إن (محفوظ) في قصة (إصلاح القبـور) يكـاد يصفعنـا بالحقيـقـة صفعـا ً: (إن
القيـم مـا هـي إلا نتـاج لـواقـع ٍ مادي، إن تحـرَّك تحـرَّكـت وإن تـلاشى
تلاشـت القيـم كـأن لـم تكـن) .
فـ(نعمات) الشابـة الحسنـاء التـي اختطـف المـوت زوجها الشاب بعد أقل من عـام ٍ مـن زواجهما ليسـت بجاحـدة ولا "خائنـة عـُشـرة" بـل تتحـلى بأعـلى درجـات الوفـاء والإخلاص لزوجها الراحـل. فلقـد كانت تبكي عليه ليـل نهـار وتـزور قبـره كـل صبـاح مـن يـوم الجمعـة لتـزرف دموعـها بيـن يـديـه، ويؤلمها شكـل المقبـرة المتهـدم والفنـاء المعفــَّر فتـفكـر في صرف مكافـأة المرحـوم أو حتى بيـع جـزء مـن فنـاء المقبـرة لتـرميـم القبـر وصيانـتـه :
(فغـدا ً حينـما يجـدد القبـر وتطلـى الجـدران ويفوح المكان بشـذا الريحـان يتـنـسم قلبـها المحـزون نسـائم العـزاء البـارد وتجـد بالأنـس فـي الوفـاء سلـوى عـن وحشـة الوجـود) ص 245.
إن هـذا هـو عيـن الوفـاء والإخلاص ولكـن هـذه القيـم النبـيـلة تحتـاج لواقـع ٍ مـادي يتعهدها بالرعايـة والسقيـا ليضـمن ديمـومتـها. كـان الواقـع الـذي انتجـها هـو وجـود ذلك الـزوج إلى جـوار (نعمات) ورعايتـه لها واهتمامـه وحياتهما المشتـركة جميعـها ، وبرحيـل الزوج اصبحـت تلك القيـم مجـرد مقـولات معنـوية معلقـة فـي الفـراغ لا يسندها واقـع معيـش.
وقـد تبخـَّرت تلك المقـولات عنـد أول اختبـار حقيـقي تتعـرض لـه (نعمات) بعـد رحيـل زوجها الـذي لـم يجهـد (محفوظ) نفسـه في اختيـار اسـم لـه ناهيـك عـن وصفـه أو تصويـره. وكـل ما نعلمـه عـن ذلك الزوج منسـوب إلى (نعمات) وكـأن وجـوده مستمـد ٌ مـن وجـود الفتـاة :
(عينـان ألفـت أن تطالـع فـي نظراتـهما الحنان والمـودة ولسـان ٌ ظـل َّ ينـاغيـها عـام أو بعـض عـام ٍ المنـاغـاة الحلـوة السعيـدة وسـاعـدان كـانـا يضمـانـها إلى مرتـع الـوداد والهـوى). ص 244.
بهذا الوصف نجـد أن (محفوظ) قد اختـزل الرجـل في واقـع ٍ مـادي دينـاميكي منـْـتــَفـَع بـه، فأنتـج بـدوره قيـم الوفـاء والإخلاص، وبـزوال ذلك الواقـع المعيـش ستـتـبـخر تلك القيـم كـأن لـم تكـن بـل تـصبـح فـي نـظـر المثالييـن أنفسـهم معصيـة ً للـرب. ص 247.
ولنـقـرأ ما يـأتي :
(كانت أول عهـدها تمضي إلى المقبـرة لا تلـوي علـى شـيء فلا تـرى مـن الدنيـا شيئـا ً، أمـا بعـد الأشهـر الأولى فلـم يمنـعـها الحـزن مـن أن تسيـر كبـقيـة خلـق الله بعـينيـن مفتوحتين) ص 245.
وبعينيـها المفتوحتيـن هاتيـن رأت رجلا ً يلتهمـها بنـظـراتـه فـي غـدوها ورواحـها مـن وإلى المقبـرة. ذلك الـرجـل الذي سيخطبـها لاحقـا ً والذي ستنـقطع بعـد خطبتـه عـن زيـارة المرحوم زوجها كما درجـت كـل يوم جمعـة متعللة بقولها :
(ألـيس الوفـاء للقبـر خيـانـة لـه ) ؟!
"الضميـر فـي لـه عائد إلى لخطيـب الجـديـد". وتـرد على السـؤال بالإيجاب.
لاحـظ أن (محفوظ) العظيـم يستعمـل كلمـة القبـر كمتـرادف وبـديـل للـزوج الراحـل "الوفـاء للقبـر" في مواجهة بنـي آدم من لحـم ودم ومشـاعر وأحاسيـس ملتهبـة تجـاه بطلتـنا وهو الخطيـب الجديـد حتى ينصر الثـاني على الأول دون أي استنكار من جانب القارئ وليكسب التعاطف لبطلته (قبـر في مواجهـة إنسـان). وهنـا مربـط الفرس :(إن هنـالك واقـعا ًماديـا ًجـديـداً أنتـج قيـم وفـاء وإخلاص لصالحـه ومـن الطبيـعي أن تنتـصر علـى تـلك القيم المعلقـة فـي الهـواء والتي تخـص الراحـل).
ولما انتصـف العـام جـاءتها مكـافـأة زوجـها المرحوم. فـمـاذا حـدث:
(لـم تـفكـر في تجـديد القبـر المهـدم ولا غـرس الفنـاء المعفــَّر ولا عاتبـت نفسـها على إهمالها) ص248 .
بـل أنفقـت المبلـغ في جهـاز عرسـها المرتقب وحيـن لم يكـف ِ فكـرت في بيـع فنـاء المقبـرة أيضا ً.
نلاحظ أيضاً أن (محفوظ) لم يهتم بـرسـم ملامـح العريـس الجـديد كمـا لـم يهتـم بـرسـم ملامـح سابـقـه ولا عـدد مـزايا أحدهـم أو فضائـله ولا أجـرى مقـارنـة بينهما فالمعـركة ليسـت بينهما بـل لا توجـد معركـة أو تنـافس أصلا ً إنـه قانـون وجودي وحتميـة أزليـة تسيـر عليـها الحيـاة رغـم أنـف الجميـع. إنها ثنائيـة الوهـم والحقـيقـة وستنتـصر الحقيقـة دائـما ً مهمـا أضفى خيالنـا على الوهـم من جمـال وقـداسة.
ورغـم البـؤس الـذي سيهبـط علـى قلبـك وأنـت تختـم تلك القصـة إلا أنـك لا تمـلك سـوى التأميـن بعقـلك علـى مـا جـرى. وإن عجزتَ عن ذلك فما عليـك إلا أن تـتـخيـل أنـك العريـس الجـديد ولـيس الراحـل العـزيـز وسيـفيـض قلبـك حينـئذٍ بالسـرور..!
فـ(نعمات) الشابـة الحسنـاء التـي اختطـف المـوت زوجها الشاب بعد أقل من عـام ٍ مـن زواجهما ليسـت بجاحـدة ولا "خائنـة عـُشـرة" بـل تتحـلى بأعـلى درجـات الوفـاء والإخلاص لزوجها الراحـل. فلقـد كانت تبكي عليه ليـل نهـار وتـزور قبـره كـل صبـاح مـن يـوم الجمعـة لتـزرف دموعـها بيـن يـديـه، ويؤلمها شكـل المقبـرة المتهـدم والفنـاء المعفــَّر فتـفكـر في صرف مكافـأة المرحـوم أو حتى بيـع جـزء مـن فنـاء المقبـرة لتـرميـم القبـر وصيانـتـه :
(فغـدا ً حينـما يجـدد القبـر وتطلـى الجـدران ويفوح المكان بشـذا الريحـان يتـنـسم قلبـها المحـزون نسـائم العـزاء البـارد وتجـد بالأنـس فـي الوفـاء سلـوى عـن وحشـة الوجـود) ص 245.
إن هـذا هـو عيـن الوفـاء والإخلاص ولكـن هـذه القيـم النبـيـلة تحتـاج لواقـع ٍ مـادي يتعهدها بالرعايـة والسقيـا ليضـمن ديمـومتـها. كـان الواقـع الـذي انتجـها هـو وجـود ذلك الـزوج إلى جـوار (نعمات) ورعايتـه لها واهتمامـه وحياتهما المشتـركة جميعـها ، وبرحيـل الزوج اصبحـت تلك القيـم مجـرد مقـولات معنـوية معلقـة فـي الفـراغ لا يسندها واقـع معيـش.
وقـد تبخـَّرت تلك المقـولات عنـد أول اختبـار حقيـقي تتعـرض لـه (نعمات) بعـد رحيـل زوجها الـذي لـم يجهـد (محفوظ) نفسـه في اختيـار اسـم لـه ناهيـك عـن وصفـه أو تصويـره. وكـل ما نعلمـه عـن ذلك الزوج منسـوب إلى (نعمات) وكـأن وجـوده مستمـد ٌ مـن وجـود الفتـاة :
(عينـان ألفـت أن تطالـع فـي نظراتـهما الحنان والمـودة ولسـان ٌ ظـل َّ ينـاغيـها عـام أو بعـض عـام ٍ المنـاغـاة الحلـوة السعيـدة وسـاعـدان كـانـا يضمـانـها إلى مرتـع الـوداد والهـوى). ص 244.
بهذا الوصف نجـد أن (محفوظ) قد اختـزل الرجـل في واقـع ٍ مـادي دينـاميكي منـْـتــَفـَع بـه، فأنتـج بـدوره قيـم الوفـاء والإخلاص، وبـزوال ذلك الواقـع المعيـش ستـتـبـخر تلك القيـم كـأن لـم تكـن بـل تـصبـح فـي نـظـر المثالييـن أنفسـهم معصيـة ً للـرب. ص 247.
ولنـقـرأ ما يـأتي :
(كانت أول عهـدها تمضي إلى المقبـرة لا تلـوي علـى شـيء فلا تـرى مـن الدنيـا شيئـا ً، أمـا بعـد الأشهـر الأولى فلـم يمنـعـها الحـزن مـن أن تسيـر كبـقيـة خلـق الله بعـينيـن مفتوحتين) ص 245.
وبعينيـها المفتوحتيـن هاتيـن رأت رجلا ً يلتهمـها بنـظـراتـه فـي غـدوها ورواحـها مـن وإلى المقبـرة. ذلك الـرجـل الذي سيخطبـها لاحقـا ً والذي ستنـقطع بعـد خطبتـه عـن زيـارة المرحوم زوجها كما درجـت كـل يوم جمعـة متعللة بقولها :
(ألـيس الوفـاء للقبـر خيـانـة لـه ) ؟!
"الضميـر فـي لـه عائد إلى لخطيـب الجـديـد". وتـرد على السـؤال بالإيجاب.
لاحـظ أن (محفوظ) العظيـم يستعمـل كلمـة القبـر كمتـرادف وبـديـل للـزوج الراحـل "الوفـاء للقبـر" في مواجهة بنـي آدم من لحـم ودم ومشـاعر وأحاسيـس ملتهبـة تجـاه بطلتـنا وهو الخطيـب الجديـد حتى ينصر الثـاني على الأول دون أي استنكار من جانب القارئ وليكسب التعاطف لبطلته (قبـر في مواجهـة إنسـان). وهنـا مربـط الفرس :(إن هنـالك واقـعا ًماديـا ًجـديـداً أنتـج قيـم وفـاء وإخلاص لصالحـه ومـن الطبيـعي أن تنتـصر علـى تـلك القيم المعلقـة فـي الهـواء والتي تخـص الراحـل).
ولما انتصـف العـام جـاءتها مكـافـأة زوجـها المرحوم. فـمـاذا حـدث:
(لـم تـفكـر في تجـديد القبـر المهـدم ولا غـرس الفنـاء المعفــَّر ولا عاتبـت نفسـها على إهمالها) ص248 .
بـل أنفقـت المبلـغ في جهـاز عرسـها المرتقب وحيـن لم يكـف ِ فكـرت في بيـع فنـاء المقبـرة أيضا ً.
نلاحظ أيضاً أن (محفوظ) لم يهتم بـرسـم ملامـح العريـس الجـديد كمـا لـم يهتـم بـرسـم ملامـح سابـقـه ولا عـدد مـزايا أحدهـم أو فضائـله ولا أجـرى مقـارنـة بينهما فالمعـركة ليسـت بينهما بـل لا توجـد معركـة أو تنـافس أصلا ً إنـه قانـون وجودي وحتميـة أزليـة تسيـر عليـها الحيـاة رغـم أنـف الجميـع. إنها ثنائيـة الوهـم والحقـيقـة وستنتـصر الحقيقـة دائـما ً مهمـا أضفى خيالنـا على الوهـم من جمـال وقـداسة.
ورغـم البـؤس الـذي سيهبـط علـى قلبـك وأنـت تختـم تلك القصـة إلا أنـك لا تمـلك سـوى التأميـن بعقـلك علـى مـا جـرى. وإن عجزتَ عن ذلك فما عليـك إلا أن تـتـخيـل أنـك العريـس الجـديد ولـيس الراحـل العـزيـز وسيـفيـض قلبـك حينـئذٍ بالسـرور..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق