بعد أن أضـاع أكثـر مـن عشريـن عامـا ً مـن عمـره في النضـال من أجل الحرية والديمقراطية والعـدالة لبـني وطنـه مواجها ً أعـتى الدكتاتوريات وأكثرها شراسـة ً ولؤمـا ً- كما يقول - اكـتـشف السيـد (سيـن) أخيـرا ً وهو على أعتاب الأربعيـن من العمـر أنه خـُدع بطريقـة ٍ أو بأخرى وأن كل تضحياتـه السابقـة راحت هبـاء. حـدث هـذا بيـنما كان الرجل يتجـول بـ"الريموت كنتـرول" بيـن القـنوات الفضائية مسترخيا ً على أحـد المقاعـد الوثيـرة في منـزله وقد أشعـل سيجـارته وراح يمتصها في شغـف وإذا به يـُفاجأ بكريمـة زعـيم المعارضة تطـل مـن خلـف الشاشة البللورية لإحـدى القـنوات الفضائـية الشهيـرة تهـدد الحكومة والعسكـر وتدعو عليهم بالويـل والثـبـور في شجاعة الفرسان وثـقـة العلماء دون أن يعقــِّب أحـد ٌ على قولها بل ظـل مقـدِّم البرنامج طوال الوقـت يهـز رأسـه بين الفيـنة والأخرى مؤمـِّنا ً على ما تـقول الفتـاة وهو يبـتـسم. اكتشف السيد (سيـن) في تلك اللحظة أن الحاكم ظـل هو ذات الحاكم ذو السطوة والجاه والسلطان طـوال العشـرين عاما ً المنصرمة وأن المعارضين المعـترف بهـم والذين يُطـوى لهم الأثـيـر وتُسـوَّد صفـحات الصحف بتصريحاتهم وآرائهم وأخبـارهـم هـم ذات المعارضيـن مـن البيـوت الكبيرة والأسـر الغنـيـَّة إلى جانب حاملي السلاح من المعارضيـن في أطراف الدولة القصيـَّة. ولم يكن للسيد (سيـن) من نبـل الأصل وشرف الأرومة وكـرم المحتـد ما يؤهـله ليتبـوأ مقـعـده في زمـرة الأولين ، كما أن هناك من الأسباب ما يمنعـه عن حمـل السـلاح ومجالـدة الحكومـة فظـل في منزلـته تلك بيـن المنزلتـين يغطيه الغـبار الكـثـيف رغم ما يحمل من عميـق الفكـر وثاقـب العقـل وعظيـم الرؤى.
اكتشف السيـد (سيـن) فجأة ً بعـد حديث الفـتاة أن معارفـه وأصدقـاءه لم يتجاوزوا زملاء دراسته وبعض أعضاء حزبـه الصغير وأن عـدد من يـُقـدِّرون نضاله وتضحيتـه منهم لا يتجاوز أصابـع اليـد الواحدة رغـم أن الرجل - وفي ظل الصمت المريب عن بطولاته تلك - ظل طوال السنوات العشر الأخيرة لا يـدع مناسبة ً أو لقاء مع أحد من الناس يمر دون أن يـُوثــِّق َ فـيه لمعارك فكـرية خاضها أو خصوم ٍ سياسييـن أفحمهم أو أمجاد ٍ حازها في صراعه مع الدكتاتورية ولكـن كل ذلك لم يأت ِ بالثمـار المرجوة، إذ أن الجميع لم يكونوا ليأخذوا حديـثـه على محمل الجـد وإن أظهروا غير ذلك إذ اشتهر السيد (سيـن) بسعـة الخيال وبعـد المرمى خاصة في الأمور التي تمـسـه ويعـود عليه ريعها بفائـدة ٍ معنـوية ٍ مهـما بلغـت ضآلتها. لذا فلـقـد ظل الرجل محصورا ً في دائرة ٍ صغـيرة ٍ من المعارف تضيق يوما ً بعد يوم ، ساعـد على ذلك أن السيد (سيـن) - ولمواقـفه الواضـحة من غيـر تنـاقض وصدقـه مع نفـسه والآخرين، كما يقول - كان دائما ًما ينخـرط في صراعات عنيـفة ومعارك شرسـة مع أصدقائه المعارضيـن مـن الأحـزاب الأخـرى أو حتى أعضاء حزبه وحيث أن له بعض القراءات في علم النفـس لا يـريـد لها أن تظـل حبيسـة صـدره يتـراكم عليها الغبـار والنسيـان، فإن السيـد (سيـن) كان غالبا ً ما يـُعـْرض عـن القضية الماثـلة للنقـاش ويـُوجـِّه سهام نقـده إلى شخصية مـن يحـاور ليتهمه في نهاية المطاف بأحد الأمراض ذات الأسماء الفخمة في ذلك العلـم كـ"الشيزوفيرينيا" و"الأندروفوبيا" و"الليتلبارانويا" وغيرها من الكلمات المرعـبة التي كان مجرد ذكر اسمها يجعـل الخصوم يفـرُّون من لـدنه متضعضعين يتبعهم العـار الثقيل وغالبا ً ما كانوا يتحاشونه بعد ذلك وكان ذلك يشعـره بالكثير من الرضا ويصور له نفسه فارسا ً لا يشق له غبار.
أغلق السيد (سيـن) التلفـاز وأخـذ يعتصر ذهنـه جاهـدا ً علـَّه يجـد حـلا ً ناجعا ً لما أهمه ، ولـم يطـل بـه التفكيـر حتى هبطـت عليه الفكـرة الجهنميـة وكأنها كانت مخبأة في عقله تنتظر اللحظة المناسبة لتـنـبـثق. نعم ، لـم َ لا يـُهـدر دمـُه ُ مـن إحدى الجماعات الدينية المتطرفة التي اشتهرت بالقسـوة والبطـش، بـل يكـفي أن يأتي التهديـد من أية جماعة مصحوبا ً بتكفـيره واستحلال دمـه. إن هذا كفيـل ٌ بأن يمنحـه شهـرة ً لا تدانيها شهـرة ويضع فضاءات الأثير تحت تصرفـه ليعبـِّر عن ذات نفسـه ومصالح شعبه. تاه الرجل في حلمه العـذب ليـرى نفسه وقـد عقـد مؤتمرا ً صحفـيا ً ضخما ً يتقاطر عليه عظماء القوم من كل فـج والقنوات العالمية وكبريات الصحف ومراسلاتها الجميلات يتوسلن تعليقاته وضوء الكاميرات يلمع بين الفـينة والأخرى حول وجهه كالبروق الخاطفة وهـو في كامل أناقته يدلي بعميق الفكر وثاقب القول ، فابتسم لنفسه ابتسامة ملؤها الفخـر ثم قـفـز ليجلس خلف مكتبه الصغيـر يسوِّد الصفحات.
ظل َّ السيد (سيـن) يثبت ما يشاء ويمحو حتى ساعة ٍ متأخرة ٍ من تلك الليلة. وصف نفسه بما لا يمكن أن يخطر على عقـل أكثـر خصومـه فجـورا ً أو أكثر الجماعات الدينية جهلا ً وتطرفا ً من صفات الكفـر والإلحاد والانحلال الخلقي وما بين ذلك من زنـدقـة وهرطقـة ومثلها وهو يبتسم تارة ً ويهز رأسه استحسانا ً تارة ً أخرى حتى أنهى خطابه.
ظل َّ السيد (سيـن) يثبت ما يشاء ويمحو حتى ساعة ٍ متأخرة ٍ من تلك الليلة. وصف نفسه بما لا يمكن أن يخطر على عقـل أكثـر خصومـه فجـورا ً أو أكثر الجماعات الدينية جهلا ً وتطرفا ً من صفات الكفـر والإلحاد والانحلال الخلقي وما بين ذلك من زنـدقـة وهرطقـة ومثلها وهو يبتسم تارة ً ويهز رأسه استحسانا ً تارة ً أخرى حتى أنهى خطابه.
وفي الصباح بينما كان السيد (سيـن) يصعد سلـم المبنى متوجها ً إلى مكـتبه وفي معيته ثلة ٌ من الأصدقاء إذا ببواب العمارة يتـقدم نحوه بخطوات ٍ مترددة ٍ ويدفع إليه بالخطاب. تظاهر السيد (سيـن) بالدهشة وهو يخاطب العجوز متسائلا ً : " ده شنو ده يا عم عبد الله ؟". تلعثم البواب ودارت عيناه في محجرهما قـبل أن يهـمس بصوت ٍ خجول: " ده خطاب جابوهو ليك ناس هنا ". ألقى السيـد (سيـن) نظـرة ً غاضبة ً على الرجل فـلقـد أحنقـه ان صوت العجوز كان منخفضا ً بصورة ٍ تدعو للريـبة فصرخ في وجهه قائلا ً :"ناس أيه الجابوا لي الخطاب ده ؟". ليرد الرجل متلعثما ً وهو يدير نظراته في وجوه الحاضرين :" ناس عندهم دقـون كبيـرة ". وكانت تلك العبـارة هي مربـط الفـرس في خطة السيد (سيـن) ، وحينما رأى الفـزع يطفـر من أعـين الحاضرين جاهـد كثـيرا ً حتى يكبح ابتسامة كادت أن تفضحه.
لم ينـقض ِ ذلك النهار حتى عـم َّ الخبـر أرجاء المدينة واصبحت سيـرة السيد (سيـن) على كل لسان وانهالت التلفـونات على مكـتبه تطمئـن على صحته وتعـرف جليـَّة الخبـر وهرع كبار الصحفيين إلى مقـام الرجـل لتخرج صحـف الصباح وصـورة السيد (سيـن) في حـلة ٍ كامـلة تـزيـِّن صفحاتها الأولى وإلى جانبها صورة من الخطاب الذي أهدر دم الرجل والكلمات التي تحط من قـدره وتصوره كشيطان ٍ مريد ٍ، عـدو لله ورسوله وصالح المؤمنيـن. وبجانب كل ذلك جاءت تصريحات السيد (سيـن) التي تدين الإرهاب والتطرف والجماعات الظلامية وتتعهد بالسير في ذات الطريق المليء بالأشواك والثبات على درب الحرية مهما تكن التضحيات.
التعاطف الذي حظى به السيد (سيـن) والشهـرة التي نالها لم تكن مسبوقة في تاريخ المدينة إذ لم يحـظ َ أي رجـل ٍ من غمـار النـاس كالسـيد (سيـن) بمثـل هـذا الاهتمام من قبـل. أخذ عامـة الشعب يتحدثون طيلة ذلك اليوم عن الرجل وشجاعته في مقارعة الحكومة وعظيم تضحياته ناسبـيـن إليه من البطولات ما لم يخطر على بال الرجل نفسه رغم طموحه الجارف وسعة خياله. كما نشـَّط هـذا الحادث ذاكـرة بعـض أصـدقاء السيد (سيـن) وحـل َّ عقـدة ألسنـة آخرين فشهـدوا على صحـة الكثير من القصص والمواقف البطـولية التي ظـل الرجـل يرويها عـن نفسـه وهـو يحـاول إقنـاع الناس بصحتها طوال سنـوات عمـره السابقة دون جـدوى. وحتى زعماء الأحزاب الكبيرة اتصلوا تلفونيا ً معلنين وقوفهم مع الرجل ومساندته في محنـته والسيد (سيـن) جالس في مكـتـبه وقـد وضع ساقا ً على ساق وهو يمتص السيجارة تلو السيجارة ويرد على المكالمات الهاتفية وبقلبه سرور ٌ لا يوصف وهو يهنيء نفسه بين الفيـنة والأخرى على ذكائه ورجاحـة عقـله. ولكن في أحـد البيوت الطينيـة الفقيـرة بأحد الأحياء النائية في المدينـة كان لذلك الخبـر وقعا ً مختلفا ً في نفوس بعض الرجال. جلسوا يتدارسون ذلك الخطاب طويلا ً ويعلقون على ما جاء بالصحيفة بصوت ٍ هامس ٍ وهم يتداولونها بينهم وحينما انفض َّ ذلك الاجتماع كانت آخـر عبارة قالها أميـرهم: "لا تدعـوا إخواننـا يفـوزون بالأجـر دونكم ... تسابقـوا في المكرمات". أحنى بقيـة الرجال رؤوسهم مؤمنيـن ثم خرجـوا.
وفي اليوم التالي وبينما كان السيد (سيـن) يمشي في خيلاء وهو يتأبط صحف الصباح في طريقه إلى مكتبه برز الرجال الخمسة أمامه فجأة لتهـدر الأسلحة الرشاشة وتنهال الطلقات على صدر السيد (سيـن) والذي فغـر فاهـه دهشـة ً قبل أن تمزِّقــَهُ الرصاصات المجنونة.
وفي اليوم التالي وبينما كان السيد (سيـن) يمشي في خيلاء وهو يتأبط صحف الصباح في طريقه إلى مكتبه برز الرجال الخمسة أمامه فجأة لتهـدر الأسلحة الرشاشة وتنهال الطلقات على صدر السيد (سيـن) والذي فغـر فاهـه دهشـة ً قبل أن تمزِّقــَهُ الرصاصات المجنونة.
أم درمان - يناير 2012م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق