الشـارع الواسـع يعـج ُّ بالشحـاذين وهـم يمدون أيديـهم النحيـلة نحـو الأرض متوسليـن السماء، عربـة البوليـس تطلـق صافرتها المزعجـة في إلحـاح ٍ محمـوم ٍ وهي تطـارد بعـض الصبيـة المشـردين، فتـاة ٌ ترتـدي نقـابا ً أسـود تجـادل بائـع الخضروات بصـوت ٍ مهمـوس، عجـوز ٌ يسيـر محنـي الظهـر وهـو يسبـِّح الله، امـرأة ٌ تلـقـم وليـدها ثديـها المنتـفخ وقـد استظلـَّت بجـدار مبنـى السينـما المتهـدِّم، فتـاة ٌ متـوردة الخديـن تسيـر كما النائـم، ودرويـش ٌ يعـتمـر "برنوسا ً" أخضـر وهـو يهمهـم بلغـة ٍ غيـر معروفة. الساعـة تجاوزت منتصف النهار بقليـل والشمس تشـوي وجـوه الجميع في إصـرار المتجبـِّر، سـرت ُ وأنـا استظل بالصحيفـة معامـدا ً إيـاها علـى رأسـي.
فـي المحطـة القديمـة لـم يكـن الكثيـرون يأبهـون بسيـاط الشمـس اللاهبـة، كانوا وقـوفـا ً وأعينهـم ترقـب فـي الكثير مـن القلـق والـرجاء مدخـل المحطـة، لـم أكـن لأفعـل مثلهـم، فسنـوات انتظـاري السابقـة على ذات المحطـة علمتـني أن لا فائـدة تعـود علي َّ مـن مطـاردة "الحافلـة" كي أحظى بمقعـد ٍ فيها، فـدائما ً ما كنـت ُ أتنـازل عـن ذاك المقعـد العـزيز في اللحظة الأخيـرة لامرأة ٍ لـم تكـن جميلـة، امـرأة ٌ متعبـة العينـين مضمخة ٌ برائحـة العـرق والتـراب ولـن ألتقـيها مجـددا ً، ودائمـا ً مـا كانت النسـوة يشكرنني ويدعـون لـي، ولكـن رغـم مـرور السنـوات لـم يستجـب الله لأي من تلك الدعـوات الطيبـات.
أسمع صـوت أزيـز ٍ آت ٍ مـن البعـيد ، يبـدو أن "الحافلة" تقـتـرب، يمـوج الجمـع مشمـرين عـن سواعدهـم، أرقـبهم ساخـرا ً، أبصـر عينـين طيبتـين تلحظانني في رجاء، أبـادل صاحبتـهما النظـرات، تبـتسم لي، يـرف ُّ قـلبي، أقـرر أن أخـوض تلك المعركـة مـن أجلها، مـن أجـل العينـين الطيبتـين والابتسامـة الجميلـة، أطوي الصحيفـة لأحـرِّر يـدي، أجـذب نفسـا ً عميقـا ً مـن الهـواء المتـرب، أجـد أن جيـبي لا يتـسع للصحيفـة، أرمي بها على الأرض بـلا مبالاة ثم أندفـع وسـط طوفان الأجسـاد لأقاتل مـن أجـل عيـني الأنثى الطيبتـين.
أندفـع في جسـارة منزلقـا ًوسط الجمـوع المتلاطمـة، العـرق الغـزير الذي يغطي الجميـع يساعدني كثيرا ً في مهمتي النبيـلة، جسدي ينـزلق بين الأجساد المبتـلة كما الأفعى، اتخطى الكثيرين مقـتربا ً من باب "الحافلة"، رفيقـتي خلفي مباشرة، يبدو أنها قد قررت ألا تكـتفي بدور المتفرج، أناملها المتشبـثـة بكتـفي تشحنني بمزيد ٍ من القـدرة والإصرار، يصارعني رجل ٌ ضخم الجثـة كث اللحية مشعثها على الباب، يصرعني متقدما ً، أحـس ُّ بالمرارة تسكـن حلـقي، التفت ُ نحـو رفيقـتي محاولا ً أن استـشف من عينيها مـدى خذلانها في رجولتي، العيـنان الطيبـتان لا تقولان شيئا ً، اندفـع نحـو الرجل ولكنـه يسبقـني إلى الباب، تعلـق جلابيـته البيضاء فـي أحـد المسامير الناتـئة فـلا يعيـرها انتباها ً، تتمـزق الجلابية بصـوت ٍ مسمـوع ٍ فلا يهـتم الرجل، بل يقـفـز ليلـقي بنـفسه في أقـرب مقعـد ٍ صادفه وهو يلهـث، أقـفـز ورفيقـتي خلفي نحـو المقعـد المجـاور، يبتسـم لنا الرجـل الضخـم وهـو يستـوي على ظهـر صيـده الثميـن ويتلـو مستشهـدا ً وعينـاه تبرقـان: (وَمـَن ْ يـَتــَّق ِ الله َ يَجـْعـَل لـَّه ُ مَخـْرجَا ً ويـَرزُقـْه ُ مِن ْ حـَيـْث ُ لا يـَحـْـتـَسـِب). فيضـج الجميـع وهـم يستـوون على مقاعـدهـم هاتفيـن : (الله أكبر).
تحرَّكت ْ "الحافلة ُ" بحملها القدسي متهادية ً على الدرب الأغبر وهي تطلق دخانا ً كثيفا ً ومن خلفها قبعت جموع ُ الخطاة والمنافقين تحت الهجير والغبار وعيونهم تتبعها بغيظ ٍ وحسد.
..............
تحرَّكت ْ "الحافلة ُ" بحملها القدسي متهادية ً على الدرب الأغبر وهي تطلق دخانا ً كثيفا ً ومن خلفها قبعت جموع ُ الخطاة والمنافقين تحت الهجير والغبار وعيونهم تتبعها بغيظ ٍ وحسد.
..............