أتساءل الآن، هل
كل المحبين مثلي يتنفسون عشقهم؟ عندما نفترق أجد نفسي أعيش الزمن الذي كان بيننا،
أخرج منه مكرهة ً لأعود إليه مسرعةً عند أول اختلاء بنفسي فتأتيني كلماتك، أحاديثك
وأفكارك، أكمل معك حوارات لم تكتمل لسببٍ ما وأشياء لم استطع توصيلها لك وأتساءل
عن أشياء قلتها أنت ومرت من أمامي لحظتها لسببٍ أو لآخر. أشعر أحيانا ً أن أماكن
كانت خافتة الضوء قد جللتها الشمس. أتواصل معك وأنت بعيد وأشعر أحيانا ً أنك هنا في
مكان ٍ ما من حولي وأنني لو أدرت رأسي قليلا ً لرأيتك. أشعر بحضورك ساخنا ً يحيط بي.
هل تحدث لك مثل هذه الأشياء؟ أن تكتشف ثراء اللحظة، لحظة تشعر أنها تساوي العمر
كله وأنك ما سرت طويلا ً هكذا إلا لتجدها، لحظة تنتشلك من حافة الهاوية إلى اتساع
السهل، لحظة يتغير عندها شكل العالم وطعم الأشياء. لا أظنك تدري عن ذلك شيئا ً. أراك
الآن تمد أصابعك ببراءة ٍ وتعيد تلك الخصلة النافرة إلى مكانها، ولا يمكنك أن تفهم
ما فعلته هذه الحركة البسيطة في داخلي، تلك الشلالات الهادرة التي فجرتها أصابعك
وهي تداعب خدي ونظراتك النافذة حتى شغاف القلب).
-
(صالح)، أنا تعبانه وحأمشي الداخليه.
أوصلها حتى
"الأستوب" الذي يفصل بيت الطالبات عن مبنى الجامعة، انتظرت (سميرة)
الإشارة الخضراء ثم ودعته لتجتاز الإسفلت في خطواتٍ راقصة. فتحت
باب الحجرة بأصابع مرتعشة ثم ألقت بنفسها على السرير لاهثة الأنفاس وكأنها تعود من
سباقٍ مرهق. كان لديها الكثير المثير لتعيد اجتراره.
(أنا
الآن أحسن حالا ً، استطعت أخيرا ً أن أسيطر على هذا الإحساس المجنون الذي فجرته
أصابعك وهي تعيد خصلتي النافرة إلى موضعها. أضعت ساعات طويلة في اجترار ما حدث
والاستمتاع به، منظرنا نحن الاثنين وقوفا ً تحت (الفايكس) العتيد وأنت تمد أصابعك
ببراءة ٍ لتعيد تلك الخصلة التي سقطت على خدي. أنا أحب هذه الخصلة التي مستها
أصابعك فأصبحت تتيه على رفيقاتها.
عدت
منك لأستلقي على فراشي في بيت الطالبات وما يحدث لي يدهشني، استطعت أن ألملم جسدي
أخيرا ً وانهض إلى الحمام. في هذه اللحظة بالذات أعرف كم أنا بحاجة ٍ إلى وجودك في
حياتي وكم هي باردة ً خاوية ً بدونك، وهذا ما يدهشني، كنت طوال عمري أبني أحلاما ً
وآمالا ً والكثير من المشاريع والخطط التي يمكن أن تسميها مجنونة وكنت آمل أن يتسع
العمر لترجمتها إلى الواقع، ولم يكن الرجل حينها في بالي. كنت أرى حينها أن الرجل
هو الجحيم بعينه وأن الارتباط بآخر هو قمة المهزلة، وأن الزواج والإنجاب هو
الهاوية التي تؤد عندها أحلام المرأة، كنت أراه نهاية المطاف والمصير المؤسف الذي
أعدوه لها مسبقا ً ليقضي على فعاليتها ويصرفها عن رؤية الحياة، الحياة بكل ما فيها
من خلود. كنت أرفض مجرد التفكير في الرجل وما يتبعه من ملحقات، لم أكن لأستطيع أن
أضع نفسي في إطار اللوحة. امرأة "تتلفلف بالتوب" و"تجلبط" يديها
ورجليها بالحناء، تجلس فوق حفرة ٍ من الأرض لتشوي جسدها بنيران الطلح، فكيف أصبح
ذلك المستحيل ممكنا ً، كيف رضيت أن أدخل نفسي في الإطار الغريب؟ ليس هذا فقط بل
إنني الآن أعيش من أجل هذا الإطار. أعيش وأنا أحلم بك، بالحناء، بـ(الدلكه) ودخان
الطلح، أحلم بذلك اليوم الذي يضمني إليك.
(صالح)،
لقد اكتشفت أنني أحب الأشجار، تلك الكائنات المهيبة الضاربة بجذورها في الأرض حتى
الماء والسامقة بأغصانها حتى السماء لتصبح ظلا ً لإنسان ٍ متعب أو وكرا ً لنسر ٍ أو
عشا ً لعصفورٍ مقرور. أحب القمح، التمر والنيل. أحب الثبات وجاذبية الأرض. لا أريد
الركض ولا أحب التسكع والتشرد على أرصفة الموانئ حتى ولو كان بحثا ً عن الحقيقة.
الأرض،
وحدها هي الحقيقة، أريد أن أعمرها وأبقى فيها لأعلم الآخرين كيف يعمرونها، وكيف
يحسون بها، مهيبة ً، عزيزة ً، مشحونة ً بالأسرار. أنا (حواء)، سعيدةٌ بإحساسي هذا
وأتمنى أن أملأ الأرض بالعفاريت الصغار، مئات الأطفال يعمرون الأرض. إنه حبك،
استطاع أن يعيدني من جديد، استطاع أن يعيد لي إنسانيتي الجميلة.
أيها
القادم من خط الاستواء، كيف استطعت أن تتسرب لتدور مع دمائي؟ كيف استطعت أن
تقنعني، صامتا ً، أن أصبح نحن؟ أن تسكن كل الأحلام والأماني والرؤى؟ أن تصبح
الأشياء التي كانت غريبةً ومستحيلةً، حقيقة ً وواقع لا أستطيع الهروب منه أو التنكر
لها، أن ..............).
فجأةً أحست
الفتاة بخطوات ٍ تتسلل خلفها، أسرعت تغلق المفكرة الصغيرة بسرعة ٍ لتنفجر زميلاتها
الثلاث في الضحك وهن يحطنها بنظراتهن في حب.
- لقد جعلني حبك أكثر شفافيةً ورقه!
هتفت (صفاء) وهي
تنحني بطريقة ٍ مسرحية ٍ متقنة، لتواصل (نجلاء) زميلتهن الأخرى في الحجرة الحديث وهي
تتثنى في غنج:
- أشتاقك يا نور عيني! آهٍـ من حبك اللذيذ!
وعادت الفتيات
الثلاث ينفجرن ضاحكات وعيونهن تلمع ببريق الحياة.
- هو منو؟
خاطبتها (شذى)
وهي تبتسم في وجهها بعذوبة ٍ ثم واصلت وهي تنحني لتقرص خد الفتاة مداعبة:
- عليك الله يا (سميره) ورينا اسمه!
وتدخلت (صفاء)
قائلة:
- يخصي عليك يا (سميره) نحنا صاحباتك، على الأقل
نساعدك.
- يووه من السخف..!
هتفت بها
(سميرة) وهي تلوح بيديها في ضجر ثم أسرعت تحمل مفكرتها الصغيرة لتندفع خارج الغرفة
وضحكات الفتيات الثلاث تطاردها.
الصفحات 42 -45 من رواية (المطمورة) - أبريل
1995م – يناير 1999
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق