أكمل كتابة الطلب ومهره بتوقيعه ثم أخذ يعيد قراءته في تؤدة بينما ضجيج الماكينات من حوله يصمَّ الآذان. زملاؤه منهمكون كلٌ في ما بين يديه وهو غارق ٌ بين السطور لا يعقل سواها ، يبتسم تارة ً لعبارة ٍ أسكرتُه أو ينضح وجهه أسى تارة ً أخرى. ويعود يهز رأسه الضخم يمنة ً ويسرة من التأثر. وأدركته حالة ٌ من الطرب الطفولي عند مقطع ٍ معين فعلا صوته وهو ينشد : "ماذا تقولُ لأفراخ ٍ بذي مرخ ٍ ... زغب الحواصل ِ لا ماءٌ ولا شجرُ". إنها (فتحية) وأطفالها ما في ذلك شك ، كأن (الحطيئة) رآى حالهم رأي العين فرَّق لها ووصفها مخاطبا ً السيد مدير عام الشركة للتصديق بـ"السلفية". إن هذا الشعر أبكى (الفاروق). (الفاروق عمر) بكل رجولته وبأسه وشجاعته وسيفه الطويل وعضلاته المفتولة ، بكى عند سماعه هذا البيت من الشعر ، أفلا يبكي المدير العام ذو الوجه الطفولي والصوت الناعم والأنامل الرقيقة ؟! ألا يرقُّ قلبه فيستجيب للطلب ؟! بلى ما في ذلك شك. فالشركة مسلمة بل الدولة نفسها مسلمة تتبع خطا أولئك الأخيار..! هكذا حدثته نفسه فبدت له "السلفية" حينها قريبة ً وكأنه يتحسس بيديه ملمس الأوراق النقدية الخشن ويتنسم عطرها الفوَّاح. وتاه الرجل وراء حلمه العذب ، إن هذه "السلفية" ستفعل بحياته الكثير ، هنالك متأخرات إيجار المنزل لثلاثة أشهر والعام الدراسي على الأبواب كما أن (فتحية) مريضة وبطنها في شهره الثامن وموظفي الحكومة يطرقون الباب يوميا ً يقلقون راحتها مطالبين برسوم تجميل المدينة ، وقد أتوا في الزيارة الأخيرة وفي معيتهم شرطي مسلـَّح ، هكذا أخبرته (فتحية). أهمه الأمر حينها كثيراً وأُسقط في يده إلى أن اهتدى إلى (الحطيئة) ، حيا الله (الحطيئة) ، ذلك الشاعر النحرير. بعد اليوم لن يعود الشرطي يقلق راحة (فتحية) ووليدها المنتظر.
"ماذا تقول لأفراخ ٍ بذي مرخ ٍ ....!" ، أخذ يرددها وهو ممتلئٌ بها تعويذة ً ضد عناد السيد المدير وبخله وشُحـِّه. وبخطوات ٍ واثقة ولج الرجل داخل المكتب الفخم منفوخ الصدر لا يدانيه شك في قبول طلبه والتصديق له بـ"السلفية".
- يُرفضُ الطلب.
خطتها الأنامل الرقيقة بنعومة ثم أجرى المدير يده بالتوقيع أسفل الورقة لتغيم المرئيات أمام عيني الرجل ويبدو الوجود لناظريه ألوانا ً شتى.
- هل قرأت َ (الحطيئة) يا سيدي ؟
ألقى عليه المدير العام نظرة ً مستنكرة ً وكأنه يتهمه بشيءٍ ما فعاد موضحا ً بقوله :
- لقد أبكى (عمر بن الخطاب) حتى ابتلتْ لحيته ..!
قالها الرجل وهو يلقي نظرة ً على وجه الشاب الناعم ، لأول مرة ٍ يلاحظ أن السيد المدير العام أمرد ٌ.
- خلـِّي الكلام الفارغ واتفضل شوف شغلك.
ولم يستطع أن يتمالك نفسه فانقضَّ على محدثه يوسعه لكما ً وصفعا ً وأسرع بقية العمال يحولون بينه وبين المدير العام الذي أخذ يمسح الدم عن وجهه وهو يصرخ في هستيريا:
- قولوا لي الحيوان ده ديته كم ؟
خرج إلى الشارع والعبارة تؤز في أذنيه : "قولوا لي الحيوان ده ديته كم" بينما الشرطي المسلح يطالب (فتحية) برسوم تجميل المدينة والأطفال ينتظرون الرسوم الدراسية. فكـَّر الرجل ، لقد بدا المدير العام في منتهى الجديِّة ، مستعداً للدفع ، أفلا يغتنم هذه السانحة ؟ إنه مسلمٌ ، ذكر ٌ، حر ٌ، بالغ ٌ، عاقلٌ ، فدِّيتـُه إذاً مائة ٌ من الإبل. إن "السلفية" التي بنى عليها آمالا ً وأدمى بسببها وجه المدير العام لا تساوي ثمن عنزة ٍ صغيرة ، فما بالك بمائة من الإبل ؟!. لقد سحب السيد المدير درج مكتبه الذي يحتفظ فيه بدفتر الشيكات والمسدس في تصميم ، فلمَ لا يدفعه لفعلها ؟ مائة ٌ من الإبل ..!
واستعذب الرجل الحلم حتى أحس َّ بالرصاصة تثقب رأسه وترديه قتيلا ً في الحال ، وتنشق ُّ الأرضُ على إثر ذلك عن مائة من النوق العصافير تتهادى صوب بيته وفي استقبالها (فتحية) وأطفالها الرائعون. رأى الرجل بعيني خياله براميل اللبن الضخمة تتوسط فناء منزله و(فتحية) وأطفالها منهمكين في بيع اللبن للجيران الذين تراصوا صفوفا ً طويلة والأوراق النقدية بيمناهم حيث تختفي في جوال ٍ كبير ٍ أعدته (فتحية) لهذا الغرض.
وعندما زار الرجل أحد المحامين أخبره الأخير أن المحكمة لن تدفع لـ(فتحية) مائة من الإبل عينا ً وإنما ستنقدها ثمن مائة من الإبل وهو ثلاثين ألف جنيه. بان الاحباط على وجهه وهو يعلـِّق مستنكرا ً :
- ثلاثون ألف جنيه ؟! إنها لا تساوي ثمن قطعة أرض في حارة ٍ شعبية ..!
- ولكنها ثمن مائة من الإبل.
وخرج الرجل من مكتب المحامي والإنقباض يثقل صدره ، ليس أمامه خيار ٌ آخر ولكن ليعدل في خطته قليلا ً، لن يدفع المدير العام لاستعمال مسدسه ، إن هذا سيعقد الاجراءات ويطول أمد المحاكمة وتتأخر الإبل و(فتحية) في شهرها الثامن ولن يرضى الشرطي المسلح أن ينتظر كل ذاك الوقت ، ومن يدري ربما حكم القاضي على المدير العام بالإعدام فتضيع الديـِّة. إذا ً فليقي بنفسه تحت عجلات سيارة المدير العام فيدفع السيد المدير أو شركة التأمين في وقت ٍ وجيز. وفجأة ً أبصر عقله تلك المفارقة الغريبة ، إن سيارة المدير العام تساوي وحدها خمسمائة من الإبل. وانفجر الرجل يضحك ويضحك حتى دمعت عيناه. صرخ فجأة ً والإلهام يهبط عليه ويشوي دماغه :
- ليس المقصود مائة من الإبل وإنما مائة سيارة ..!
نعم ، إن السيارة هي دابة هذا الزمان ومن العدالة أن يقيـَّم الإنسان بالنظر إلى دابته. لقد قال المحامي أن المائة من الإبل تكون من أعمار ٍ مختلفة ففيها بنات لبون وبنات مخاض وحقتان وجذعة ، إذاً تكون الديـِّة مائة سيارة تـُشكـَّل من ماركات وموديلات مختلفة
كاديلاك ، مرسيدس ، بورش ، فورد ، كايا ، متسوبيشي ، فولفو ، سكودا ، سوزوكي ... ولا بأس ببعض الركشات والموتوسيكلات. ولمعت عينا الرجل جزلا ً، بدا له في تلك اللحظة قوة منطقه ورجحانه فهتف ملء فمه :
كاديلاك ، مرسيدس ، بورش ، فورد ، كايا ، متسوبيشي ، فولفو ، سكودا ، سوزوكي ... ولا بأس ببعض الركشات والموتوسيكلات. ولمعت عينا الرجل جزلا ً، بدا له في تلك اللحظة قوة منطقه ورجحانه فهتف ملء فمه :
- هذه هي العدالة ، وهكذا أراد الله ..!
عاد يرددها في وسط الشارع وهو يلكم الهواء وفي خياله صف ٌ طويل ٌ من السيارات المتنوعة مختلفة الأشكال والأحجام ، لا يعرف لمعظمها اسما ً وأطفاله يتقافزون حولها منشرحين ، وقضى تلك الليلة والحلم العذب يقلق مضجعه.
وعندما زار المحامي صباح اليوم التالي وأفضى له بوجهة نظره العادلة عنـَّفه الأخير وهو يطلب منه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. همس الرجل يراجعه في مسكنة :
- ألا يمكن أن تطرح اجتهادي هذا على المحكمة ؟
- أبدا ً. مستحيل. سأ ُتهم في ديني وعقلي ..!
- إنه اجتهاد ولكل مجتهد ٍ نصيب ..!
- إلا هذا ..!
رد المحامي في حسم. ورجع الرجل إلى بيته والخيالات الغريبة تطارده. وبعد يومين خرج إلى الشارع ، عاري الصدر ، منكوش الشعر وهو يحمل جرساً صغيرا ً يهزَّه وينادي :
- مائة من الإبل ، من يزيد ، من يدفع أكثر ؟!!
الخرطوم في أحد نهارات 2007م.
نـُشرتْ في صحيفة صوت الأمة - السودانية - بتاريخ 9 يناير 2008م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق