التسميات

الأربعاء، 22 يناير 2014

لقد برأت َ قاتلا ً يا أستاذ ..!

ويفرِّقون بين المرء وزوجه :  

   قطاع ٌ واسع ٌ من المجتمع يتحصن برأي ٍ سالب ٍ حول مهنة المحاماة وطريقة عمل المحامين، ولا يختلف في ذلك الفهم الظالم حاملو أرفع الدرجات العلمية عن عامة الناس ممن لم يحظ َ بتعليم أكاديمي منتظم. والكثير من النكات والطرف والملح الغامزة الهامزة تروى عن المحامين ومهنة المحاماة في شتى بقاع الأرض وبكافة اللغات الحية، يتداولها الصغير والكبير مسرحها وسائل الإعلام وفي جلسات الأنس بين الأصدقاء وفي الأسواق وفي قعدات ربات البيوت منتصف النهار، وليس هذا بغريب، إذ أن كل هؤلاء رغم تباينهم يستوون في الجهل بالقانون وقواعده وفلسفته العقابية والخيط الرفيع الذي يفصل بينه وبين العدالة. 
   وكلمة العدالة نفسها مفهوم ملتبس ومراوغ لا يبين له حال وغالبا ً ما تتماهى في ذهن غير أهل المهنة بالمطلق، ذلك المطلق الذي لا سبيل لنا لبلوغه في هذه الحياة الدنيا وليس لنا من الوسائل والقدرات ما يجعلنا نصل إليه وإن كنا نتلمس الطريق للاقتراب منه مستخدمين ما نملك من وسائل أرضية قاصرة نحاول تنشيطها وتجويدها والاستفادة منها كأقصى ما يكون. إنها ليست خطيئة أهل القانون، فمحدودية الإنسان زمانا ً ومكانا ً ومعرفة ً هي سبب مأساته ولها انعكاساتها السالبة على رحلة الحياة برمتها. ولكن يغفل الجميع عن هذه الحقيقة البينة التي تؤثر على شتى نشاطات الإنسان في الأرض ولا تبين لهم إلا حين نظر القضايا بواسطة المحاكم فيطالبوننا ببلوغ المطلق متناسين أس المشكلة الوجودية لينعوا غياب العدالة في هذا الجانب وهذا الجانب فقط، وأعني عمل المحاكم. 
  ورغم ذلك أقول أن العدالة بخير وأن القانون بخير فلقد استطاع هذا الكائن العظيم المسمى بالإنسان وعبر تاريخه الطويل وتراكم تجاربه ومعارفه أن يطور الكثير من القواعد والنظريات إجرائيا ً وموضوعيا ً في المجال العدلي متجها ً صوب المطلق، ولا زال البحث جار ٍ ولا زالت المعارف تترى. ولكن غير أهل المهنة لا يرون ذلك ويختذلون معضلة العدالة ومأساة الإنسان الوجودية في عبارة محفوظة تنعى غياب العدالة وكأنما العدالة هذه جسم ٌ مادي ثابت ٌ وعلى أهل القانون حمله وعرضه على جمهور النظارة ليتبركوا به وهذا هو التبسيط الساذج المخل.
 

فويل ٌ ثم ويل ٌ ثم ويل ٌ لقاضي الأرض من قاضي السماء :

   الكثيرون يروون هذا البيت ويستشهدون به حين يخسرون قضاياهم في المحاكم، وولع الناس بهذا البيت الشعري نابع ٌ مما يخلفه في أنفسهم من أثر ٍ نفسي إيجابي وراحة تجعلهم يتقبلون الحكم ضدهم دون أن يحدثوا أمرا ً منكرا، كل ذلك نابع في تقديري من تكرار كلمة ويل ٌ ثلاث مرات، وهو العذاب الشديد وقيل أنه واد ٍ في جهنم يمتليء بالنيران والثعابين العظيمة وهذا يثبت ما سبق أن بينا من توق الإنسان لبلوغ المطلق. 
  ورغم أن بيت الشعر أعلاه موجه للسادة القضاة، إذ ذكر الشاعر المظلوم صفتهم بوضوح ٍ لا كناية فيه ولا توريه لكن لا نرى أحدا ً ينشده أمامهم  بل تحال دلالته إلى المحامين قياسا ً مع أنه لا توجد ضرورة فقهية تبيح القياس في هذا الموضع إذ أن ذاك الويل يخص السادة القضاة حصريا ً كما وضـَّح الشاعر في بيته الشعري المحكم. أما العبارة التي عنونا بها هذا المقال فغالبا ً ما يلقيها أحد ذوي المقتول عند تبرئة القاتل، إنه يقذف بها في وجه محامي الدفاع وقد شمر عن ساعده استعدادا ً للعراك مع هياج ٍ شديد يخالطه الوعيد بعذاب من الله يوم القيامة لا يشك الرجل بأنه سيطال هذا المحامي بل يمتد ليشمل كل زملائه في المهنة. وكل هذا نابع كما أوضحنا من الجهل بالقانون وقواعده واختزال الدعوى كلها في فعل القتل دون النظر إلى حيثياته إضافة إلى الناحية النفسية لذوي المرحوم ومرارت الفقد والإحساس الطاغي بالغبن في مجتمع ٍ كان يأخذ حقه بيده حتى وقت ٍ ليس ببعيد.

واحد، ثلاثة، ثلاثة، خمسة - إنها تشكيلة ٌ لا تـقهـر :

  اطمئن الجميع بأن لا أحد من المحامين يستطيع أن يبريء قاتلا ً مهما بلغ ذاك المحامي من الدهاء والذكاء وسرعة البديهة. ومن يقولون بقدرة المحامين على تبرئة القاتل خداعا ً ينسبون للمحاميين قدرات ٍ لا يملكونها وفي ذات الوقت يسيئون لمكتب السيد المدعي العام الذي يمثل الاتهام إنابة ًعن الدولة كما يسيئون لمهنة القضاء فكيف يستطيع محامي واحد مهما بلغ من الذكاء (الشيطاني) أن يخدع إثني عشر قاض ٍ لا يصبح الحكم نهائيا ً إلا بعد مروره عليهم جميعا ً وفحصه والتدقيق في كل شاردة ٍ وواردة ٍ فيه ابتدأ ً من محكمة الموضوع ثم الإستئناف ثم النقض ثم المراجعة؟! هؤلاء الأماجد يلعبون بتشكيلة (1 - 3 -3 -5) على الترتيب، وحين يجمع إثنا عشر قاض ٍ على تبرئة متهم ما، فلتعلم علم اليقين أنه ليس بقاتل ٍ حتى وإن رأيته بأم عينيك يضرب المرحوم ويرديه قتيلا ً.

لكن من هو القاتل ؟!  :

  ونعني القاتل في نظر القانون الذي يستحق الشنق، تلك العقوبة التي يسعى الجميع لتطبيقها على المتهم، ولا تطالهم الراحة والسرور إلا حين يشنف القاضي آذانهم بالعبارة الأثيرة: (حكمت المحكمة على المتهم بالإعدام شنقا ً حتى الموت). وأي حكم في قضية قتل لا يقضي بإعدام المتهم يعني في نظر الرأي العام أن العدالة لم تأخذ مجراها وكأن التشفي مما يفخر المرء به وهو تناقض مريع فمحاكمة القاتل هي رفض وتجريم لفعل القتل، فكيف ينتج عنها ذات الفعل المرفوض والمجرَّم؟! فالقتل يظل قتلا ً سواء ً أن نفذه المتهم على المرحوم أو نفذته الدولة على المتهم كعقوبة. وحين يعتمد نظام قانوني ما الإعدام كإحدى العقوبات التي يجوز توقيعها على المتهم فهو يعترف ضمنيا ً أن القتل مباح في بعض الأحوال وإلا كان الإعدام الذي يطبقه كعقوبة، فعلا ً غير مبرر، وبالتالي فإن هذه الإعدام ليس علته السلطة، فليس من حق الدولة أن تطبق عقوبة الإعدام لأنها سلطة فقط وإنما الضرورة، وبذا تصبح الضرورة قاعدة عامة تمتد لتشمل بمظلتها الجمهور لينتج عن ذلك إباحة فعل القتل للجمهور في ما بينه عند الضرورة وهذا يفسر تبرئة المحاكم لبعض من ارتكب فعل القتل.
  وكي نصل إلى إجابة ٍعن السؤال المطروح حول من هو القاتل دون الخوض في تعقيدات قانونية ونظريات ومصطلحات أكاديمية وغيرها مما لا يستسيغه غير القانونيين نورد الأمثلة الآتية: (شخص قتل الرجل الذي يسعى لسلبه ماله عنوة ً واقتدار - شخص قتل المرحوم بعد أن وجده يمارس الجنس مع زوجته -  شخص قتل المرحوم الذي تهجم عليه بسلاح مميت فهرب منه ولكن المرحوم أصر على مطاردته وقتاله - شخص قتل آخر يسعى لإجباره على ممارسات منافية للطبيعة). وعلى الرغم من أن جميع من في الأمثلة السابقة قد ارتكبوا القتل كفعل مادي وحرموا المرحوم من حياته لكن هل تراهم يستوون حتى يحكم عليهم جميعا ًبالشنق؟ بل ما رأيك إن تغلـَّـب المقتول على القاتل في جميع الأمثلة السابقة وقتله ليصبح القاتل مقتولا  ً والمقتول قاتلا ً، هل يستوون؟ ومثال ٌ آخر، كيف يستوي من يوجه مسدسه لرأس المرحوم ويطلق عليه الرصاص بمن يضرب مرحوم آخر بعصاة ضربة واحدة فتسبب موته؟ كيف يستوي من يترصد لشخص ويتتبعه لعدة أيام متحينا ً فرصة الانفراد به ليقتله، مع آخر قتل شخص إثر مشاجرة في محطة المواصلات دون سابق معرفة بينهما؟! 
من الأمثلة السابقة أعلاه نتبين سوء الفهم الذي يقع فيه العامة حين يختذلون القضية كلها في فعل القتل دون النظر إلى الظروف المصاحبة والتي قد تؤدي إلى تبرئة المتهم تماما ًوإطلاق سراحه وفي بعض الأحوال تؤدي إلى سجنه لبضع سنوات بدل شنقه. فيقذفون العبارة المؤذية في وجه المحامي بكل ثقة ويقين. لقد برأت قاتلا ً يا أستاذ وسنخاصمك يوم القيامة ..! 
ياله من إتهام ٍ جارح ٍ ووعيد ٍ عظيم ٍ لا طاقة لأحد ٍ باحتماله خاصة حين يسمعه المرء لأول مرة. 

إنهم يستغلون الثغرات :

  لا شك إن إزهاق روح إنسان وحرمانه من حياته وما يتبع ذلك من آثار سالبة تمتد حتى عائلته شيء بشع، مؤسف ومرفوض إبتداء ً ويجعل الجميع بما فيهم محامي الدفاع نفسه يحسون بغير قليل من الذنب ولكننا نسعى نحو العدالة بما هو متاح لنا من وسائل والتي لا تغفل جانب المتهم فمن حقه أن يحظى بمحاكمة ٍ عادلة ٍ ويستفيد مما أباحه له القانون من دفوع وأضيف على سبيل الاستطراد أن غالبية الذين يقعون في قبضة الشرطة هم قتلة بالصدفة أو حتى مجبرين وفقا ً للموقف الذي وجدوا أنفسهم فيه دون ترتيب أو تدبير، ولو عادت بهم الأيام لتجنبوا الموقف ذاك بكل ما يقدرون عليه من جهد. وبالتالي فإن الظروف التي وضعتهم في هذا الموقف يجب أن تبحث وينظر إليها بعين ٍ منصفة. وهذا الواجب يقع على عاتق محامي الدفاع والذي يجب أن لا يجعل لعاطفته سبيلا ً تحول بينه وبين أداء واجبه بنزاهة ٍ واقتدار وهذا ما يتباين فيه المحامون وتظهر فيه تفاوت القدرات وطريقة استجواب الشهود وحضور البديهة داخل قاعة المحكمة للإستفادة من الدفوع القانونية المتاحة لتدعيم قضية الدفاع. 
   والدفوع القانونية هي ما يسميه العامة بـ(الثغرات) ويقولون على سبيل الذم والتجريم (القانون ثغرات والمحامون يستغلون الثغرات). وهذا ليس صحيحا ً فهي ليست ثغرات وإنما قواعد قانونية تنحى نحو العدالة استغرق الوصول إليها وتقنينها وإفراغها في القالب القانوني المنضبط مئات الأعوام من التجارب والكثير من التخبط والحيف. وتنقسم الدفوع في جريمة القتل إلى قسمين، الأول تكون نتيجته البراءة التامة للمتهم وإطلاق سراحه مثل حق الدفاع الشرعي والقسم الثاني من الدفوع يحيل الجريمة إلى قتل شبه عمد فتكون العقوبة السجن بضعة أعوام ٍ بدلا ً عن الإعدام، ومثاله القتل تحت تأثير الاستفزاز الشديد المفاجئ. فحين يثبت محامي الدفاع أن المتهم قد قتل المرحوم دفاعا ً عن نفسه أو ماله فإنه لا يستغل ثغرة ً بل يسد ثغرة كان من الممكن أن تتسرب منها العدالة بإعدام بريء وحين يثبت أمام المحكمة أن المرحوم كان يمارس الجنس مع زوجة المتهم في مجتمع محافظ وأن المتهم فقد السيطرة على أعصابه عند رؤية هذا المنظر وهجم على المرحوم وخنقه حتى الموت في مشهد ٍ أقرب إلى فقدان العقل فإن المحامي أيضا ً لا يستغل ثغرة بل يسد ثغرة كان من الممكن عند تجاهلها أن يستوي الحكم على هذا الرجل المعتدَى على عرضه بقطـَّاع الطرق. وكذلك حين يثبت محامي الدفاع أن المعركة بين المتهم والمرحوم امتدت لعدة كيلومترات تخللتها سبعة اشتباكات كان المتهم يتملص ويهرب والمرحوم يطارده فإنه يسد تلك الثغرة التي كان من الممكن أن تتسرب منها العدالة. 

ولكننا قد نقتل بريئا ً:

  قلنا ليس بوسع أي محام ٍ أن يبريء قاتلا ً وفقا ً لمعنى القتل أعلاه ولكن بذات الفهم قد يتسبب محامي الدفاع في إعدام موكله البريء إذا فكر بطريقة العامة وترك ممثل المدعي العام يختزل القضية في فعل القتل فقط والذي غالبا ً ما يكون ثابتا ً على موكله ففي هذه الحال يا روح عليك السلام. 
 إن عدم الاستفادة من تلك الدفوع أو هذه الثغرات كما يسميها العامة التي أفرزها واقع التطبيق وتجارب القانونيين الثرة في طريقهم نحو بلوغ العدالة هي الظلم والذي قد يؤدي إلى إعدام المتهم الذي كان سيبرأ إذا ما استطاع محاميه الاستفادة من تلك الدفوع واستجواب الشهود ومناقشة البينات ببديهة ٍ حاضرة وعقلية قانونية تربط بين وقائع وبينات وقواعد قانونية وأسباب إباحة يراها الآخرون بعيدة عن بعضها بعد الأرض عن السماء، عقلية قانونية تفرق بين القتل كفعل ٍ مادي والقتل الذي يستحق التجريم كما يراه القانون. وبالتالي فإن المحامي الذي يستطيع تكييف الأفعال والأقوال تكييفا ً قانونيا ً سليما ً ويقود المحاكمة من مراحلها الأولى نحو ذاك التكييف هو القادر على إنقاذ موكله من حبل المشنقة محققا في ذات الوقت العدالة وبالتالي يستحق هذا الماجد التكريم والتبجيل والثناء فلقد أنقذ بريئا ً من الإعدام حتى وإن بدت الصورة للآخرين غير ذلك. أما حين التقصير في هذا الواجب فإنه يتسبب في إعدام رجل ٍ برئ ٍ وفقا ً لقواعد العدالة، حتى وإن ارتكب ذلك الرجل القتل كفعل، وفي هذه الحالة فقط يستحق هذا المحامي أن يدعى عليه بالعذاب والويل والثبور فهو ليس سوى قاتل حتى ولو لم ينفذ فعل القتل بيديه بل نفذته السلطة على رجل ٍ كان يمكن بقليل من الجهد واليقظة والتحلي بالمسئولية من جانب محاميه أن ينعم بحياته.

وأين الإثنا عشر ؟! :

   قد يتساءل البعض أين أولئك القضاة الإثنا عشر الذين قلنا أنهم يحيلون دون تبرئة القاتل؟ أين هم من إعدام هذا البريء الذي خذله محاميه؟! فأقول إنهم حاضرون ولكن ليس بذات التأثير السابق إذ أن السادة القضاة يقضون بما هو ثابت في محضر المحاكمة المقامة أمامهم وبإشرافهم ملتزمين الحياد قدر استطاعتهم وليس لهم من الوقت بل ليس من اختصاصهم دراسة حالة كل متهم على حدا واعداد خطة دفاع لصالحه فهم ينظرون عشرات القضايا في اليوم الواحد وقد لا يرون محضر المحاكمة إلا عند حجز المحضر لإصدار الحكم أما ماذا يوجد في ذاك المحضر من بينات وأقوال ودفوع فهذه مهمة محامي الدفاع من جانب وممثل المدعي العام من الجانب الآخر والذي يسعى جاهدا ً لإعدام المتهم. وبالتالي ففي الحالة الأولى تتعرض تلك الدفوع المقدمة من محامي الدفاع وبيناتها والتي تؤدي للبراءة للفحص والتدقيق والنقد بواسطة السادة القضاة بينما في الحالة الثانية (عند تقصير المحامي وعدم إثارة تلك الدفوع وحشد البينات التي تدعمها) فإنه لا توجد في محضر المحاكمة دفوع أساسا ً حتى يتم فحصها أو تقييمها بواسطة السادة القضاة إنما توجد قضية إتهام تبدو محكمة أعدتها النيابة العامة والشرطة كأبدع ما يكون الإعداد لتقود إلى تجريم المتهم وإعدامه. وحتى حين يتم إثارة تلك الدفوع أو الثغرات كما يسميها العامة بواسطة السيد قاضي محكمة الموضوع كما هو معمول به في المحاكم السودانية عند تسبيب الحكم فغالبا ً ما يكون الغرض هو مناقشتها بغرض استبعادها إذ لا توجد في محضر الدعوى بينات ٌ تؤدي إلى استفادة المتهم من أحد تلك الدفوع.
الخرطوم – يناير 2014م        

هناك تعليق واحد: