حينما حمل أحد المنشورات نبأ موت (خديجة)، اتشحت ْ ساحة (الفيس
بوك) بالسواد، أخذ أصدقاؤها وصديقاتها يتبارون في نشر الخبر وهم يواسون بعضهم
البعض ويذكرون محاسن الفقيدة ويدعون لها بالرحمة والمغفرة. قالوا أن موتها كان
مفاجئا ً فلقد كانت تنعم بالحياة حتى الجمعة الماضية. ولم استطع إلا أن أتجاوب مع
فيضان الحزن الذي طغى على ساحة المشاركات ، فنشرت ُ مشاركة اترحم فيها على الفقيدة تجاوب
معها الكثيرون. الشاب الذي يحبها كان أكثرنا حزنا ً، فنشر عدة قصائد تفيض بالألم
والشجن مما زاد في بؤسي وانقباضي وبدأت ُ أبحث عن وسيلة ٍ لتكذيب الخبر رغم تصديقي
له. ولم يكن أمامي سوى (سميرة) فخاطبتها قائلا ً:
- هل تأكدتم من صحة الخبر؟؟
جرت بها أصابعي على الشاشة الباردة أمامي ثم ضغطت ُ على زر
الإرسال بتشنج لأدفع بالعبارة على الخاص إلى (سميرة). أتاني الرد متوشحا ً بالسواد
كما هو متخيل في مثل هذه الأحوال، يقول:
ارتسم ذلك الرد المتيقن على الشاشة أمامي
مؤكدا ً موت الفتاة. ولكن شكي القديم دفعني لأتساءل مرة ً أخرى فضغطت على الزر
لأقول:
- وهل هذا دليل ٌٌ كاف ٍ؟!
- وماذا تريد أكثر من ذلك؟! نعم. لقد ماتت (خديجة) ..!
- أقصد ........
دفعت بتلك الكلمة عبر الأثير إلى وجهتها دون أن أجد ما اكملها به.
ليأتيني رد الفتاة يفيض باللوعة والشجن كما خيل لي قائلة ً:
- وهل ينتابك شك بعد كل
ما قلت لك؟! فلنتحل َ بالإيمان ونتقبل الأمر. إنا لله وإنا إليه راجعون. ارجع إلى
صفحتها وسترى أنها قد ماتت منذ أسبوع دون أن يلاحظ أحد ذلك. ارجع إلى منشوراتها
وستلاحظ أنها كانت تنعم بالصحة والعافية ككل الأحياء. عشرون مشاركة في اليوم ومئات
التعليقات والإعجابات، لم تكن تشكو من شيء. كان موتها فجائيا ... آهـ يا قلبي ..!
قالتها
الفتاة وهي تنخرط في البكاء كما هو متخيل.
تركتها تمسح دموعها المفترضة وعدت اراجع المحادثة والتبلد يحيط بي من كل
جانب. هل ما تقوله (سميرة) حقيقيا ً؟ هل ماتت (خديجة) حقا ً، هل سكان (الفيس بوك) يموتون؟ وكيف يحدث ذلك؟! ولماذا يبدو لي الأمر غير مفهوم؟! لماذا تحيطه الضبابية؟! وما الذي يدعوني لتصديق (سميرة)
ومن معها من الأحياء؟! بل من هي (سميرة)، من تكون؟! هل هي (سميرة) حقا ً؟ وكيف
السبيل للتحقق من ذلك؟! ربما كانت شيئا ً آخر، ربما هي (سعاد) أو (زينب) ربما كانت
(أحمد) أو (جاد الرب)، بل ما الذي يمنع أن يكون من يتواصل معي على (الفيس) طوال هذه السنوات
كائن ٌ من الفضاء الخارجي يسمي نفسه (سميرة) ..!
فجأة ً احسست الرعب يتملكني. فلقد
تجلت أمامي المأساة في أبرز صورها، ما هذه الحياة التي نعيش؟! من أين جاءت وإلم َ
تنتهي؟! ما هو أصلها؟ ومن يقف وراءها؟
لماذا تبدو ضبابية ومراوغة، لماذا تخلو من يقين؟! وما الذي يجبرني على تحمل
هذا العبث الذي يسمى حياة؟! بل كيف تحملته طوال السنوات الماضية من عمري دون أن
أصاب بالجنون؟!
ظلت هذه الأسئلة ومثيلاتها تضغط على عقلي طوال اليوم وأنا أصارع
أمواج الشك تارة ً وتصرعني أمواج اليقين تارة ً أخرى. وفي المساء كنت قد اتخذت
قراري الشجاع بعد دهر ٍ من الشك والألم والاحساس العظيم بالإثم. فعدت اجري أصابعي
على لوحة المفاتيح لأخاطب (سميرة) بقولي:
وهتفت الفتاة والألم
يخنق حروفها كما هو مفترض:
- حرام، حرام. الحياة نعمة ولا يجوز تبديدها، إنه الكفر ..!
قرأت ردها دون تأثر ثم صففت حروفي على الشاشة الباردة قائلا ً:
- شكي يقتلني ..!
- استغفر
الله يا حبيبي. أين عهودنا؟ أين وعودنا؟ بل أين إيمانك. العن الشيطان، إنه عدونا
منذ القدم ..!
- ليس للشيطان دخل في الأمر. لقد سئمت من الحياة وعذبني الشك لا أستطيع مواصلتها. ادعو
لي بالرحمة. سنلتقي في العالم الآخر. وداعا ً ..!
قلتها وأن
اتحول نحو مربع حذف الحساب. وبضغطة على الماوس صعدت روحي إلى بارئها.
الخرطوم – فبراير 2014م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق