25
- حرام يا (سميره). حرام البتعمليه في نفسك ده..!
كانتا وحيدتين
داخل غرفتهما ببيت الطالبات وقد خلا المبنى تقريبا ً إلا من بضع زميلات ٍ كن
يتحلقن حول المغسلة منهمكات في الغسيل يلفهن الصمت. الشمس في طريقها للغروب. كل
شيءٍ ساكن ٌ صامتٌ إلا غرفة الصديقتين حينما خاطبتها (صفاء) بالعبارة تلك. ألقت
عليها الفتاة نظرة ً خاوية ً من عينين انطفأت فيهما شعلة الحياة. فواصلت (صفاء)
حديثها قائلة:
- إنتي
ليك يومين قاعده كده. بالصوره دي ح تجني.
-
(صالح) ..!
هتفت بها وكأن
روحها تنتزع من بين جنبيها. عادت (صفاء) تقول:
- دي
إرادة ربنا. أنحنا ح نعمل شنو غير نصبر وبس؟!
-
(صالح) ..!
وعاد الصمت
المؤلم يجوس داخل الغرفة لتطرده (صفاء) بعد هنيهة ٍ بقولها:
-
(صالح) ذاته لو شافك في الحاله دي ح يزعل منك، إنتي كده بتعذبيه في قبره.
التقطت (سميرة)
العبارة لتهتف في انبهار:
- هو ح يشوفني؟
أكيد ح يشوفني.
دهمتها شعلة ٌ
من النشاط المفاجئ فأسرعت تقفز نحو الحمام في رشاقة. أخذ صوتها يتسرب من خلال
الباب المغلق نديا ً، عاطرا ً تجلله اللوعة والشجن:
-
(بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق ...
وتكتب اسمي يا حبيبي على رمل الطريق..!
وبكره بتشت الدني،
ع الأسف اللي مجرحه،
ويبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحى ..!
يبقى اسمك يا حبيبي واسمي بينمحى ..!).
كانت
(صفاء) تنصت إليها خارج الحمام كالمأخوذة، أحست وكأن الصوت الملائكي يأتي من
السماء صادقا ً عاطرا ً ونديا ً فأخذت دموعها تنهمر على خديها ساخنة ً وغزيرة،
ألقت بنفسها على السرير وما زال الصوت الحنون يتسرب إلى قلبها ليفيض باللوعة
والشجن.
وقفت
(سميرة) تحت "الدش" وسلاسل الماء تتدحرج على جسدها في نعومة ٍ وقد تبعثر
شعرها على وجهها وكتفيها وانسدل فغطى صدرها لتبدو في وقفتها الساكنة بهيئتها تلك
كآلهة رومانية قديمة. كانت تسمع زقزقة العصافير الملونة وهي تتواثب حولها في
رشاقة، وقد امتد أمامها ومن حولها الأخضر فغطى على كل شيء وهناك في البعيد كان ثمة
فارس ٍ يعدو على حصانه معانقا ً الأفق الأزرق على إيقاع اللحن.
ورق صوتها حتى
غدا كالهمس ثم تلاشى و(سميرة) لا زالت تغني، تغني في قلبها، في أعماقها، تغني
لآلاف العصافير الملونة التي حطت على الأغصان تستمع لتفاصيل حبها، والفارس يعدو
مبتعدا ً حتى أضحى أمامها نقطة ً صغيرة ً على الأفق الأزرق، أخذت تتبعه بنظراتها
حتى غاب خلف قرص الشمس الغارب.
أغلقت
(سميرة) الصنبور، جففت جسدها في تأن ٍ، ارتدت ثيابها ثم هرولت إلى داخل الحجرة
وعيناها تومضان. أخرجت مرآتها الصغيرة، تأملت وجهها طويلا ً وكأنها تكتشفه لأول
مرة ثم وضعت المرآة أمامها على المنضدة وأخذت تصفف شعرها بعناية ٍ واهتمام. فجأة ً
وكأنها تذكرت شيئا ً التفتت نحو صديقتها قائلة:
-
(صفاء)، تعالي أعملي لي ضفيره، ضفيره واحده.
كانت (صفاء)
تتبعها في دهشة فلقد بدت الفتاة حينها في أقصى درجة من السعادة، لامعة العينين متوردة
الخدين والدماء تضخ في شرايينها لاهبة ً ومثيرة. وواصلت (سميرة) حديثها:
-
بتعايني لي كده ليه، مش عارفه (صالح) بتكسَّر في الضفيره؟! يلا بسرعه الزمن
قاعد يسرقنا..!
تحركت (صفاء) في
آلية ٍ. جلست لتصفف شعر صديقتها شاردة الذهن.
- لسه
إنتي؟ أسرعي عشان ما اتأخر على (صالح).
- خلاص
انتهيت.
مدت (سميرة)
يدها تتحسس الضفيرة لتبتسم في رضا وهي تسرع وتفتح الدولاب مخاطبة صديقتها بقولها:
-
الساعه كم؟ أنا اتأخرت كتير. أكيد (صالح) ح يزعل. يا ريت ما يتحامق ويمشي
السينما مع أصحابه.!
قالتها وهي تلقي
نظرة ً على الساعة الملقاة على الطاولة لتتنفس في ارتياح وهي تقول:
-
الجزمه السوداء ما لايقه مع الإسكيرت البني، أحسن ألبس الشبط.
كانت (صفاء)
يصرعها التبلد تلك اللحظة، سألتها بصوت ٍ مرتعش:
- إنتي
ماشه وين يا (سميره)؟!
رفعت الفتاة
حاجبيها استنكارا ً لتجيب بقولها:
- ماشه
وين؟ ماشه لـ(صالح) طبعا ً. مش قلت ليك عندنا موعد الساعه سبعه؟
عادت (صفاء)
تتساءل في إشفاق:
-
و(صالح) قال ح يلاقيك وين؟
- في
الجامعه طبعا ً.
فكرت لبرهةٍ ثم
واصلت حديثها قائلة:
- لأنه
لسه طالب، ما ح نقدر نطلع حته تانيه، لكن لمه نتخرج ح نتزوج ونطلع كتير، ح نلف
الدنيا.
-
(سميره) خليني أمشي معاك.
- تمشي
معاي؟!
هتفت الفتاة في
استنكار ثم أخذت تقهقه في هستيريا وهي تخاطبها من بين ضحكاتها:
- دمك
تقيل يا (صفاء). كيف تمشي معانا؟!
غطت (صفاء)
وجهها بكفيها وهي تنشج بصوتٍ مكتوم.
- يا
بنت إنتي عبيطه، والله لو تبكي للصباح ما ح أسمح ليك.
عادت (صفاء)
تهمس من بين دموعها:
- أنا
بقصد أنزل معاك الجامعه هسه.
- لا،
كده، معليش، خلاص قومي ألبسي.
أخذت
الصديقتان تطويان الدرب صامتتين إلا قلبيهما، كانت (سميرة) تمشي في نشاط ٍ وقد
توردت وجنتاها وبرز صدرها إلى الأمام في شموخ ٍ بينما أخذت الضفيرة الضخمة تتمايل
على وقع الخطوات النشطة وكأنها ترقص. بدت الفتاة جميلة ً، أجمل من أي يوم ٍ مضى
وإلى جانبها سارت (صفاء) هامدة الخطوات.
جلستا
في الـ(مين رود) ساكنتين و(سميرة) ترقب البوابة الرئيسية في لهفة. ألقت نظرة ً على
ساعتها لتخاطب صديقتها وهي تبتسم في رقة:
- عامل
فيها تقيل؟!
لفهما الصمت
طويلا ً وعقرب الدقائق يتقافز في سرعة ٍ نحو اللاشيء. لتعود (سميرة) قائلة ً وهي
تتنهد في ضجر:
- ربع
ساعه تأخير؟ الليله ما ح أسامحه.
قالتها وهي تضم
أصابعها الخمس متوعدة. غطت (صفاء) وجهها بكفيها وأخذت تنتحب من جديد لتهتف (سميرة)
والاستنكار بادٍ في صوتها:
- يا
بنت إنتي عبيطه؟!
قالتها وهي تضغط
على يد صديقتها مواسية ً وحانت منها التفاتة نحو البوابة الرئيسية لتتهلل أساريرها
وهي تتبع ببصرها الشاب الذي يتجه نحوهما بخطوات ٍ هادئة. ضغطت على كف صديقتها وهي
تهمس بصوت ٍ يثقله الانفعال:
- أهو
داك (الزبير) صاحبه جاء، أكيد (صالح) في الطريق.
أخذت تحدق في
البعيد وقد جاشت عواطفها وعلى شفتيها تلألأت ابتسامة ٌ منهكة بينما أصابعها ترتعش
وأنفاسها تتلاحق و(الزبير) يقترب بخطوات ٍ مترددة.
- مساء
الخير.
- أهلا
ً، (الزبير)، كيف حالك؟
أطرقت لبرهة ٍ
ثم رفعت رأسها متسائلة في خفر:
-
(صالح) اتأخر ليه؟
أشاح الشاب
بوجهه بعيدا ً وكأنه يعالج ألما ً مميتا ً لتهتف (سميرة) في لوعة:
-
(الزبير) مالك؟ (صالح) مالو؟ اتأخر ليه؟!
تمالك الشاب
نفسه بمجهود ٍ خارق ثم عاد يحدق في العينين اللامعتين اللتين ترقبانه في تساؤل.
غاص داخلهما عميقا ً وكأنه يجمع كل قوته في عينيه ليخاطبها بصوت ٍ خرج حادا ً على
الرغم منه:
-
(سميره)، في حاجه لازم تفهميها..!
- أيوه
شنو؟
-
(صالح) مات.
- مات؟!
هتفت بها وهي
تقفز أمامه كنمر ٍ صغير، وارتفعت كف (الزبير) في الهواء ثم هبطت على خد الفتاة
كالصاعقة وهو يصرخ:
-
(صالح) مات، مات، مات، وإنتي عارفه الحقيقه دي، عارفاها، عارفاها.!
وانهارت (سميرة)
على المقعد وجسدها يهتز في عنف. انفجرت تبكي في مرارة.
كانت
(صفاء) تجلس إلى جانبها ساكنة ً صامتة ً وكأن أحاسيسها قد نضبت أو كأنها رحلت إلى
زمان ٍ آخر، بينما عيناها تنسكبان على وجه صديقتها الذي تبلله الدموع، دموع المرارة،
الهزيمة والخذلان. فجأة ً خيل إليها أن هناك ثمة من يبتسم ثم انطلقت الضحكات
الساخرة من بين أغصان (الفايكس) العتيد تعلو وتعلو، خبيثة ً شامتة ً ولئيمة.
هبت
(سميرة) تمسح الدموع من عينيها وتسرع نحو بوابة الخروج، دون أن تكترث لمن حولها.
استلقت
على سريرها في بيت الطالبات وعقلها يصفو شيئا ً فشيئا. لقد مات (صالح)، نعم، دهسته إحدى
سيارات المدينة الكئيبة منذ ثلاثة أيام وهي تعلم ذلك. في جزء من الثانية استطاعت
الآلة القاسية أن تأخذه منها وتنفي وجوده ليختفي من حياتها. بضع ثوان ٍ فقط هي
الفاصل بين الحياة والموت. بضع ثوانٍ ٍ، هكذا ببساطة ٍ تصبح الحركة سكونا ً
والوجود عدماً. يا لها من سخرية ٍ مريرة ٍ وهوان ٍ مذل ٍ لكائن ٍ هو الدنيا وسيدها.
كيف تحدد مصيره هكذا ببساطة ٍ آلة ٌ غبية ٌ أوجدها عقله وصنعتها يداه. إن الوجود
لن يصبح عدما ً، والحركة لن تكون سكونا ً والفارس لم يمت رغم أنف المدينة
الملعونة. إنه أقوى من الفناء، إنه باق ٍ حتى ولو تغيرت مادته واختلفت صورته، باق
ٍ في مكان ٍ ما من هذا الكون العريض يباشر مهامه الوجودية ويؤدي رسالته الخالدة في
تناغم ٍ حركي أبدي موزون.
نهضت
الفتاة لتلتقط مرآتها الصغيرة من على المنضدة، تأملت وجهها طويلا ً وهي تمسح بقية
ً من دموع ٍ جفت على خديها ثم وضعت المرآة في هدوء وتسللت خارج الغرفة.
إنها
الثامنة مساء. (الخرطوم) آلة ٌ ملعونة ٌ يقودها شيطان أخرس. السماء مغرورة ٌ، نائية ٌ
وشريرة. و(سميرة) تطوي الطريق بخطوات ٍ هادئة ٍ ومتزنة. كانت السيارات تمضي إلى
جوارها مسرعة ً تجتاز كوبري (بحري) وكأنها لص ٌ مطارد، و(سميرة) مشغولة ٌ عن كل ذلك
بكون ٍ آخر. مرت الفتاة أمام كشك البوليس المقام على الكوبري لتنحرف في الطريق
المخصص منه للمشاة، وتسرب صوتها دافئاً، ندياً وعاطرا ً يتسلل في ليل المدينة
الكئيب:
- (بحكي عنك يا حبيبي لأهالي الحي
بتحكي عني يا حبيبي لنبعة المي
ولمه بيدور السهر
تحت قناديل المسا
بيحكوا عنك يا حبيبي
وأنا بتنسى
بيحكوا عنك يا حبيبي وأنا بتنسى).
سارت
الفتاة وهي تردد أغنيتها في صوت ٍ طفولي محزون حتى توسطت الكوبري. أسرعت تتسلق
الحاجز وقد دهمها اضطراب ٌ لذيذ. جلست عليه برهة ً تلتقط أنفاسها. كانت المدينةُ
صاخبة ً والمصابيحُ الكهربيةُ ترقبها مشرقة ً من البعيد. أخذت (سميرة) تمسح وجهها
بيدها اليمنى بينما اليسرى ممسكة ً على الحاجز الحديدي بقوة، سوَّت ْ حاجبيها
بعناية. امتدت يدها تتحسس الضفيرة وكأنها تطمئن على وجودها. ابتسمت في طفولية ٍ ثم
قفزت إلى الماء وهي تهمس:
-
(صالح)، انتظرني..!
الصفحات 210
-216 من رواية (المطمورة) - أبريل 1995م – يناير 1999
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق