بقيادة الحامية العسكرية الوسطى تعالت في تلك الأمسية القهقهات الصاخبة والصيحات القوية من ثكنة (مصعب بن عمير) والتي يشغلها ضباط صف وجنود سلاح
المدفعية فلقد كان الجميع يحتفلون بترقية زميلهم وكيل عريف مدفعجي (فارس الكلنكيت)
إلى رتبة العريف. كانت من اللحظات النادرة التي يجتمع فيها أفراد الكتيبة من مختلف الرتب
بعيدا ً عن أجواء العمل الرسمية الباردة ليحتفلوا معا ً. أخذوا يتبادلون الطرف
والمـُلح وبعض ذكريات الحرب وقد علت أصواتهم في حبور. وكان الصول مدفعجي (عبد الله
المانجل) والذي يقترب من سن المعاش بخطوات حثيثة يرتشف مشروبه الغازي بتأفف وهو
يدير عينيه الثاقبتين في ما حوله محنقا ً. ثم بدا له أن يردد لازمته المشهورة في
مثل هذا الموقف فقال:
- آخر زمن. الجيش أصبح زي الحريم ما يشرب إلا البيبسي ..!
قالها
ليعم الصمت أرجاء العنبر الواسع ثم أضاف قائلا ً وهو يحرك عصاه الصغيرة في الهواء
يمينا ً ويسارا ً وكأنه يهش بها شيئا ً غير منظور:
- شركة يهودية معروفة. لكن ما في
زول يقدر يتكلم. آخر زمن ..!
وكان الجميع يعلمون أن موقف حضرة الصول من مشروب
البيبسي لا علاقة له بما يشاع عن مصدره وإنما يرتكز على حنين الرجل لمشروبات
أخرى حل البيبسي محلها في الحفلات الخاصة والعامة في السنوات الأخيرة بعد أن أصبح
تناولها جريمة يعاقب عليها القانون، ولكن أي من ضباط الصف والجنود لم يعقـِّب على ذاك
القول احتراما ً لرتبة قائله كما تقضي القوانين العسكرية. الرقيب (جعفر
الحسين) رغم أنه أدنى رتبة من (المانجل) إلا أن لحيته الكثة التي تدل على قربه من القيادة
العليا للجيش وصانعي القرار تمنحه الجرأة دائما ً على مقاطعته ومعارضة أفكاره الهدامة كما
يسميها ولكنه لم يفعلها هذه المرة ربما احتراما ً للاحتفال وصاحبه فلقد كان (فارس الكلنكيت)
من المشهود لهم بالشجاعة والإقدام وأنقذت جسارته وسرعة بديهته زملاءه من الموت
والأسر في الحرب عدة مرات. ظلوا يتسامرون في حبور لبعض الوقت ثم انفرط عقدهم ليتحلق البعض حول طاولة الدومينو والبعض الآخر حول الكوتشينة واكتفت البقية بالتفرج على المتبارين بينما انسحب الرقيب (جعفر الحسين) من الحفل بعد أن ألقى على الجميع موعظة حول علاقة الكوتشينة بالشيطان والماسونية واليهود والنصارى والشيوعية.
وما كادت عقارب الساعة تقترب من الثامنة حتى أسرع (فارس) مغادرا ً مقر
الكتيبة متوجها ً إلى قشلاق البوليس والذي يقع قريبا ً من قيادة الحامية لا يفصل
بينهما سوى الجدول الصغير الذي يروي مزرعة الجيش. تخطى الشاب الجدول قفزا ً ثم سار نحو وجهته ومشاعره بركان ٌ هادر. كان ممتلئا ً بها حتى القلق وبه
توق لا يبلى لرؤياها. وجدها تنتظره شرق القشلاق وقد اسندت ظهرها على جذع الشجرة
الضخم المطلة على القشلاق والبدر أمام وجهها يضفي عليها غموضا ً ومهابة وقد غاصت
عيناها في الفضاء البعيد وكأنها تناجي السماء. كانت (شيماء) غائبة عن كل ما حولها
وهي ترنو إلى السماء بتلك النظرة التائهة. اقترب (فارس) من محبوبته ذات التسعة عشر
ربيعا ً بخطوات حذرة ثم دنا من عنقها حتى غمرتها أنفاسه وكادت شفتاه تلامسان أذنها
وهمس فجأة ً:
- مبروك ..!
أطلقت الفتاة صرخة ً حادة ً افزعت الشاب نفسه. ثم تمالكت نفسها لتستدير وتواجهه
لاهثة الأنفاس. أخذت تحدق فيه برعب. أضاعت الكثير من الوقت لتستوعب ما حدث ثم
تخاطبه بقولها :
- (فارس). خلعتني. الله يجازيك ..!
- الترقية يا (شيماء) ... الترقية ... الحمد
لله. اترقينا ..!
استعماله لضمير الجمع جعل الرعشة الحلوة تنتظم جسدها، أحست
الفتاة في تلك اللحظة أن قلبها سيطفر من بين ضلوعها فجأة ً ليعانق وجه الحبيب.
خاطبته بصوت مهموس وهي تطرق إلى الأرض :
- الحمد لله. يعني خلاص ؟!
- أيوه خلاص. ح
أجيء أخطبك الأسبوع الجاي.
قالها وهو يحتضن كفها بين كفيه ثم تغوص عيناه عميقا ً
في عينيها. كان قد وعدها منذ أكثر من عام بأنه سيتقدم لخطبتها حين يتم ترقيته
إلى رتبة العريف. كان يقول لها ليس من الأدب أن يتقدم وكيل عريف لخطبة ابنة رقيب
أول مثلها ومن الخير لها وله أن ينتظر قليلا ً حتى تتم ترقيته.
وما لبثا إلا هنيهة ً في مناجاتهما الصامتة حتى علا الصوت الأجش من خلفهما هاتفا ً:
- انتباه. اثبت
مكانك يا مدفعجي يا قليل الحيا ..!
والتفت العاشقان نحو مصدر الصوت وقد أخذتهما البغتة. ليجدا
العريف شرطة (عبد المجيد دلدوم) يرمقهما باستنكار. والذي
واصل حديثه وهو يقترب منهما بخطوات بطيئة وموقعة تنذر بالشر:
- قشلاق الشرطة ليهو
حرمته يا وكيل عريف مدفعجي. وبنات الشرطة ما يقدر زول يقرِّب منهن أبدا ً مهما كان.
خليك من وكيل عريف جيش جاهل زيك.
- أملأ يمينك يا بوليس. علي الطلاق بعد عقد، أصغر مجند
عندنا في الجيش أعظم من مديرك العام يا
كـُهـْـنـَة ْ يا دلقان.
انفجر (فارس الكلنكيت) بهذه العبارة بعد أن ذهب عنه وقع المفاجأة وهو يشمر عن ساعديه
استعدادا ً للعراك. وما كان من الرقيب (دلدوم) إلا أن أمسك بصافرته ونفخ فيها وفي
الحال برز سبعة من رجال الشرطة انهالوا على (الكلنكيت) لكما ً وركلا ً حتى أغمي
عليه ثم اقتادوا الفتاة إلى منزل والدها بقشلاق الشرطة وهي تبكي وتنوح.
حين وصل
الخبر إلى كتيبة المدفعية زلزلت الأرض زلزالها أطلقت الضابط النوبتشي صفارات
"الكبسة" ليسرع الجميع إلى أرض الميدان بكامل عدتهم وعتادهم ويصطفوا مشكلين قلعة مهيبة انتظارا
للأوامر. وخطب فيهم الصول (عبد الله المانجل) وشرح ما حدث في عبارات مؤثرة ثم ختم
حديثه قائلا ً:
- آخر زمن. البوليس يرفع عينه على الجيش. علي الطلاق، بوت أصغر عسكري
عندنا بي رسينهم أولاد الـ .... لكن الليلة يشوفوا شعاع.
والتهب حماس الجنود بعد هذه العبارة لتطول صيحاتهم عنان السماء.
الرقيب (جعفر الحسين) حذر زملاءه من العصي الكهربية التي
تستعملها الشرطة في مثل هذه الأحوال ليقاطعه (المانجل) هاتفا ً:
- عصي شنو يا رقيب؟!
الليلة يوم الرجال. الليلة يوم الرصاص الحي. تعليمات يا جيش. زخيرة حية. أضرب في
المليان.
قالها ليهتف الجميع بصوت ٍ مزلزل:
- تمام سعادتك.
وما هي إلا دقائق معدودة
حتى حاصرت كتيبة المدفعية قسم الشرطة ثم انهالوا على المبنى بالرصاص في سخاء حاتمي. ويبدو أن رجال البوليس كانوا يتوقعون هذا الهجوم وأعدوا له عدته إذ أخذت
قنابل الغاز المسيل للدموع تنهمر وسط صفوف المهاجمين من خلال النوافذ مع سيل من الشتائم المقذعة. رجال
الجيش فوجئوا بالتأثير الحارق لهذا السلاح الذي لم يختبروه من قبل فانسحبوا بعد
حين ليرتبوا صفوفهم استعدادا ً لجولة أخرى وهم يسعلون ويعطسون وأنوفهم وأعينهم تجري مدرارا فتغيم المرئيات أمام ناظريهم فلا يدرون صرفا ً ولا عدلا. وشوهد الصول (عبد
الله المانجل) يعدو نحو قيادة الكتيبة وهو يردد سبابا ً بذيئا ً. ولم تنقض سوى لحظات حتى عاد وهو يقود
المجنزرة 55 لتتعالى الصحيات الحماسية من جنوده وهم يلوحون له مهنئين وقفز الرقيب (جعفر الحسين) إلى الدبابة
وهو يكبِّر الله ليختفي داخلها إلى جانب قائده ومن ثم تنهال القنابل الضخمة على مبنى الشرطة وتدكه
دكا ً. وكأنما كان بقية الجنود ينتظرون مثل هذه الإشارة إذا هرول الجميع إلى قيادة
الكتيبة مسرعين ولم تمض سوى دقائق معدودة حتى أحيط مبنى الشرطة بمختلف الأسلحة
الثقيلة من مجنزرات وكومندرات وراجمات ومدافع لم يرها الناس من قبل ولا يعرفون لها اسما ً. وأخذت
القنابل تنهال على قسم الشرطة والمباني
المجاورة. البوليس أسرع يخلي المبنى وينسحب أفراده مهرولين بعد أن فتحوا أبواب
الحراسات وأطلقوا سراح السجناء. وما هي إلا دقائق حتى أصبح قسم الشرطة وما يحيط به
من مبان ٍ أثرا ً بعد عين فلقد سوى به الجيش الأرض. ثم انصرفوا إلى قيادتهم وهم يهللون ويكبرون ويرددون الأناشيد الطلابية التي تذم البوليس وتسخر من أفراده.
ولم يكن لهذه الأحداث أن تمضي دون نكير
فبعد عدة أيام أوردت الصحف أن كل أفراد الكتيبة قد أحيلوا إلى محاكمات عسكرية
أوقعت بحقهم عقوبات متفاوتة. ولكن الكثيرين ممن لهم علاقة شخصية بالجنود يقولون أن تلك المحاكمات
كانت صورية لم ينفذ أي من أحكامها. آخرون يقولون أن سعادة القائد العام قد منح كل أفراد
الكتيبة ترقيات استثنائية. ولكن الثابت للجميع أن العريف مدفعجي (فارس الكلنكيت)
قد تم نقله إلى القيادة العامة للجيش في عاصمة البلاد برتبة ملازم ليتخطى ثلاث
رتب دفعة واحدة ويصبح في سلك الضباط. كما أحيل الصول (عبد الله المانجل) إلى المعاش
لبلوغه السن القانونية برتبة رائد متخطيا ً ثلاث رتب أيضا ً ومنح وسام الفروسية من الطبقة
الأولى ووسام الخدمة الطويلة الممتازة في احتفال مهيب شرفه سعادة القائد العام
للقوات المسلحة ووزير الدفاع وثلة من كبار الضباط.
الخرطوم - مارس 2014م
*مرحبا أستاذ محمد .. سلمت يداك على القصص المميزة .. و أعذرني على تأخري في الدخول لمدونتك بسبب طبيعة عملي بالإذاعة .. و لكن وجدت اليوم فرصة و دخلت على مدونتك و تصفحت محتوياتها .. صراحة مدونة ثرية بأبداعاتك .. كل التقدير لك .
ردحذفلك الشكر الأستاذة المبدعة Mem fees - اتمنى لك التوفيق في مسيرتك المهنية والابداعية - دمت ِ بخير ودام وطنك في أمن وسلام ..!
حذف* تسلم .. بارك الله فيك .
ردحذف