التسميات

الثلاثاء، 11 مارس 2014

مرافعة الدكتور (جادين) الأخيرة 2

الفكي (أَبَّكَر) يحلف بالطلاق 
أوصاه أبوه بالبعد عن أبواب الملوك والسلاطين وعدم التدخل في شئون الممالك والدول لأي سببٍ كان، لا ناصحاً مشفقاً ولا ثائراً مصلحاً. قال: (يا بني من شَادَّ أولي الأمر غلبوه، وبالباطل دمغوه، وإن جاءهم بالحق مسنودا ومعه الملائكة شهودا، وهو كناطح صخرةٍ يُدمي قرنَهُ دون أن يُظهر أمرَهُ. فاحذر ولاة الأمور، سلاطين دار الغرور تعش في سلامٍ موفور. وإن وجدت سبيلاً لأعمالٍ صالحاتٍ فلتفعل لعامة الرعية وأوباش الناس ولكن بعيداً عن أعين المحتسب وآذان صاحب الشرطة).
قال الراوي: حدث ذلك قبل نحو مائتي عام مضين، وعشرين عقداً توارين وكان الفكي (أَبَّكَر) حينها شاباً جلداً يمتلئ قلبه شجاعةً وحزماً وعقله فهماً ودرايةً، وكان يتجول ذاك الصباح في سوق (أم درمان) الكبير وهو يتأبط رواية (مائة عام من العزلة) وقد اختمر في عقله مقالا حول "جدلية المركز والهامش". وكان أن مر موكب الخليفة شاك السلاح مشرع الرماح والناس فرحة مستبشرة تهتف بسقوط (بريطانيا) وأسرة الباشا (محمد علي) وقد رفعوا الرايات وصور الإمام (المهدي) وخلفائه الأربعة يلوحون بها مفاخرين يحدوهم الأمل في غد ٍ مشرق يعم فيه الرخاء ويسقط الغلاء.  قال الراوي: وكان (أّبَّكَر) حينها ممتلئاً بالسر، فلم يقدِّر خطورة الأمر، ففاض وأنشد والعبرات تخنق صوته: (يا أخوتي الذين يعبرون الميدانَ في انحناءْ ... منحدرين في نهاية المساءْ ... لا تحلموا بعالمٍ سعيدْ ... فخلف كلِّ قيصرٍ يموتُ، قيصرٌ جديدْ ... وخلف كلِّ ثائرٍ أحزانٌ بلا جدوى ودمعةٌ سدى..!).
وكان أن سمعه أحد جنود الدولة الجديدة فأسرع يرفع كتاباً مفصلاً إلى خليفتهم بالأمر وهو (عبد الله ولد تورشين) ويلقبونه بخليفة (الصِّدِّيق أبي بكر). تضمن الكتاب شرحاً وافياً لمعنى ذاك الشعر من كلام العرب وموقعه في سياسة السلطنة وأمور الرعية. فصدر الأمر بالقبض على (أَبَّكَر) حياً أو ميتاً وعممت صورته على كل المخافر ونقاط التفتيش، وأجريت الخيل لتبحث عن الشاب المنكود. قال الراوي: حدثني الأمين الصدوق قال: إن التعليمات السرية التي أصدرها الخليفة لفرق المطاردة تقضي بقتل (أَبَّكَر) بمجرد رؤيته.
فتنكر الفكي (أَبَّكَر) في ثياب امرأةٍ عجوزٍ وركب حمارته حمامية اللون وأسرع يصل الليل بالنهار، حتى وصل إلى (باريس) حيث أجرى عدة عمليات تجميلية غيرت في هيئته وشكله ثم قفل راجعا ً إلى (أم درمان)  واتخذ له كوخا ً قرب جبل (المرخيات) ونأى بنفسه عن الناس وشرورهم منقطعا للعبادة والذكر لمائتي عام حسوما. ولكن الحذر لا ينجي من القدر وها هو الفكي المنكود يمثل أمام القاضي في القاعة الكبرى بمبنى القضاء متهما ً بممارسة الدجل والشعوذة والنصب على البسطاء.
الفكي (أَبَّكَر) لم يردد أشعار (أمل دنقل) منذ أن أهدر الخليفة (عبد الله ولد تورشين) دمه. ظل مسالماً مهادناً يراقبهم وهم يفعلون كل شيء ولا يفعلون شيئاً. يراهم يتعاركون وهم يتحدثون باسمه فلم يخطِّئ منهم أحداً ولم يهلل لأحد. وحينما يضيق الحال ويصل القوم إلى الطريق المسدود وتهدر الدبابات متجهةً صوب القصر، لا يدعو لها بالهزيمة أو النصر، ولا يزيد الفكي (أَبَّكَر) على أن يحوقل، ويدعو الله أن يولي على عباده من يصلح، وهذا ما لم يكن يحدث أبداً. كانوا يفعلون كل شيء من وراء ظهره فما ذنبه إذا ً؟! فلتعثر بغال (البحر الأحمر) جميعها وتدق أعناقها ولتنطبق السماء على الأرض في (دارفور) فهذا ليس من شأنه، إن التحدث في مثل هذه الأمور يمس السياسة العليا للدولة ولا يرضي ولاة الأمر وسيعدونه تدخلاً سافراً في شئونهم وهو أكبر من قدراته المحدودة وباعه القصير ولكنه لن يقف متفرجاً على طوابير الحزانى والمحرومين من عامة الشعب، وليس هنالك محزون محروم وضعيف مثل النساء، لذا فلقد آل (الفكي أَبَّكر) على نفسه أن يهون عليهن ما استطاع إلى ذلك سبيلا كما أوصاه والده قبل مائتي عامٍ مضين. سيخفف عنهن بعض الذي يجدن بما علمه الله.  الله لم يعلِّم الفكي (أَبَّكَر) شيئا إذ أن بيع الوهم ليس مما يعلمه الله للبشر وهو لا يحتاج لمعرفةٍ ودرايةٍ إلهيةٍ فهو سهلٌ ميسورٌ في مدينة الأمنيات الخائبة والخطوات الشائهة والمشعوذين الكبار. الفكي (أَبَّكَر) يحتاج لمطعمٍ طازجٍ وملبسٍ ناعمٍ وفرشٍ لين كبقية خلق الله ولكنه لم يفكر في ذلك، علمته تجاربه أن مثل هذه المطالب تغضب أولي الأمر وعواقبها وخيمة، لذا اكتفى بالجنيهات القليلة التي تنفحه بها زائراته. يحلف الفكي (أَبَّكَر) بالطلاق أنه لم يقابل في حياته جاناً مسلماً، حكومةً أو معارضة. ولا جاناً ذمياً، معاهداً أو محارباً. ولو حدث أن قابل أحدهم لأطلق ساقيه للريح. فكيف تقول صحيفة (الفضيحة) أنه يتعاون مع الجان الكافر؟! صحيح أنه تحت ضرب السياط اعترف على نفسه بالتعاون مع الجان. ولكن لكي يكسب عطف الحكومة أصر على أن ذاك الجان مسلمٌ أباً عن جد وأسرته متدينةٌ، فتياتها منقباتٌ وجميعُ الذكور فيها ملتحون، فلماذا لم تورد صحيفة (الفضيحة)  أقواله تلك حتى يطَّلع عليها ولاة الأمر ويتعاطفون معه؟!. الفكي (أَبَّكَر) لم يكن يعرف أولئك الفتيات من قبل وهن اللائي سعين إليه في كوخه عند سفح الجبل يطلبن العون حين ضاقت بهن المدينة وما على الفكي (أَبَّكَر) إلا أن يردد بعض الأسماء الشائعة مثل (محمد) و(عبد الله) و(زينب) و(حسن) و(فاطمة) بعدها ستدله المريضة بنفسها على من سَحَرَها أو (عمل لها عملاً) من هؤلاء بحسب الحال. يتمتم الفكي (أَبَّكَر) بلغةٍ لا تبين ويضع العود واللبان على النار فيبهر زائراته. وفي بعض الحالات يزودهن بخلطةٍ من مختلف الأعشاب البريِّة التي تنبت بجانب كوخه على سفح الجبل. الفكي (أَبَّكَر) يقول أن هذه الوصفة تمنحهن الطمأنينة وتبث في قلوبهن الثقة وتهديهن الثبات وبعض التصالح مع مدينتهن القاسية تلك. وهي لا تكلف كثيراً بضع جنيهات حسب ما يبين له من هيئة المريضة ولباسها وطريقة حديثها وأحياناً تكون الوصفة مجانية لمن يبين من هيئتهن الفقر المدقع وما أكثرهن. الفكي (أَبَّكَر) لا يعرف عن القاضي شيئاً سوى أنه الرجل الذي يرسل بالناس إلى المشنقة في بساطةٍ بالتوقيع على بعض الأوراق. لذا فلقد ظل الفكي (أَبَّكَر) يرتجف فرقاً طوال المحاكمة وهو يتتبع بنظراته الوجلة ما تخط يد القاضي. القاضي يضع على عينيه نظاراتٍ طبيةً تزيده وقاراً على وقاره وأمامه طائفةٌ من الكتب المقدسة، بعضها أنزله الله وبعضها أعدته الحكومة. يطالع القاضي في تلك الكتب بين لحظةٍ وأخرى مركزاً على صفحاتٍ معينة يقرأها في تأنٍ ثم يذهب إلى أخرى ليعود إلى الأولى من جديد مستغرقاً فيها والبوليس يحيط بالجميع من كل جانب شاك السلاح. المحامون والمستشارون يتيهون بلباسهم الرسمي الأسود وربطات العنق الأنيقة تتحرك مع حركاتهم الاستعراضية الغريبة فيبدون لعيني الفكي (أَبَّكَر) متشابهين في كل شيء ولا يدري أيهم العدو وأيهم الصديق. صحيفة (الفضيحة) تلتقط الكثير من الصور من مختلف الزوايا للفكي المنكود وهو في قفص الاتهام. يحاول (أَبَّكر) أن يغمض عينيه فلا يستطيع، يفكر أن يخفي وجهه بكلتا يديه فلا يجرؤ. الفكي (أَبَّكَر) لا يحب التصوير ولكنه لم يستطع الاعتراض فما دام أن القاضي يسمح لهم بتصويره فهم على حق، هكذا علمته الأيام العصيبة التي قضاها في حراسة الشرطة. محامي الفكي (أَبَّكَر) تكلم بصوتٍ جهوري متريث وهو يستعرض بنظراته وجوه الحاضرين وكأنه يقرأ مرافعته في أعينهم، ويمشي الهوينى في جنبات القاعة موقَّعاً خطواته المتمهلة على البلاط مستعيناً بيديه وعينيه في شرح ما يقول وأحياناً يهز رأسه نافياً أو مؤمِّناً بحسب الموقف. تكلم المحامي كثيراً باللغة العربية الفصحى وأحياناً كان يستعين ببعض العبارات من لغاتٍ أخرى حين يعجزه الوصف. الفكي (أَبَّكَر) لم يفهم من كلام محاميه شيئاً ولكن إعجابه بالرجل كان بلا حدود. بهره ذلك الصوت القوي والنبرة الواثقة التي يتحدث بها ذاك الرجل دون أن يخشى ذا العوينات الطبية ولا البوليس. العالمون ببواطن الأمور قالوا أن المحامي لم يقل شيئاً ذا بال. كان فقط يستعرض ملكاته الخطابية ويعرض نفسه أمام كاميرات مصوري صحيفة (الفضيحة) ولكن الفكي (أَبَّكَر) كان ممتناً للرجل الذي استطاع أن يتحدث إنابةً عنه وسط هذا الجمع المهيب دون أن يتلجلج.
...........................
الصفحات 25 – 29 من رواية (مرافعة الدكتور جادين الأخيرة)
 أم درمان ديسمبر 2007 – يوليو 2008م

مرافعة الدكتور (جادين) الأخيرة 1

نجوم ونجوم

يبدو سجن النساء بجدرانه الأثرية العتيقة التي يتجاوز عمرها المائتي عام وسوره الحجري الشاهق وقد قبع الحراس في أركانه الأربعة يراقبون كل شيء من علوٍ وكأنه حصنٌ عتيقٌ لأحد ملوك الزمان الماضي. يربض شرق المدينة القديمة على شط النيل الغربي تحيط به الشوارع الهادئة وتلفحه نسمات النيل حيناً فحين. هناك أودعت (نضال) ورفيقاتها.
داخل السجن أنماطٌ شتى من النساء، بعضهن في بياض الحليب وبعضهن في سواد الليل الشجي والبعض الآخر في منزلةٍ بين هاتين. زهراتٌ صغيراتٌ وأشجارٌ ناضجةُ الثمرات وعجائزٌ في خريف العمر جمع بينهن المكان رغم تباينهن حتى يخال الناظر أن جميع نساء المدينة أودعن هنا. 
فناءُ السجن باحة ٌمتسعة ٌ في رحابة ويُسمح للنزيلات بالجلوس فيه للثرثرة والسمر بعض الأحيان. الحياة في سجن النساء ليست جميلة ولكنها أحسن حالاً مما يدور بالخارج. النساء هنا يجمع بينهن الكثير، الإحساس الهائل بالغبن، الهموم المشتركة وشفافية الحزن. استطعن أن يقاومن الرتابة والملل بتبادل صناعة الفرح، ترديد الذكريات الطيبة والسفر عبر الخيال وخلق المفارقات وأحياناً بعض الدموع يغسلن بها قلوبهن المتعبة حين يدهمهن الضعف. يقضين جل وقتهن في الثرثرة وتبادل وجهات النظر حول ما يشغل تفكيرهن وهو الأطفال والزوج.
كانت الأيام الأولى دائما ما تكون موحشةً، حزينةً وقاسية، يضمخها الأسى وتخضبها الدموع ثم لا تلبث النزيلة بعد ذلك أن تعتاد على المكان وتوطن نفسها على هذا الأمر فتنتظم مع بقية المجموعة في صناعة الفرح.
كانت (ميري) بائعة (المريسة) أكثرهن مقدرةً على انتزاع الضحكات من رفيقاتها حين تحكي لهن نوادر زبائنها العجائز. (ميري) ليس لديها المال الكافي لتشتري البلح وتصنع العرقي لتربح الكثير من المال. البلح غال ٍ، تقول (ميري)، والبوليس يهرقه في النهر، لا داعي إذاً للمغامرة. (ميري) تكتفي فقط بصنع (المريسة) من الذرة التي لا تكلف كثيراً ولا تربح إلا القليل إذا لا يغشاها إلا العجائز الثرثارون ذوي الأيدي المقبوضة ولكن (ميري) كانت سعيدةً بهم تنفعل بقصصهم ونوادرهم وتعود لتحكيها للآخرين بإخراجٍ شيقٍ وتمثيلٍ مُتْقَنٍ.
(ميري) ترددت على هذا المكان كثيراً حتى ألفته وألفها وأقامت علاقةً طيبةً مع السَّجَّانات. ولم يكن السبب هو (المريسة) وحدها. البوليس دائماً ما يهاجم بيوت صديقاتها ويضبط كمياتٍ كبيرةً من عرقي البلح. و(ميري) ليس لديها زوجاً أو أطفالاً وفقيرة. لذا فهي مستعدةٌ دائماً لتحمل المسئولية والإقرار على نفسها أمام القاضي بصنع العرقي وملكيته والمتاجرة فيه، ذلك مقابل أجرٍ معلومٍ تدفعه رفيقاتها. القاضي استنتج ذلك من كثرة إقرارها على نفسها بالجرم ولكنه لم يعلق بشيء، فالقانون لا يمنحه هذا الحق وليس أمامه ما يفعله سوى أن يتقبل إقرار (ميري) ويرسلها إلى السجن ويرسل الأخريات إلى بيوتهن ليصنعن العرقي من جديد.
البوليس دائماً يضبط كمياتٍ كبيرةً من العرقي ويهرقه في النهر. (ميري) تقول أن (المريسة) لا تكلف الكثير من المال ولكن إهراق العرقي يسبب خسارةً فادحةً ويجعل عيون (لوجينا) تحمر مثل الشطة، و(لوشيا) ترغي وتزبد وتهدد وتتوعد وتقول أنها ستذهب في الصباح لتشكو البوليس للجيش الشعبي. ترد عليها (تريزا) في حزنٍ بأن هذه المدينة قد جعلت الجيش الشعبي بوليساً أيضاً. بينما تكون (أدوك) صامتةً تلك الليلة وحزينة.
البلح غالٍ، تقول (ميري). الجوال وصل إلى ثلاثمائة جنيه. عرب (حَقَّارِيِنْ) يبيعون لنا البلح بأسعارٍ باهظةٍ ثم يصادرونه بعد أن نتعب في صنعه ويهرقونه في النهر. فأين العدالة إذن؟! أين السودان الجديد؟! تحتج (ميري). ثم تلتفت نحو (نضال) لتسب لها الجميع بما فيهم الجيش الشعبي وتنفجر (نضال) في الضحك وتحاول أن تطيب خاطرها ببعض الكلمات. 
(حسنية رحَّال) جاءت إلى السجن بعد أن سرقت جوالاً من الدخن (الدامرقا). تضحك (حسنية) كثيراً وهي تقص على رفيقاتها كيف تمت السرقة. (حسنية) تقول أنها تحب عصيدة الدخن باللبن. (نضال) تقول لها أن قليلاً من الدخن كان يكفي لصنع العصيدة يا (حسنية) وليس جوالاً كاملاً. تغوص عينا الأخرى في الفضاء طويلاً ثم  ترد بقولها:
-  ابن (آدم) طَمَّاع، هكذا خلقه الله. وهكذا سيبقى إلى الأبد.
تحاول (حسنية) أن تشرح لهن كيف تم القبض عليها وكيف جرت محاكمتها. داهم البوليس منزلها عند الفجر وقام بتفتيشه. تضخم صوتها ثم تقفز أمامهن منتصبة القامة. تناولها السَّجَّانَةُ (خميسة كورينا) بندقيتها لتؤدي بها المشهد. السَّجَّانَةُ دائماً تعير بندقية الحكومة لـ(حسنية) عند تمثيل الأخيرة لهذا المشهد. السَّجَّانَةُ كانت تعلم أن هذا المشهد لن يكون شيِّقاً إلا بالبندقية. السَّجَّانَةُ تضحك كثيراً حتى تدمع عيناها. (حسنية) قادرةٌ كانت على إضحاك الجميع بما فيهم السَّجَّانَة. تمسك بالبندقية في قوةٍ وتشهرها في وجوههن وتصرخ بصوتٍ حاد:
-  أثبت مكانك. بوليس.
(حسنية) تقول أن البوليس لم يجد أثراً للدخن حيث أنها أخفته في منزل صديقتها (ست البنات) بعد أن تعشت هي وأطفالها منه ورغم ذلك فلقد قبض عليها. تقول (حسنية) أن عربة البوليس أطلقت (سرينتها) وهي تنطلق في الشوارع مسرعةً متوجهة بي إلى قسم الشرطة للتحقيق ورجال البوليس يحيطون بي وهم يحملون البنادق (كلاشنكوف). (حسنية) تقول:
-  كنت أخشى أن يحيلوني إلى الكشف الطبي!
 تتساءل (ميري) وهي ترفع حاجبيها دهشةً:
-  (حسنية). هل كنتِ سكرانة؟!
فتنفجر (حسنية) في ضحكةٍ طويلةٍ تستغفر بعدها الله ثم ترد على صديقتها بقولها:
-  وهل نسيتِ أنني تعشيتُ بعصيدة الدخن وأنهم سيرونه داخل بطني إذا استعملوا بعض الأجهزة الحديثة؟!
فتنفجر النساء جميعهن ضاحكات.
ثم أحيلت (حسنية) إلى النيابة العامة والتي وجهت الشرطة بإعادة استجواب شهود الاتهام. ثم حولوها إلى المحكمة. وكيل النيابة رأى أن هنالك بينة مبدئية لتوجيه اتهام تحت الماددة 174 من القانون الجنائي للدولة. ومثلت (حسنية) أمام قاضٍ وقورٍ اتهمها إنابةً عن حكومة الجمهورية بسرقة جوالٍ من الدخن (الدامرقا).
تضيق عينا (حسنية) أكثر. رنة حزنٍ شفيفٍ تسربل صوتها وهي تعلق قائلة:
-   الأمر لم يكن يستحق كل هذه الضجة. صاحب الجوال تاجرٌ ميسور الحال وبمخزنه تسعة جوالات أخرى من الدخن.
وحين لا تعلق أي من رفيقاتها بشيء ترفع (حسنية) عينيها نحوهن لتضيف:
-  ابن (آدم) طماع ولا يملأ عينيه إلا التراب.
وكيل النيابة الجنائية شابٌ نشطٌ مخلصٌ في عمله وقد أصر على تمثيل الاتهام أمام المحكمة بنفسه كما استعان صاحب الجوال أيضاً بأحد المحامين الكبار. تقول (حسنية): صاحب الجوال قال أنه لا يثق في قدرات محامي الحكومة، لذا أحضر ذاك المحامي الضليع ليترافع أيضاً ويضم جهوده إلى جهود محامي الحكومة. وفي الجانب الآخر تطوع المدافعون عن حقوق الانسان من محامين وإعلاميين وشعراء للدفاع عن المتهمة ومساندتها كل حسب تخصصه.
(حسنية) فوجئت بكل هذا الصخب فبدا لها أن تريح وتستريح فأقرت على نفسها بسرقة جوال الدخن (الدامرقا) مما أصاب المحامين بالإحباط فمزقوا مرافعاتهم البليغة وحملوا حقائبهم الضخمة وخرجوا من قاعة المحكمة وهم يسبون ويلعنون.
(حسنية) تضحك كثيراً حين تختم قصتها. ثم تشخص ببصرها نحو السماء وهي تضم ركبتيها إلى صدرها وتغرق في التفكير العميق بينما تنشغل رفيقاتها بسماع حكايةٍ أخرى لزميلةٍ جديدة.
الصفحات 51 - 57 من رواية مرافعة الدكتور جادين الأخيرة
ديسمبر 2007م يوليو 2008م - أم درمان