الفكي (أَبَّكَر) يحلف بالطلاق
أوصاه أبوه بالبعد عن أبواب الملوك والسلاطين وعدم التدخل في شئون الممالك
والدول لأي سببٍ كان، لا ناصحاً مشفقاً ولا ثائراً مصلحاً. قال: (يا بني من
شَادَّ أولي الأمر غلبوه، وبالباطل دمغوه، وإن جاءهم بالحق مسنودا ومعه
الملائكة شهودا، وهو كناطح صخرةٍ يُدمي قرنَهُ دون أن يُظهر أمرَهُ. فاحذر
ولاة الأمور، سلاطين دار الغرور تعش في سلامٍ موفور. وإن وجدت سبيلاً
لأعمالٍ صالحاتٍ فلتفعل لعامة الرعية وأوباش الناس ولكن بعيداً عن أعين
المحتسب وآذان صاحب الشرطة).
قال الراوي: حدث ذلك قبل نحو مائتي عام مضين، وعشرين عقداً توارين وكان الفكي (أَبَّكَر) حينها شاباً جلداً يمتلئ قلبه شجاعةً وحزماً وعقله فهماً ودرايةً، وكان يتجول ذاك الصباح في سوق (أم درمان) الكبير وهو يتأبط رواية (مائة عام من العزلة) وقد اختمر في عقله مقالا حول "جدلية المركز والهامش". وكان أن مر موكب الخليفة شاك السلاح مشرع الرماح والناس فرحة مستبشرة تهتف بسقوط (بريطانيا) وأسرة الباشا (محمد علي) وقد رفعوا الرايات وصور الإمام (المهدي) وخلفائه الأربعة يلوحون بها مفاخرين يحدوهم الأمل في غد ٍ مشرق يعم فيه الرخاء ويسقط الغلاء. قال الراوي: وكان (أّبَّكَر) حينها ممتلئاً بالسر، فلم يقدِّر خطورة الأمر، ففاض وأنشد والعبرات تخنق صوته: (يا أخوتي الذين يعبرون الميدانَ في انحناءْ ... منحدرين في نهاية المساءْ ... لا تحلموا بعالمٍ سعيدْ ... فخلف كلِّ قيصرٍ يموتُ، قيصرٌ جديدْ ... وخلف كلِّ ثائرٍ أحزانٌ بلا جدوى ودمعةٌ سدى..!).
وكان أن سمعه أحد جنود الدولة الجديدة فأسرع يرفع كتاباً مفصلاً إلى خليفتهم بالأمر وهو (عبد الله ولد تورشين) ويلقبونه بخليفة (الصِّدِّيق أبي بكر). تضمن الكتاب شرحاً وافياً لمعنى ذاك الشعر من كلام العرب وموقعه في سياسة السلطنة وأمور الرعية. فصدر الأمر بالقبض على (أَبَّكَر) حياً أو ميتاً وعممت صورته على كل المخافر ونقاط التفتيش، وأجريت الخيل لتبحث عن الشاب المنكود. قال الراوي: حدثني الأمين الصدوق قال: إن التعليمات السرية التي أصدرها الخليفة لفرق المطاردة تقضي بقتل (أَبَّكَر) بمجرد رؤيته.
فتنكر الفكي (أَبَّكَر) في ثياب امرأةٍ عجوزٍ وركب حمارته حمامية اللون وأسرع يصل الليل بالنهار، حتى وصل إلى (باريس) حيث أجرى عدة عمليات تجميلية غيرت في هيئته وشكله ثم قفل راجعا ً إلى (أم درمان) واتخذ له كوخا ً قرب جبل (المرخيات) ونأى بنفسه عن الناس وشرورهم منقطعا للعبادة والذكر لمائتي عام حسوما. ولكن الحذر لا ينجي من القدر وها هو الفكي المنكود يمثل أمام القاضي في القاعة الكبرى بمبنى القضاء متهما ً بممارسة الدجل والشعوذة والنصب على البسطاء.
الفكي (أَبَّكَر) لم يردد أشعار (أمل دنقل) منذ أن أهدر الخليفة (عبد الله ولد تورشين) دمه. ظل مسالماً مهادناً يراقبهم وهم يفعلون كل شيء ولا يفعلون شيئاً. يراهم يتعاركون وهم يتحدثون باسمه فلم يخطِّئ منهم أحداً ولم يهلل لأحد. وحينما يضيق الحال ويصل القوم إلى الطريق المسدود وتهدر الدبابات متجهةً صوب القصر، لا يدعو لها بالهزيمة أو النصر، ولا يزيد الفكي (أَبَّكَر) على أن يحوقل، ويدعو الله أن يولي على عباده من يصلح، وهذا ما لم يكن يحدث أبداً. كانوا يفعلون كل شيء من وراء ظهره فما ذنبه إذا ً؟! فلتعثر بغال (البحر الأحمر) جميعها وتدق أعناقها ولتنطبق السماء على الأرض في (دارفور) فهذا ليس من شأنه، إن التحدث في مثل هذه الأمور يمس السياسة العليا للدولة ولا يرضي ولاة الأمر وسيعدونه تدخلاً سافراً في شئونهم وهو أكبر من قدراته المحدودة وباعه القصير ولكنه لن يقف متفرجاً على طوابير الحزانى والمحرومين من عامة الشعب، وليس هنالك محزون محروم وضعيف مثل النساء، لذا فلقد آل (الفكي أَبَّكر) على نفسه أن يهون عليهن ما استطاع إلى ذلك سبيلا كما أوصاه والده قبل مائتي عامٍ مضين. سيخفف عنهن بعض الذي يجدن بما علمه الله. الله لم يعلِّم الفكي (أَبَّكَر) شيئا إذ أن بيع الوهم ليس مما يعلمه الله للبشر وهو لا يحتاج لمعرفةٍ ودرايةٍ إلهيةٍ فهو سهلٌ ميسورٌ في مدينة الأمنيات الخائبة والخطوات الشائهة والمشعوذين الكبار. الفكي (أَبَّكَر) يحتاج لمطعمٍ طازجٍ وملبسٍ ناعمٍ وفرشٍ لين كبقية خلق الله ولكنه لم يفكر في ذلك، علمته تجاربه أن مثل هذه المطالب تغضب أولي الأمر وعواقبها وخيمة، لذا اكتفى بالجنيهات القليلة التي تنفحه بها زائراته. يحلف الفكي (أَبَّكَر) بالطلاق أنه لم يقابل في حياته جاناً مسلماً، حكومةً أو معارضة. ولا جاناً ذمياً، معاهداً أو محارباً. ولو حدث أن قابل أحدهم لأطلق ساقيه للريح. فكيف تقول صحيفة (الفضيحة) أنه يتعاون مع الجان الكافر؟! صحيح أنه تحت ضرب السياط اعترف على نفسه بالتعاون مع الجان. ولكن لكي يكسب عطف الحكومة أصر على أن ذاك الجان مسلمٌ أباً عن جد وأسرته متدينةٌ، فتياتها منقباتٌ وجميعُ الذكور فيها ملتحون، فلماذا لم تورد صحيفة (الفضيحة) أقواله تلك حتى يطَّلع عليها ولاة الأمر ويتعاطفون معه؟!. الفكي (أَبَّكَر) لم يكن يعرف أولئك الفتيات من قبل وهن اللائي سعين إليه في كوخه عند سفح الجبل يطلبن العون حين ضاقت بهن المدينة وما على الفكي (أَبَّكَر) إلا أن يردد بعض الأسماء الشائعة مثل (محمد) و(عبد الله) و(زينب) و(حسن) و(فاطمة) بعدها ستدله المريضة بنفسها على من سَحَرَها أو (عمل لها عملاً) من هؤلاء بحسب الحال. يتمتم الفكي (أَبَّكَر) بلغةٍ لا تبين ويضع العود واللبان على النار فيبهر زائراته. وفي بعض الحالات يزودهن بخلطةٍ من مختلف الأعشاب البريِّة التي تنبت بجانب كوخه على سفح الجبل. الفكي (أَبَّكَر) يقول أن هذه الوصفة تمنحهن الطمأنينة وتبث في قلوبهن الثقة وتهديهن الثبات وبعض التصالح مع مدينتهن القاسية تلك. وهي لا تكلف كثيراً بضع جنيهات حسب ما يبين له من هيئة المريضة ولباسها وطريقة حديثها وأحياناً تكون الوصفة مجانية لمن يبين من هيئتهن الفقر المدقع وما أكثرهن. الفكي (أَبَّكَر) لا يعرف عن القاضي شيئاً سوى أنه الرجل الذي يرسل بالناس إلى المشنقة في بساطةٍ بالتوقيع على بعض الأوراق. لذا فلقد ظل الفكي (أَبَّكَر) يرتجف فرقاً طوال المحاكمة وهو يتتبع بنظراته الوجلة ما تخط يد القاضي. القاضي يضع على عينيه نظاراتٍ طبيةً تزيده وقاراً على وقاره وأمامه طائفةٌ من الكتب المقدسة، بعضها أنزله الله وبعضها أعدته الحكومة. يطالع القاضي في تلك الكتب بين لحظةٍ وأخرى مركزاً على صفحاتٍ معينة يقرأها في تأنٍ ثم يذهب إلى أخرى ليعود إلى الأولى من جديد مستغرقاً فيها والبوليس يحيط بالجميع من كل جانب شاك السلاح. المحامون والمستشارون يتيهون بلباسهم الرسمي الأسود وربطات العنق الأنيقة تتحرك مع حركاتهم الاستعراضية الغريبة فيبدون لعيني الفكي (أَبَّكَر) متشابهين في كل شيء ولا يدري أيهم العدو وأيهم الصديق. صحيفة (الفضيحة) تلتقط الكثير من الصور من مختلف الزوايا للفكي المنكود وهو في قفص الاتهام. يحاول (أَبَّكر) أن يغمض عينيه فلا يستطيع، يفكر أن يخفي وجهه بكلتا يديه فلا يجرؤ. الفكي (أَبَّكَر) لا يحب التصوير ولكنه لم يستطع الاعتراض فما دام أن القاضي يسمح لهم بتصويره فهم على حق، هكذا علمته الأيام العصيبة التي قضاها في حراسة الشرطة. محامي الفكي (أَبَّكَر) تكلم بصوتٍ جهوري متريث وهو يستعرض بنظراته وجوه الحاضرين وكأنه يقرأ مرافعته في أعينهم، ويمشي الهوينى في جنبات القاعة موقَّعاً خطواته المتمهلة على البلاط مستعيناً بيديه وعينيه في شرح ما يقول وأحياناً يهز رأسه نافياً أو مؤمِّناً بحسب الموقف. تكلم المحامي كثيراً باللغة العربية الفصحى وأحياناً كان يستعين ببعض العبارات من لغاتٍ أخرى حين يعجزه الوصف. الفكي (أَبَّكَر) لم يفهم من كلام محاميه شيئاً ولكن إعجابه بالرجل كان بلا حدود. بهره ذلك الصوت القوي والنبرة الواثقة التي يتحدث بها ذاك الرجل دون أن يخشى ذا العوينات الطبية ولا البوليس. العالمون ببواطن الأمور قالوا أن المحامي لم يقل شيئاً ذا بال. كان فقط يستعرض ملكاته الخطابية ويعرض نفسه أمام كاميرات مصوري صحيفة (الفضيحة) ولكن الفكي (أَبَّكَر) كان ممتناً للرجل الذي استطاع أن يتحدث إنابةً عنه وسط هذا الجمع المهيب دون أن يتلجلج.
...........................
الصفحات 25 – 29 من رواية (مرافعة الدكتور جادين الأخيرة)
قال الراوي: حدث ذلك قبل نحو مائتي عام مضين، وعشرين عقداً توارين وكان الفكي (أَبَّكَر) حينها شاباً جلداً يمتلئ قلبه شجاعةً وحزماً وعقله فهماً ودرايةً، وكان يتجول ذاك الصباح في سوق (أم درمان) الكبير وهو يتأبط رواية (مائة عام من العزلة) وقد اختمر في عقله مقالا حول "جدلية المركز والهامش". وكان أن مر موكب الخليفة شاك السلاح مشرع الرماح والناس فرحة مستبشرة تهتف بسقوط (بريطانيا) وأسرة الباشا (محمد علي) وقد رفعوا الرايات وصور الإمام (المهدي) وخلفائه الأربعة يلوحون بها مفاخرين يحدوهم الأمل في غد ٍ مشرق يعم فيه الرخاء ويسقط الغلاء. قال الراوي: وكان (أّبَّكَر) حينها ممتلئاً بالسر، فلم يقدِّر خطورة الأمر، ففاض وأنشد والعبرات تخنق صوته: (يا أخوتي الذين يعبرون الميدانَ في انحناءْ ... منحدرين في نهاية المساءْ ... لا تحلموا بعالمٍ سعيدْ ... فخلف كلِّ قيصرٍ يموتُ، قيصرٌ جديدْ ... وخلف كلِّ ثائرٍ أحزانٌ بلا جدوى ودمعةٌ سدى..!).
وكان أن سمعه أحد جنود الدولة الجديدة فأسرع يرفع كتاباً مفصلاً إلى خليفتهم بالأمر وهو (عبد الله ولد تورشين) ويلقبونه بخليفة (الصِّدِّيق أبي بكر). تضمن الكتاب شرحاً وافياً لمعنى ذاك الشعر من كلام العرب وموقعه في سياسة السلطنة وأمور الرعية. فصدر الأمر بالقبض على (أَبَّكَر) حياً أو ميتاً وعممت صورته على كل المخافر ونقاط التفتيش، وأجريت الخيل لتبحث عن الشاب المنكود. قال الراوي: حدثني الأمين الصدوق قال: إن التعليمات السرية التي أصدرها الخليفة لفرق المطاردة تقضي بقتل (أَبَّكَر) بمجرد رؤيته.
فتنكر الفكي (أَبَّكَر) في ثياب امرأةٍ عجوزٍ وركب حمارته حمامية اللون وأسرع يصل الليل بالنهار، حتى وصل إلى (باريس) حيث أجرى عدة عمليات تجميلية غيرت في هيئته وشكله ثم قفل راجعا ً إلى (أم درمان) واتخذ له كوخا ً قرب جبل (المرخيات) ونأى بنفسه عن الناس وشرورهم منقطعا للعبادة والذكر لمائتي عام حسوما. ولكن الحذر لا ينجي من القدر وها هو الفكي المنكود يمثل أمام القاضي في القاعة الكبرى بمبنى القضاء متهما ً بممارسة الدجل والشعوذة والنصب على البسطاء.
الفكي (أَبَّكَر) لم يردد أشعار (أمل دنقل) منذ أن أهدر الخليفة (عبد الله ولد تورشين) دمه. ظل مسالماً مهادناً يراقبهم وهم يفعلون كل شيء ولا يفعلون شيئاً. يراهم يتعاركون وهم يتحدثون باسمه فلم يخطِّئ منهم أحداً ولم يهلل لأحد. وحينما يضيق الحال ويصل القوم إلى الطريق المسدود وتهدر الدبابات متجهةً صوب القصر، لا يدعو لها بالهزيمة أو النصر، ولا يزيد الفكي (أَبَّكَر) على أن يحوقل، ويدعو الله أن يولي على عباده من يصلح، وهذا ما لم يكن يحدث أبداً. كانوا يفعلون كل شيء من وراء ظهره فما ذنبه إذا ً؟! فلتعثر بغال (البحر الأحمر) جميعها وتدق أعناقها ولتنطبق السماء على الأرض في (دارفور) فهذا ليس من شأنه، إن التحدث في مثل هذه الأمور يمس السياسة العليا للدولة ولا يرضي ولاة الأمر وسيعدونه تدخلاً سافراً في شئونهم وهو أكبر من قدراته المحدودة وباعه القصير ولكنه لن يقف متفرجاً على طوابير الحزانى والمحرومين من عامة الشعب، وليس هنالك محزون محروم وضعيف مثل النساء، لذا فلقد آل (الفكي أَبَّكر) على نفسه أن يهون عليهن ما استطاع إلى ذلك سبيلا كما أوصاه والده قبل مائتي عامٍ مضين. سيخفف عنهن بعض الذي يجدن بما علمه الله. الله لم يعلِّم الفكي (أَبَّكَر) شيئا إذ أن بيع الوهم ليس مما يعلمه الله للبشر وهو لا يحتاج لمعرفةٍ ودرايةٍ إلهيةٍ فهو سهلٌ ميسورٌ في مدينة الأمنيات الخائبة والخطوات الشائهة والمشعوذين الكبار. الفكي (أَبَّكَر) يحتاج لمطعمٍ طازجٍ وملبسٍ ناعمٍ وفرشٍ لين كبقية خلق الله ولكنه لم يفكر في ذلك، علمته تجاربه أن مثل هذه المطالب تغضب أولي الأمر وعواقبها وخيمة، لذا اكتفى بالجنيهات القليلة التي تنفحه بها زائراته. يحلف الفكي (أَبَّكَر) بالطلاق أنه لم يقابل في حياته جاناً مسلماً، حكومةً أو معارضة. ولا جاناً ذمياً، معاهداً أو محارباً. ولو حدث أن قابل أحدهم لأطلق ساقيه للريح. فكيف تقول صحيفة (الفضيحة) أنه يتعاون مع الجان الكافر؟! صحيح أنه تحت ضرب السياط اعترف على نفسه بالتعاون مع الجان. ولكن لكي يكسب عطف الحكومة أصر على أن ذاك الجان مسلمٌ أباً عن جد وأسرته متدينةٌ، فتياتها منقباتٌ وجميعُ الذكور فيها ملتحون، فلماذا لم تورد صحيفة (الفضيحة) أقواله تلك حتى يطَّلع عليها ولاة الأمر ويتعاطفون معه؟!. الفكي (أَبَّكَر) لم يكن يعرف أولئك الفتيات من قبل وهن اللائي سعين إليه في كوخه عند سفح الجبل يطلبن العون حين ضاقت بهن المدينة وما على الفكي (أَبَّكَر) إلا أن يردد بعض الأسماء الشائعة مثل (محمد) و(عبد الله) و(زينب) و(حسن) و(فاطمة) بعدها ستدله المريضة بنفسها على من سَحَرَها أو (عمل لها عملاً) من هؤلاء بحسب الحال. يتمتم الفكي (أَبَّكَر) بلغةٍ لا تبين ويضع العود واللبان على النار فيبهر زائراته. وفي بعض الحالات يزودهن بخلطةٍ من مختلف الأعشاب البريِّة التي تنبت بجانب كوخه على سفح الجبل. الفكي (أَبَّكَر) يقول أن هذه الوصفة تمنحهن الطمأنينة وتبث في قلوبهن الثقة وتهديهن الثبات وبعض التصالح مع مدينتهن القاسية تلك. وهي لا تكلف كثيراً بضع جنيهات حسب ما يبين له من هيئة المريضة ولباسها وطريقة حديثها وأحياناً تكون الوصفة مجانية لمن يبين من هيئتهن الفقر المدقع وما أكثرهن. الفكي (أَبَّكَر) لا يعرف عن القاضي شيئاً سوى أنه الرجل الذي يرسل بالناس إلى المشنقة في بساطةٍ بالتوقيع على بعض الأوراق. لذا فلقد ظل الفكي (أَبَّكَر) يرتجف فرقاً طوال المحاكمة وهو يتتبع بنظراته الوجلة ما تخط يد القاضي. القاضي يضع على عينيه نظاراتٍ طبيةً تزيده وقاراً على وقاره وأمامه طائفةٌ من الكتب المقدسة، بعضها أنزله الله وبعضها أعدته الحكومة. يطالع القاضي في تلك الكتب بين لحظةٍ وأخرى مركزاً على صفحاتٍ معينة يقرأها في تأنٍ ثم يذهب إلى أخرى ليعود إلى الأولى من جديد مستغرقاً فيها والبوليس يحيط بالجميع من كل جانب شاك السلاح. المحامون والمستشارون يتيهون بلباسهم الرسمي الأسود وربطات العنق الأنيقة تتحرك مع حركاتهم الاستعراضية الغريبة فيبدون لعيني الفكي (أَبَّكَر) متشابهين في كل شيء ولا يدري أيهم العدو وأيهم الصديق. صحيفة (الفضيحة) تلتقط الكثير من الصور من مختلف الزوايا للفكي المنكود وهو في قفص الاتهام. يحاول (أَبَّكر) أن يغمض عينيه فلا يستطيع، يفكر أن يخفي وجهه بكلتا يديه فلا يجرؤ. الفكي (أَبَّكَر) لا يحب التصوير ولكنه لم يستطع الاعتراض فما دام أن القاضي يسمح لهم بتصويره فهم على حق، هكذا علمته الأيام العصيبة التي قضاها في حراسة الشرطة. محامي الفكي (أَبَّكَر) تكلم بصوتٍ جهوري متريث وهو يستعرض بنظراته وجوه الحاضرين وكأنه يقرأ مرافعته في أعينهم، ويمشي الهوينى في جنبات القاعة موقَّعاً خطواته المتمهلة على البلاط مستعيناً بيديه وعينيه في شرح ما يقول وأحياناً يهز رأسه نافياً أو مؤمِّناً بحسب الموقف. تكلم المحامي كثيراً باللغة العربية الفصحى وأحياناً كان يستعين ببعض العبارات من لغاتٍ أخرى حين يعجزه الوصف. الفكي (أَبَّكَر) لم يفهم من كلام محاميه شيئاً ولكن إعجابه بالرجل كان بلا حدود. بهره ذلك الصوت القوي والنبرة الواثقة التي يتحدث بها ذاك الرجل دون أن يخشى ذا العوينات الطبية ولا البوليس. العالمون ببواطن الأمور قالوا أن المحامي لم يقل شيئاً ذا بال. كان فقط يستعرض ملكاته الخطابية ويعرض نفسه أمام كاميرات مصوري صحيفة (الفضيحة) ولكن الفكي (أَبَّكَر) كان ممتناً للرجل الذي استطاع أن يتحدث إنابةً عنه وسط هذا الجمع المهيب دون أن يتلجلج.
...........................
الصفحات 25 – 29 من رواية (مرافعة الدكتور جادين الأخيرة)
أم درمان ديسمبر 2007 – يوليو 2008م
مرحبا اخي الفاضل محمد~خير ان شاءالله ~ غيبتك طالت..؟ اتمني تعود قريبآ وتنور القوقل بروائعك الجميلة~لك التحية
ردحذف