التسميات

الأحد، 1 سبتمبر 2013

المطمـورة 5

14

أشعر بالملل الفظيع يسكن دواخلي. تدهمني الرغبة في أن أفعل شيئا ًما، أصرخ أو أبكي، "أتشقلب" أو أشد شعري بكل ما أوتيت من قوة. لا أعرف ما الذي دهاني ولكن لقد بدأت الأعراض التي تصيبني عندما تصل أعصابي ذروة توترها في الظهور. أشعر الآن بآلام هائلة في أمعائي وطعم مر يسكن حلقي. الكهرباء مقطوعة منذ الصباح والهواء اللافح يشوي وجهي. أتمنى لو أنك هنا أو أنني هناك أو أننا معا ً في مكانٍ ما على ظهر هذا الكوكب نملكه سويا ً. مكان ٌ صغير ٌ من هذا الكون الممتد في غير نهاية يخصنا وحدنا. هل ستكون حينها قدرا ً على اكتشاف هذا الشيء الذي يحطم أعصابي وتخلصني منه؟!
مرهقة ٌ إلى حد الإنهاك. أشعر أن قواي تتسرب من بين يدي، الكآبة والصمت يتكاثفان من حولي، أمي تنام في الصالة بينما خرجت زوجة أبي الشابة في أحد "مشاويرها" الغامضة وسيعود أبي من مكتبه بعد ساعتين. 
  تدهمني الآن رغبة ٌ عارمة ٌ في الجري، أن أعدو في هذه الصحراء التي تطل على بيتنا بعيدا ً بعيدا، أن أرحل عدوا ً وسط الرمال المحرقة في صحراء (إفريقيا) الكبرى ولا أعود، أن أتحرر من كل شيء، أهلي، أحلامي، طموحي وملابسي. كلها تبدو لي الآن ثقيلة ً، تافهة ً بغير معنى. أشعر بهواء الشهيق والزفير في رئتي حادا ً ومؤلما ً. الضوء يزعجني، حفيف الأشجار وزقزقة الطيور على شجرة "البان" التي توسطت الفناء، كلها تصل إلي كصراخ ٍ داو ٍ، وباختصار أحس بالعالم من حولي بكل تفاصيله الصغيرة مرعبا ً مخيفا ً وكأنني أفحصه تحت المجهر. هل رؤية الأشياء تحت المجهر تسبب كل هذا الرعب؟ 
نحن عادة ًلا نفحص الأشياء، نكتفي دائما ً بإلقاء نظرة عابرة لذا يسهل خداعنا. من السهل التغول على حقوقنا واللعب بعقولنا، ومن السهل أيضا ً تخويفنا بما لا يخيف. فنحن دائما ً نخبئ شيئا ً ما، كلنا نخفي شيئا ً ما، سيئا ً ومنقصا ً للكرامة، الكرامة بمقاييسنا التي وضعناها نحن، تلك المقاييس الكاذبة التي لا يستطيع أي منا أن يزن نفسه بها، فلماذا نصر عليها ونهلل لها ونحن نفتضها ليل نهار؟! ما الذي يجبرنا على الزيف، ولماذا لا نضع مقاييس ممكنة، مقاييس الحياة بعيدا ً عن الطهارة الزائفة والقداسة المدعاة؟! هل الحقيقة مخيفة إلى هذا الحد؟ ولماذا نهرب دائما ً من مواجهتها، ونكتفي بعالمٍ من الوهم الزائف؟! لماذا تحكم الشكليات حياتنا وتسيطر على سلوكنا وتفكيرنا؟! وهل يمنحنا ذلك الوهم راحة، ولماذا يملؤنا الخوف، الخوف الدائم من شيءٍ مجهولٍ أتيناه أو قد نأتيه وسيكشف يوما ً وتكون الفضيحة؟ لماذا نتدثر بالزيف ونرهق أنفسنا في محاولةٍ مريرة ٍ ومؤلمة ٍ للتستر على ما ليس عيبا ً أو منقصة، ما نغترفه صباح مساء مع سبق الإصرار والترصد، لماذا نرهق أنفسنا؟!
لم نكن حقيقيين يوما ً. نسير في الشارع ونحن نتلفت فرقا ً، فقد يكتشف أحدهم بعضا ً مما نخبئه، ذلك المخجل عن طريق الصدفة فتكون الطامة الكبرى. فلماذا كل هذا التعب؟! لماذا لا نقول ما نفعل ونعترف به؟ نعترف بأنها الحياة، لماذا نترفع عن حياتنا التي نعيش في كبرياء ٍ وقح ٍ ومواقف مسرحية بائسة تدعو للموت؟!
لقد اكتشفت أنني غير قادرة على النسيان وأن جميع الأشياء بما فيها أنت موجودة ٌ في داخلي، في مكانٍ ما مني، تطل برأسها وقد ظننت أني وأدتها، تأتيني في ومضات ٍ خاطفة ٍ، دقيقة ولكنها كافية ً لزعزعتي. لماذا لم تودعني؟ أعرف أنك غاضب ٌ وربما حزين. أعرف أن حوارك الداخلي وصل إلى حد الدوي وأنني قد أدخلتك معي في المتاهة وأني قد جرحتك وآلمتك. أعرف كل هذا وأقدره كسببٍ لغضبتك، ولكن أن تذهب هكذا دون كلمة، أن لا تهتم بوداعي في آخر يوم لنا مع بعضنا، فهذا ما لا أحتمله. لماذا يا حبيبي، لماذا أيها الأحمق القاسي، أية قوة ٍ شريرة ٍ زينت لك أن تسافر دون كلمة وداع ؟! "وبالمناسبة"، ماذا تفعل مع تلك الفتاة الغبية، هل تخدعني، هل تظن أنني لن أعرف، "لا يا شاطر"، لقد رأيتك يومها وكدت أن أصفق لك. يالك من ممثل ٍ موهوب. جلستك المستكينة بين يديها كتلميذ ٍ صغيرٍ وأنت تستمع لشرحها متظاهرا ً بالاهتمام، هل تريد إقناعي بأنك تحتاج لمن يستذكر معك دروسك؟ ربما استطعت أن تقنع تلك الغبية ولكنك لن تقنعني. لقد أدهشتني فقط، أدهشتني إلى أقصى حد. كيف استطعت أن تتقمص تلك الشخصية الغريبة وتجيد هذا الدور الذي لا يشبهك، هذا الدور العجيب؟! صدقني لم أكد أعرفك، كيف استطعت أن تبدل جلستك المميزة، نظراتك النافذة وحتى ملامحك وكأن من يجلس مع (سارة النور) ليس أنت، ليس هو (صالح ود عبد النبي ود صالح). يالك من ممثل ٍ بارع ٍ يستحق أن يقرظ ولكنني سأحاسبك على ذلك يوما ً وسيكون حسابا ً عسيرا ً بقدر الآلام التي زرعتها في داخلي.
عاد أبي من مكتبه الآن. أسمع وقع خطواته الثقيلة وهي تعتصر الأرض وكأنه يسحق شيئا ً. إنه يتجه إلى الجانب الآخر من البيت، ذلك الذي يستغله وزوجته الشابة والتي عادت من "مشوارها" الغامض قبل دقائق. لا أدري ما الذي يدعو فتاة ً في العشرين من عمرها أن ترهن حياتها لرجلٍ في مثل عمر أبي؟ لا أظن أنها تحبه، بل أشك أن مثل هذه الفتاة تعرف شيئا ً اسمه الحب. أعرف أنها تستمتع بوقتها في مكان ٍ ما وتمارس لعبة البؤس تلك. إنه الشيء الذي يجعلنا نرهن وجودنا للخوف، لدينا دائما ً ما يهددنا، ما نخاف كشفه وافتضاح أمرنا. لماذا لا نكون حقيقيين ونفعل ما يجبل بنا، ما نريده، حتى لا نعرض أنفسنا لامتحان ٍ عسير من صنع أيدينا؟ لماذا نعرض أنفسنا للتجربة؟ لامتحان ٍ لم نعد له عدته، لماذا نتفنن في خلق عالم ٍ من المتناقضات، نصنعه ونضع أنفسنا بداخله ثم نتباكى ونحن نبحث لأنفسنا عن مخرج ٍ في متاهة ٍ نحن صانعوها، مبررين لخطايانا بالتناقض الذي اخترناه بمحض إرادتنا وشاركنا في صنعه؟ أتركك الآن فأمي تناديني.
أنا الآن أحسن حالا ً بعد أن ابتلعت قرصين من "الاسبرين". اجلس على سريري الذي يربض بجانب الدولاب الذي طالما حدثتك عنه، ذلك الدولاب الذي كنت أختبئ بداخله عندما كنت طفلة. يقترب موعد الغداء وأسمع أصواتهم وهم يروحون ويجيئون داخل المطبخ ولكنني لن اذهب لمساعدتهم وهم لا يطالبونني بشيء. أحس هنا بالأمان، سريري الحبيب، دولابي الخالد ومفكرتي التي أسرُّ لها بما يشغلني. وأشعر كذلك بالشوق، شوق ٌ هادر ٌ يجتاحني إليك، يزلزلني، ترى ما الذي تفعله الآن، وفي هذه اللحظة بالذات؟
أخافها أفكاري، أتخيل للحظةٍ أنك لن تعود لي فيدهمني الانقباض والرغبة في إفراغ كل ما في جوفي، أن تذهب وتتركني، أن ترحل تاركا ً لي البرد والريح والعدم. أن أصبح بين ليلة ٍ وضحاها خارج حبك للعالم وان أُطرد من الملكوت. هل تراك قادرا ً على فعلها، وهل تراودك الفكرة أحياناً؟ هل تعلم أنك لي؟ لي وحدي وأنك لو عشت ألف عامٍ فلن تجد من تحبك مثلي، وأننا بدون بعضنا قطرتان من ماء ضائعتان في سديم اللامنتهى، حيث لا شيء سوى الظلام والوحدة. أنت تعرف أنني أحبك رغم ما حدث ويحدث بيننا، وأعرف أنك تحبني وتحترمني وتخاف علي، وأنك لن تجد نفسك في أي مكانٍ في الأرض إلا معي. لن تجد من تفهمك وتحنو عليك وتتحمل حماقاتك سواي، وأعلم أنك لو رحلت فلن تمارس سوى التسكع على أرصفة الموانئ وستمشي عبر الزمن القادم بلا حبٍ أو رفقةٍ لأنني أنا وحدي من تعرفك، أنا نصفك الآخر الذي لن تطيب لك حياة من دونه. ولكنني خائفة، أخاف أن تفلت يدي وتختار وهم الحرية المطلقة. باستطاعتنا معاً أن ننبت حَبا ً، نخلا ً وسنابل، أن نصنع ثورة ً ونلون الآتي لنا وللآخرين بعصارة الشمس والمطر والحرية، كما باستطاعة كل منا أن يحيا بمفرده، ولكنها ستكون حياة ً بلون التراب وطعم الرماد. سأذهب فهم ينتظرونني على الغداء.
تناولت كمية ً كبيرة ً من السمك. كان لذيذا ً حتى وأنني الآن أشعر بالتخمة. جلست وسط أمي وإخوتي الصغار على المائدة الحافلة وحدنا، فكالعادة تغدى أبي مع زوجته الشابة في الجانب الآخر من البيت. أمي تناولت طعامها بشهية ٍ مفتوحة، يبدو أنها قد عودت نفسها على هذا الوضع الغريب.  أتساءل الآن هل يمكن أن يحدث مثل هذا لي يوما ً؟ ترعبني الفكرة، لا استطيع أن أتخيل نفسي وحيدة ً وسط أطفالنا وأنت تتناول طعامك بدوني ومع أخرى في الجانب الآخر من البيت، هل ستفعلها؟! ليس من المستبعد ذلك، فأنت لست خيرا ً من أبي وهو ليس أكثر سوءا ً منك. كلكم تافهون منحطون، تعانون من آلاف العقد ومركبات النقص وشيء من الذكاء البليد، ولكنني لن أمكنك من ذلك، سأقضي عليك بمجرد تفكيرك فيه.
الصفحات 115 -119  من رواية (المطمورة) -   أبريل 1995م – يناير 1999

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق