3
- سالق ؟؟
تساءل (الزبير)
في توتر وهو يلقي بنظرةٍ محذرةٍ نحو صديقه. مد (صالح) يده إلى وسطه يتحسس الخنجر
مطمئنا ً بينما انحنى (حسام) يعالج رباط حذائه وعيناه ترصدان الرجال الذين يتبعونهم
في إصرار ٍ مرعب. اعتدل قائما ً وهو يخاطب صديقيه قائلاً:
- سبعه،
اتنين منهم طلاب مرشدين ومعاهم عربيه واقفه في نهاية الشارع.
- ما في
داعي نصطدم بيهم، حاولوا اتصرفوا.
خاطبهما
(الزبير) بصوت ٍ حاول أن يخرجه هادئا ً ففشل ليتوقف (صالح) في منتصف الإسفلت فجأة ً
ويخاطبه باستنكار:
- نهرب
يعني؟!
- ده ما
اسمه هروب يا (صالح)، أنحنا ما عندنا عداء شخصي مع حد بعينه.
رد (حسام)
بلهجة ٍ حادة ٍ على الرغم منه، وواصل (الزبير) مضيفا ً:
-
الرجاله يا (صالح) بتاعة البلد، ده ما مكانها. وما تنسى أنحنا ضد العنف
وبنحلم بالحق والخير والجمال لكل الناس حتى الماشين ورانا ديل.
- طيب
فائدة السليقه شنو؟ ليه بنسلق؟!
تساءل الشاب وهو
يثقبهما بنظراته وكأنه يتحدى منطقهما.
- بنسلق
عشان ما نتمسك، عشان نقدر نزوغ.
رد (الزبير)
وعلى محياه ظل ابتسامة ٍ باهتة، ثم أضاف وهو يضغط على نظارته الطبية بإصبعه:
- ولا
بأس من خرشه خرشتين كده، لمه الزول ينزنق.
- طيب
اتصرفوا انتو أول وخلوني أنا في النهايه.
خاطبهما وهو يضم
مقبض خنجره بقوة.
- لا،
أبدا ً.
رد (الزبير) في
حدة. ثم واصل وهو يحيطه بنظراته:
-
(حسام) يتصرف أول ويطلع بالشنطه.
- لكن
كيف؟!
تساءل (حسام)
وعيناه تطوفان بالشارع البارد في حيرة. الإسفلت الأسود يتوسطه كثعبان ٍ هائل ٍ
والمصابيح الكهربية قد أحالت الليل إلى ساحة ٍ مكشوفة بينما الرجال السبعة يدبّون
خلفهم في إصرار ٍ مثابر ومقابض مسدساتهم تلمع تارة ً فتارة.
-
وجدتها، وجدتها.!
هتف (الزبير)
بصوت ٍ مهموسٍ ثم واصل حديثه وعيناه تحيطان بعربات التاكسي التي توقفت في نهاية
الشارع:
-
(صالح)، أحسب لي العربات دي كم؟
- سبعه،
لكن ليه؟
- حنؤجر
تاكسي.
-
حيلحقونا بالعربيه!.
علق (حسام)
بصوتٍ حزين. ليرد (الزبير) في ثقة:
- ما
حيقدروا.
قالها وهو يتقدم
صديقيه نحو موقف التاكسي بخطوات ٍ هادئةٍ بينما توجه أحدُ الرجال السبعة نحو سيارة
"لاندكروزر" فضية اللون، أدار محركها متجها ً نحو زملائه. وما أن تحرك
التاكسي حتى انطلق الرجال السبعة خلفه على ظهر السيارة القوية ثم برز الأصدقاء
الثلاثة من تحت عربات التاكسي وهم يقهقهون، ثوان ٍ وأطلقوا سيقانهم للريح.
- فكره
مدهشه، إنك تؤجر تاكسي وما تركب فيه.!
- سواق
التاكسي ما حيكون فاهم أي شيء.
- إنت
قلت ليهو شنو؟
تساءل (صالح)
وهو يخبط على ظهر صديقه بإعجاب ليرد (الزبير) بعد أن ضغط على نظارته الطبية التي
أوشكت على السقوط بإصبعه:
- قلت
ليه، رأيك شنو تشم هوا على حسابنا؟ والأجره مدفوعه مقدما ً، الراجل ضحك كتير لدرجة
إني اتخيلته فاهم اللعبه كويس!
- أكيد
زميل حزب.
- بكره
نوزع المنشور وأهميتنا عندهم حتنتهي.
قالها (الزبير)
وهو يلقي بالحقيبة السوداء على السرير ويعود ليغلق باب الغرفة بإحكام.
- وين
(حسين)؟
- أكيد
مع (أمَّوله)..!
- يا بخته!
قالها (الزبير) وهو
يضغط على نظارته الطبية بلا داعٍ.
-
فعلاً، (حسين) هو الوحيد فينا الما إتشوَّه، الوحيد العايش حياتو الطبيعيه،
الدراسة والحبيبه والحلم بوظيفه محترمه.
قالها (صالح) في
هدوءٍ واثق ثم اتجه نحو صديقيه قائلاً:
- رأيكم
شنو أسمِّعكم قصيدتي الجديده؟
وقبل أن يرد
عليه أيٌ منهما كانت الطرقات الراقصة على باب الغرفة تبشر بوصوله. أسرع (الزبير)
يفتح الباب ليندفع الشاب إلى الداخل صائحا ً:
- ساعه
وأنا بدق في الباب، بتعملوا في شنو؟ دايرين تقلبوا الحكومه؟!
قالها وهو يطلق
ضحكته الرنانة ثم يدير نظراته داخل الغرفة وكأنه يبحث عن شيءٍ ما، ثم اتجه نحو
(حسام) ليخاطبه بقوله:
- يا
مناضل، مفروض حزبكم يشوف لينا حل للموضوع ده، لازم تحلِّوهو بأي طريقه، تفاوض،
اعتصامات، مظاهرات، اغتيالات، المهم لازم تحلِّوه.
- موضوع
إيه؟!
تساءل (حسام)
وهو يحيطه بابتسامته الودود، ليعود (حسين) موضحا ً:
- موضوع الـ"ليت بيرمشن"، ما ممكن يكون الساعه تسعه، تسعه دي بدري خالص، شهر،
تلاتين مساء، وأنا بحاول أحكي لـ(أمَّوله) قصة حياتي، داير أحكي ليها عن طفولتي
السعيده في (عطبرة) وصبايا الباكر في (شندي) وقبل ما أبدأ،(أمَّوله) تعاين للساعه
وبعد داك تعاين لي وتعتذر وترجع الداخلية.
وانفجر الثلاثة
ضاحكين و(حسين) يواصل ثورته:
- وين
حقوق المرأه، وين حقوق العشاق؟!
-
حتنالوها في الديمقراطيه.
- ولي
متين؟ أحلى سنوات العمر حتضيع، والزمن داك أنا و(أمَّوله) حنكون في المعاش.
قالها ونظراته
تسكن على الحقيبة السوداء التي تتوسط الفراش ثم يعود قائلا ً وقد هدأ صوته وسكنت
حركته فجأة ً:
- ده
شنو؟!
-
منشورات.
رد (الزبير) في
هدوء ثم واصل حديثه وهو يحدجه بنظرةٍ ثاقبة:
- رأيك
شنو، تطلع عليها؟
- لا،
أبدا ً. أنا ما لي علاقه بالحاجات دي، بلاش سياسه ووجع دماغ.
رد الشاب بسرعةٍ
ثم استدار يبدل ثيابه ليخاطبه (حسام) بقوله:
- صدقني
ما حتقدر تحكي لـ(أمَّوله) عن طفولتك السعيده وصباك اللاهث ما لم تؤمن الناس كلها
بأهمية الحب وشرعيته. ما لم تترفع الوصايه عن المرأه، وده ما بيحصل إلا بالطريقه
دي ..............!
قالها وهو يشير
نحو الحقيبة السوداء في ثقةٍ ثم يكمل عبارته بصوت ٍ عميق:
-
النضال من أجل الديمقراطيه.
-
والمنشورات دي وصلت لغرفتنا كيف؟!
تساءل الشاب
متجاوزا ً تعليق (حسام) وقد نضح صوته بالكثير من الاهتمام.
أخذ الأصدقاء
يقصون عليه مغامرتهم في عبارات مشوقة بعد أن أضافوا إليها الكثير من الخيال كالرصاص
الذي أخذ ينهمر على رؤوسهم كالمطر كما ادعى (الزبير) و"قائد الكتيبة"
الذي كان يخاطبهم عبر مكبر الصوت يطلب منهم الاستسلام كما قال (حسام). كان (حسين)
يتتبع كل ذلك مبهورا ً ثم أطلق ضحكته الرنانة وهو يخاطب (الزبير) متسائلا ً:
- وأجرة
التاكسي، دفعتها من وين؟!
- قروش
الميس.
- قروش
الميس؟؟!!
هتف الثلاثة
بصوتٍ واحد و(الزبير) يضغط على نظارته الطبية في توترٍ بينما (حسين) يواصل التحقيق
في جديِّة:
- وليه
ما رجعت للجمعيه العموميه؟!
- كان
معاي اتنين من أعضائها البالغ ثلاثة.
-
استشرتهم؟ أخدت رأيهم؟
- لا، أبدا ً.
لكن ضمنيا ً كانوا موافقين.
- إجماع
سكوتي يعني؟!
-
بالضبط.
أخذ الشاب يدير
نظراته في ما حوله ثم يعود مخاطبا ً (الزبير) بقوله:
- في
قاعده قانونيه بتقول: "لا يُنسب لساكت ٍ قول".
- ما
سمعت بيها لأني بدرس فلسفه.
- الجهل
بالقانون ليس عذرا ً.
قالها (حسين)
بصوت ٍ عميق بينما الآخرون يتفحصونه في فضول. بدا حينها بجسده الضخم ونظراته
العميقة النافذة وصوته الهادئ الوقور وسمته الجاد وكأنه أحد قضاة المحكمة العليا.
ابتسم (صالح) وهو يشيح بنظراته بعيدا ً عن المنضدة التي احتلها (حسين) بهيئته تلك
بينما كان (الزبير) يرقب الكراسة البيضاء التي انهمك (حسين) في تسويدها بتوتر.
-
وجدتك مذنبا ً. استقيل عن رئاسة الغرفه أو تُقال.
قالها (حسين)
وهو يجري يده بالتوقيع على المحضر ثم يهب فجأة ً ويلقي خلفه كل ذلك الوقار المصطنع
ليسرع إلى صحن الألمونيوم الوحيد موقعا ً اللحن عليه وهو يردد في طفولية:
-
استقيل يا ثقيل ... استقيل يا ثقيل!
أسرع الآخران
ينضمان إليه ليحيط الثلاثة بالشاب متظاهرين:
-
استقيل يا ثقيل ...
لن ننقاد ... للفساد ..!
أخذوا
يرددونها في حماسٍ طفولي مشاغب وهم يصخبون حتى أبواب السماء. أخيراً هدأ الجميع
بعد أن أدركهم التعب ليعود الأربعة لاختيار رئيسٍ جديدٍ للغرفة وكانت النتيجة اختيار (الزبير) للمرة الثانية رئيسا ً بالإجماع.
الصفحات
20 -26 من رواية (المطمورة) - أبريل 1995م – يناير 1999م
سالق : من الكلمات الحديثة التي انتجتها قريحة طلاب الجامعات السودانية وتعني : هل تحمل خنجرا ً تحت حزامك. ويسمون الخنجر بالسليقة.
سالق : من الكلمات الحديثة التي انتجتها قريحة طلاب الجامعات السودانية وتعني : هل تحمل خنجرا ً تحت حزامك. ويسمون الخنجر بالسليقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق