأولى وإلى جانبها صورة من الخطاب الذي أهدر دم الرجل والكلمات التي تحط من قـدره وتصوره كشيطان ٍ مريد ٍ، عـدو لله ورسوله وصالح المؤمنيـن. وبجانب كل ذلك جاءت تصريحات السيد (سيـن) التي تدين الإرهاب والتطرف والجماعات الظلامية وتتعهد بالسير في ذات الطريق المليء بالأشواك والثبات على درب الحرية مهما تكن التضحيات.
   التعاطف الذي حظى به السيد (سيـن) والشهـرة التي نالها لم تكن مسبوقة في تاريخ المدينة إذ لم يحـظ َ أي رجـل ٍ من غمـار النـاس كالسـيد (سيـن) بمثـل هـذا الاهتمام من قبـل. أخذ عامـة الشعب يتحدثون طيلة ذلك اليوم عن الرجل وشجاعته في مقارعة الحكومة وعظيم تضحياته ناسبـيـن إليه من البطولات ما لم يخطر على بال الرجل نفسه رغم طموحه الجارف وسعة خياله. كما نشـَّط هـذا الحادث ذاكـرة بعـض أصـدقاء السيد (سيـن) وحـل َّ عقـدة ألسنـة آخرين فشهـدوا على صحـة الكثير من القصص والمواقف البطـولية التي ظـل الرجـل يرويها عـن نفسـه وهـو يحـاول إقنـاع الناس بصحتها طوال سنـوات عمـره السابقة دون جـدوى. وحتى زعماء الأحزاب الكبيرة اتصلوا تلفونيا ً معلنين وقوفهم مع الرجل ومساندته في محنـته والسيد (سيـن) جالس في مكـتـبه وقـد وضع ساقا ً على ساق وهو يمتص السيجارة تلو السيجارة ويرد على المكالمات  الهاتفية وبقلبه سرور ٌ لا يوصف وهو يهنيء نفسه بين الفيـنة والأخرى على ذكائه ورجاحـة عقـله. ولكن في أحـد البيوت الطينيـة الفقيـرة بأحد الأحياء النائية في المدينـة كان لذلك الخبـر وقعا ً مختلفا ً في نفوس بعض الرجال. جلسوا يتدارسون ذلك الخطاب طويلا ً ويعلقون على ما جاء بالصحيفة بصوت ٍ هامس ٍ وهم يتداولونها بينهم وحينما انفض َّ ذلك الاجتماع كانت آخـر عبارة قالها أميـرهم: "لا تدعـوا إخواننـا يفـوزون بالأجـر دونكم ... تسابقـوا في المكرمات". أحنى بقيـة الرجال رؤوسهم مؤمنيـن ثم خرجـوا. 
  وفي اليوم التالي وبينما كان السيد (سيـن) يمشي في خيلاء وهو يتأبط صحف الصباح في طريقه إلى مكتبه برز الرجال الخمسة أمامه فجأة لتهـدر الأسلحة الرشاشة وتنهال الطلقات على صدر السيد (سيـن) والذي فغـر فاهـه دهشـة ً قبل أن تمزِّقــَهُ الرصاصات المجنونة. 
                        أم درمان - يناير 2012م