..............................................................................................................................
أقسم (إزيرق) خفير المدرسة الثانوية أنه رأى
ثلاثة من تلك المخلوقات الغريبة وهي تعوي وتعوي نحو السماء في هستيريا وتصرخ في
شيطانيةٍ داعرة، ثم تنفث النار من أفواهها الهائلة فتحيل صخور الجبل إلى جداول من
الحمم الملتهبة، ثم ما تنفك أن تكرَّ وترغي وتزبد ثم تدور حول نفسها ذات اليمين
وذات اليسار وكأنها تبحث عن عدوٍ غير منظورٍ وهي تُطلق ضحكات صاخبة كريهة لتعود
تنفث النار من جديد محيلةً الفضاء إلى شعلةٍ ضخمةٍ من اللهب.
يروي الرجل حكايته بعد أن يتنحنح ويسلِّك صوته
جيداً والقوم جلوس حوله في صمت الموتى، لا يشي بحياتهم إلا أعينهم البراقة وهي تدور
في محاجرها بين لحظةٍ وأخرى. يلقي بنظراته عليهم واحداً واحداً وكأنه يعدُّهم ثم
يستغفر الله ليقول:
- لست ممن يتخيلون الحكايات وما أنا ممن تستهويهم
الأساطير. تعرفونني جيداً.
يصمت (إزيرق) هنيهةً كأنه يمنحهم فرصةً لتقييم
شخصيته على ضوء ما قال. يرى نظرات الرضا ترتسم على وجوههم وهم يتأملون صفحة وجهه
وعيونهم تنطق بالتصديق فيبسط الارتياح رداءه على وجه الرجل المتغضن ويواصل حديثه
قائلا:
- خرجت في الثلث الأخير من الليل، إنه شهر رمضان
كما تعلمون، تصفَّد فيه مردة الشياطين وتنزل فيه ملائكة الرحمة إلى الأرض. أليس
كذلك يا شيخ (إسحق)؟
قالها
ونظراته تتجه نحو (إسحق ود الدقنية) إمام المسجد العتيق فيهز الأخير رأسه ومسبحته
الطويلة مؤكداً صدق المعلومة وقداستها فيضيف الرجل:
- كل ذلك طمأنني وجعلني اقترب من الجبل الملعون،
ولكن يبدو أن تلك المخلوقات أكثر عفرتةً من مردة الشياطين.
يلتفت
نحو الحاضرين ليمسح وجوههم بنظراته الواثقة ثم يضيف:
- كنت قد شربت بعض "السنامكة". تعرفون
ما يحدث في مثل هذه الحال.
يصمت
الرجل طويلاً وهو يمشط لحيته الكثة بأطراف أصابعه هوْنا وقد ضاقت عيناه وتركزت
نظراتهما في نقطة وهمية على الأفق ثم يواصل حديثه بعد صمتٍ مشحون بالترقُّب ليقول:
- ثلاثة من شياطين الجحيم انتصبت أمامي فجأةً
وكأنما خرجت من باطن الأرض كان أحدها أنثى بالتأكيد فلقد بدا صراخه الجنوني حاداً
رفيعاً كأصوات النساء.
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
يحوقل
(إسحق ود الدقنية) وهو يصلح من وضع الملفحة البيضاء على عنقه الطويل النحيل فيبدو
جلد رقبته داكن السواد ومتغضناً بينما بقية القوم صامتون ساكنون وأعينهم تتفحص وجه
المتحدث وكأنهم يستعجلونه. كانوا يومها جلوساً في باحة المسجد العتيق وقد شغلوا
ثلاثة من "بروش" السعف البالية ذلك بعد أن صلوا العصر ودعوا طويلاً بعد
الباقيات الصالحات. عددهم لم يتجاوز الاثني عشر رجلاً تناثروا هنا وهناك دون نظام
وهم ينصتون للمتحدث باهتمام. يواصل (إزيرق) حديثه قائلاً:
- أفواهها ضخمة كما بين السماء والأرض، وعيونها
نارية ملتهبة بينما تدب على آلاف الأقدام الصغيرة المسننة وهي تهرول نحو الجبل
والصخور الصغيرة تتفتت في صريرٍ مريرٍ تحت وقع أقدامها الهائلة.
يصمت
الرجل طويلاً ومن حوله شاخصة أبصارهم نحو شفتيه في ترقُّب، يصلح من جلسته على
الأرض ممكِّناً مقعدته منها بعد أن أرخى جسده المشدود، ومن ثم يخلع طاقيته المتسخة
ويلقيها إلى جانبه على "البرش" بلا مبالاة، ليعود بعد هنيهةٍ يلتقطها
مرةً أخرى ويضعها على رأسه ومن ثم يكمل قصته وقد خفت صوته حتى أضحى كالهمس قائلاً:
- جلست على الأرض وأنا أستعيذ بالله من الشيطان
الرجيم وعيناي لا تفارقان المخلوقات التي أخذت تتقدم نحو الجبل وهي تزمجر وتنفث
النار والكبريت نحو القمة لتحيلها إلى شعلةٍ هائلةٍ من الجحيم.
- وماذا عن المخلوقات الأخرى؟!
يقاطعه
(أحمد تيراب) شابٌ في العشرين من عمره، آدم البشرة مفتول الساعدين، يبدو وكأنه قد
سمع تلك القصة من قبل. فيجيب الرجل:
- لم أرَ المخلوقات الأخرى تلك اللحظة ولكن
صراخها الأليم وحشرجة عذابهم وصلت إلى أذني بوضوح شديد. يبدو أن النار قد أتت على
الكثيرين منهم. كانت المخلوقات الأخرى تقذف نظيراتها الثلاثة بوابل من الصخور
الضخمة تماثل أي منها حجم بيتٍ كبير ولكن وا عجبي لم تكن تؤثر في الشياطين الثلاثة
كثيراً.
- لذا فلقد اختار الله عزَّ وجل النار لتعذيب
الشياطين فهي الوسيلة الوحيدة الملائمة. وحدها التي تستطيع أن تؤذيهم.
يتدخل
(ود الدقنية) بالعبارة إياها مقاطعاً ثم يتلو بعض الآيات الكريمة التي تؤكد ذات
المعنى. يطاطيء الحاضرون رؤسهم وهم يستمعون إلى تلاوة الشيخ في أدب ثم يرددون معه
بصوت مهيب: "صدق الله العظيم".
يصمت
(إزيرق) هنيهةً وكأنه يرتِّب أفكاره، يلقي نظرةً عميقةً متأملةً على القطاطي
القريبة التي تطل من وراء الجدار المتهدم للمسجد وكأنه يهمُّ بأمرٍ ما ثم يصلح من
وضع طاقيته الخضراء التي مالت إلى الأمام قليلاً ليواصل مكملاً حديثه السابق وقد
اكتسب صوته تعبيراً مبهماً:
- كانت الغلبة ستكون لشياطين السفح الثلاثة على
شياطين القمة ولكن فجأةً إذا بشياطين القمة تنبعث من عمق الفراغ بأعدادٍ هائلة. في
تلك اللحظة فقط، رأيتهم. مخلوقات صغيرة ضئيلة لا يجاوز حجم أي منها حجم فأر صغير،
رأيتهم على وهج النيران الكثيفة يتجمعون في القمة مئات المئات، لا، بل آلاف الآلاف
ثم ينحدرون نحو السفح مهاجمين الشياطين الثلاثة في شجاعة اليائس والمخلوقات
الثلاثة تقذفهم بوابل من الكبريت الملتهب والنيران فلا يتراجعون. وحينما وصل
أسرعهم إلى السفح كان نصفهم قد قضى وانفلتت المخلوقات الثلاثة تعدو هاربةً نحو
الشمال وصراخها يعانق السماء.
تتسع
ابتسامات الحاضرين بعد تلك العبارة مما يشي بأنهم ينحازون إلى شياطين القمة، أولئك
الأقزام الصغار كفئران الجبل كما وصفهم المتحدث بينما تغوص نظرات (ود الدقنية)
عميقاً خلف السحاب. ليتساءل أحد الحاضرين وعيناه تلمعان جذلاً:
- ألم يطاردهم الأقزام؟ ألم يقضوا عليهم؟ تلك
الأنثى بنت الكلب.!
ولا
يرد (إزيرق) مباشرةً بل يصمت هنيهةً وعيناه تتعلقان بالأفق البعيد ثم يعود يتفحص
الأرض أمامه وكأنه يبحث عن شيء ما. وتمتد كفه في آليةٍ ليمسح على راحة قدمه
السوداء جيئةً وذهابا ويخلل أصابعها في شرود. يتململ الحاضرون في انتظار الإجابة
التي تأخرت طويلاً يرفع الرجل عينيه ليواجههم ثم تنزلق الكلمات من بين شفتيه بصوتٍ
عميقٍ مهموس:
- كانت الأنثى أبطأ رفيقيها حركة. أحاط بها
شياطين القمة، أولئك الأقزام الشجعان وأضرموا فيها النيران ثم انفلتوا عائدين إلى
مغاراتهم المظلمة ببطن الجبل.
- الله أكبر.
هكذا
يهتف (أحمد تيراب) في خاتمة القصة. يكون حينها (إزيرق) قد اعتدل ليَهِمَّ بالنهوض.
فيهبَّون مندفعين ليسبقوه نحو أحذيتهم المتناثرة هنا وهناك قرب "البرش"،
يلبسونها في عجلةٍ واضطراب وهم صامتون بينما وجوههم تشي بتعابير غريبة ثم يسيرون
في ركاب الرجل حتى باب منزله. وفي الطريق يعودون ليتحاوروا في القصة من جديد. يطلب
منه بعضهم إعادة جزءٍ معين منها ويسأله آخرون عن بعض التفاصيل فيجيبهم الرجل
موضحاً وعيناه تشيآن بما يحس به من غبطة وسرور ثم يودعونه أخيراً وما زالت برؤسهم
الكثير من التساؤلات.
من رواية (الرسالة إلى مؤمني توكتو) مارس 2009 - أكتوبر 2011م الصفحات 12- 15