التسميات

الثلاثاء، 11 مارس 2014

مرافعة الدكتور (جادين) الأخيرة 1

نجوم ونجوم

يبدو سجن النساء بجدرانه الأثرية العتيقة التي يتجاوز عمرها المائتي عام وسوره الحجري الشاهق وقد قبع الحراس في أركانه الأربعة يراقبون كل شيء من علوٍ وكأنه حصنٌ عتيقٌ لأحد ملوك الزمان الماضي. يربض شرق المدينة القديمة على شط النيل الغربي تحيط به الشوارع الهادئة وتلفحه نسمات النيل حيناً فحين. هناك أودعت (نضال) ورفيقاتها.
داخل السجن أنماطٌ شتى من النساء، بعضهن في بياض الحليب وبعضهن في سواد الليل الشجي والبعض الآخر في منزلةٍ بين هاتين. زهراتٌ صغيراتٌ وأشجارٌ ناضجةُ الثمرات وعجائزٌ في خريف العمر جمع بينهن المكان رغم تباينهن حتى يخال الناظر أن جميع نساء المدينة أودعن هنا. 
فناءُ السجن باحة ٌمتسعة ٌ في رحابة ويُسمح للنزيلات بالجلوس فيه للثرثرة والسمر بعض الأحيان. الحياة في سجن النساء ليست جميلة ولكنها أحسن حالاً مما يدور بالخارج. النساء هنا يجمع بينهن الكثير، الإحساس الهائل بالغبن، الهموم المشتركة وشفافية الحزن. استطعن أن يقاومن الرتابة والملل بتبادل صناعة الفرح، ترديد الذكريات الطيبة والسفر عبر الخيال وخلق المفارقات وأحياناً بعض الدموع يغسلن بها قلوبهن المتعبة حين يدهمهن الضعف. يقضين جل وقتهن في الثرثرة وتبادل وجهات النظر حول ما يشغل تفكيرهن وهو الأطفال والزوج.
كانت الأيام الأولى دائما ما تكون موحشةً، حزينةً وقاسية، يضمخها الأسى وتخضبها الدموع ثم لا تلبث النزيلة بعد ذلك أن تعتاد على المكان وتوطن نفسها على هذا الأمر فتنتظم مع بقية المجموعة في صناعة الفرح.
كانت (ميري) بائعة (المريسة) أكثرهن مقدرةً على انتزاع الضحكات من رفيقاتها حين تحكي لهن نوادر زبائنها العجائز. (ميري) ليس لديها المال الكافي لتشتري البلح وتصنع العرقي لتربح الكثير من المال. البلح غال ٍ، تقول (ميري)، والبوليس يهرقه في النهر، لا داعي إذاً للمغامرة. (ميري) تكتفي فقط بصنع (المريسة) من الذرة التي لا تكلف كثيراً ولا تربح إلا القليل إذا لا يغشاها إلا العجائز الثرثارون ذوي الأيدي المقبوضة ولكن (ميري) كانت سعيدةً بهم تنفعل بقصصهم ونوادرهم وتعود لتحكيها للآخرين بإخراجٍ شيقٍ وتمثيلٍ مُتْقَنٍ.
(ميري) ترددت على هذا المكان كثيراً حتى ألفته وألفها وأقامت علاقةً طيبةً مع السَّجَّانات. ولم يكن السبب هو (المريسة) وحدها. البوليس دائماً ما يهاجم بيوت صديقاتها ويضبط كمياتٍ كبيرةً من عرقي البلح. و(ميري) ليس لديها زوجاً أو أطفالاً وفقيرة. لذا فهي مستعدةٌ دائماً لتحمل المسئولية والإقرار على نفسها أمام القاضي بصنع العرقي وملكيته والمتاجرة فيه، ذلك مقابل أجرٍ معلومٍ تدفعه رفيقاتها. القاضي استنتج ذلك من كثرة إقرارها على نفسها بالجرم ولكنه لم يعلق بشيء، فالقانون لا يمنحه هذا الحق وليس أمامه ما يفعله سوى أن يتقبل إقرار (ميري) ويرسلها إلى السجن ويرسل الأخريات إلى بيوتهن ليصنعن العرقي من جديد.
البوليس دائماً يضبط كمياتٍ كبيرةً من العرقي ويهرقه في النهر. (ميري) تقول أن (المريسة) لا تكلف الكثير من المال ولكن إهراق العرقي يسبب خسارةً فادحةً ويجعل عيون (لوجينا) تحمر مثل الشطة، و(لوشيا) ترغي وتزبد وتهدد وتتوعد وتقول أنها ستذهب في الصباح لتشكو البوليس للجيش الشعبي. ترد عليها (تريزا) في حزنٍ بأن هذه المدينة قد جعلت الجيش الشعبي بوليساً أيضاً. بينما تكون (أدوك) صامتةً تلك الليلة وحزينة.
البلح غالٍ، تقول (ميري). الجوال وصل إلى ثلاثمائة جنيه. عرب (حَقَّارِيِنْ) يبيعون لنا البلح بأسعارٍ باهظةٍ ثم يصادرونه بعد أن نتعب في صنعه ويهرقونه في النهر. فأين العدالة إذن؟! أين السودان الجديد؟! تحتج (ميري). ثم تلتفت نحو (نضال) لتسب لها الجميع بما فيهم الجيش الشعبي وتنفجر (نضال) في الضحك وتحاول أن تطيب خاطرها ببعض الكلمات. 
(حسنية رحَّال) جاءت إلى السجن بعد أن سرقت جوالاً من الدخن (الدامرقا). تضحك (حسنية) كثيراً وهي تقص على رفيقاتها كيف تمت السرقة. (حسنية) تقول أنها تحب عصيدة الدخن باللبن. (نضال) تقول لها أن قليلاً من الدخن كان يكفي لصنع العصيدة يا (حسنية) وليس جوالاً كاملاً. تغوص عينا الأخرى في الفضاء طويلاً ثم  ترد بقولها:
-  ابن (آدم) طَمَّاع، هكذا خلقه الله. وهكذا سيبقى إلى الأبد.
تحاول (حسنية) أن تشرح لهن كيف تم القبض عليها وكيف جرت محاكمتها. داهم البوليس منزلها عند الفجر وقام بتفتيشه. تضخم صوتها ثم تقفز أمامهن منتصبة القامة. تناولها السَّجَّانَةُ (خميسة كورينا) بندقيتها لتؤدي بها المشهد. السَّجَّانَةُ دائماً تعير بندقية الحكومة لـ(حسنية) عند تمثيل الأخيرة لهذا المشهد. السَّجَّانَةُ كانت تعلم أن هذا المشهد لن يكون شيِّقاً إلا بالبندقية. السَّجَّانَةُ تضحك كثيراً حتى تدمع عيناها. (حسنية) قادرةٌ كانت على إضحاك الجميع بما فيهم السَّجَّانَة. تمسك بالبندقية في قوةٍ وتشهرها في وجوههن وتصرخ بصوتٍ حاد:
-  أثبت مكانك. بوليس.
(حسنية) تقول أن البوليس لم يجد أثراً للدخن حيث أنها أخفته في منزل صديقتها (ست البنات) بعد أن تعشت هي وأطفالها منه ورغم ذلك فلقد قبض عليها. تقول (حسنية) أن عربة البوليس أطلقت (سرينتها) وهي تنطلق في الشوارع مسرعةً متوجهة بي إلى قسم الشرطة للتحقيق ورجال البوليس يحيطون بي وهم يحملون البنادق (كلاشنكوف). (حسنية) تقول:
-  كنت أخشى أن يحيلوني إلى الكشف الطبي!
 تتساءل (ميري) وهي ترفع حاجبيها دهشةً:
-  (حسنية). هل كنتِ سكرانة؟!
فتنفجر (حسنية) في ضحكةٍ طويلةٍ تستغفر بعدها الله ثم ترد على صديقتها بقولها:
-  وهل نسيتِ أنني تعشيتُ بعصيدة الدخن وأنهم سيرونه داخل بطني إذا استعملوا بعض الأجهزة الحديثة؟!
فتنفجر النساء جميعهن ضاحكات.
ثم أحيلت (حسنية) إلى النيابة العامة والتي وجهت الشرطة بإعادة استجواب شهود الاتهام. ثم حولوها إلى المحكمة. وكيل النيابة رأى أن هنالك بينة مبدئية لتوجيه اتهام تحت الماددة 174 من القانون الجنائي للدولة. ومثلت (حسنية) أمام قاضٍ وقورٍ اتهمها إنابةً عن حكومة الجمهورية بسرقة جوالٍ من الدخن (الدامرقا).
تضيق عينا (حسنية) أكثر. رنة حزنٍ شفيفٍ تسربل صوتها وهي تعلق قائلة:
-   الأمر لم يكن يستحق كل هذه الضجة. صاحب الجوال تاجرٌ ميسور الحال وبمخزنه تسعة جوالات أخرى من الدخن.
وحين لا تعلق أي من رفيقاتها بشيء ترفع (حسنية) عينيها نحوهن لتضيف:
-  ابن (آدم) طماع ولا يملأ عينيه إلا التراب.
وكيل النيابة الجنائية شابٌ نشطٌ مخلصٌ في عمله وقد أصر على تمثيل الاتهام أمام المحكمة بنفسه كما استعان صاحب الجوال أيضاً بأحد المحامين الكبار. تقول (حسنية): صاحب الجوال قال أنه لا يثق في قدرات محامي الحكومة، لذا أحضر ذاك المحامي الضليع ليترافع أيضاً ويضم جهوده إلى جهود محامي الحكومة. وفي الجانب الآخر تطوع المدافعون عن حقوق الانسان من محامين وإعلاميين وشعراء للدفاع عن المتهمة ومساندتها كل حسب تخصصه.
(حسنية) فوجئت بكل هذا الصخب فبدا لها أن تريح وتستريح فأقرت على نفسها بسرقة جوال الدخن (الدامرقا) مما أصاب المحامين بالإحباط فمزقوا مرافعاتهم البليغة وحملوا حقائبهم الضخمة وخرجوا من قاعة المحكمة وهم يسبون ويلعنون.
(حسنية) تضحك كثيراً حين تختم قصتها. ثم تشخص ببصرها نحو السماء وهي تضم ركبتيها إلى صدرها وتغرق في التفكير العميق بينما تنشغل رفيقاتها بسماع حكايةٍ أخرى لزميلةٍ جديدة.
الصفحات 51 - 57 من رواية مرافعة الدكتور جادين الأخيرة
ديسمبر 2007م يوليو 2008م - أم درمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق