وكان لي ولع ٌ باكر ٌ بكل ما هو غريب، أبحث عن مواطن الدهشة البكر في كل مكان، وإن لم أجدها أرتحل إليها في فيافي الخيال فآخذ بنصيب ٍ وافر ٍ منها دون رهق.


أهل قريتنا أخذوا يتعاملون مع الشيخ (عبد القادر) بشيء ٍ من
الحذر. الكثيرون يقولون أنه "طـَلـَس ْ مـَلـَص ْ" وهي عبارة ٌ لا أدري
لها معنى ولكن دلالتها تشير إلى نوع ٍ من القوى الخارقة لا يرضاه الله. ولا أظن أن
شخصا ً مثلي كان يبحث جاهدا ً عن مردة الشياطين ليتتلمذ على يديهم يهمه مصدر تلك
القوى التي يملكها الشيخ (عبد القادر)، لذا لم أتردد قط في السعي إليه.

- سأمنحك ما تريد ولكنه ليس طريقك.
ألجمتني
الدهشة للحظات ثم بدا لي أن الرجل ربما استنتج مطلبي بطريقة ٍ ما، بينما كانت الابتسامة
الغامضة ترتسم على شفتيه. وحلق الصمت بيننا طويلا ً ثم عاد الرجل يلقي بشبكته في
الماء فتتكسر أشعة الشمس المنعكسة على سطحه ويتطاير بعض الرزاز. بدا لي تلك اللحظة
وكأن الشبكة ستخرج بعد قليل حاملة ً بين طياتها "القلـة" التي يختبيء
فيها ذلك المارد العجيب. ضحك (الشيخ) وهو يخاطبني بقوله :
- إنها مجرد قصة خيالية في
المنهج الدراسي.
رغم أن دواخلي قد تزلزلت من قراءة الرجل لأفكاري إلا أنني تظاهرت
بعدم الفهم. فأجبته متسائلا ً وأنا أشيح بوجهي بعيدا ً عن عينيه الثاقبتين :
- أي قصة؟!
- أي قصة ؟!! يالك من ماكر..!
قالها وهو يطلق ضحكة ً عريضة ً ردد صداها النيل الساكن.
ثم أضاف قائلا ً :
- البركة ما في الحروف، البركة في الكفوف.
وكانت العبارة واضحة لا
تحتاج إلى كبير ذكاء ٍ لفهمها وتناسبني تماما ً بل هي ما ظللت أبحث عنه طوال تلك
السنوات الخائبة من عمري. فأبديت موافقتي متلهفا ً على نقل تلك البركة لي بواسطة كف
الشيخ (عبد القادر).

- مبروك ..!

- حين تضيق بها،
ارسل الأمانة إلى الأعلى وستجد من يلتقطها.
قالها وهو يناولني المسبحة العطرة
وابتسامته المضيئة لا تفارق شفتيه. ثم وضع شبكته المبتلة على كتفه وحمل السلة الفارغة بيده اليسرى دون أن يهتم بمواصلة الصيد.
وكنت ممتلئا ً بالسعادة الحلوة حد الإثمال، سعادة ٌ
صافية ٌ لا أدري كنهها وإحساس ٌ عميق ٌ بالقوة والقدرة والتفوق يحتويني ليبدو الكون
كله صغيرا ً ضئيلا ً أمام عيني َّ. وكان أول ما خطر ببالي بعد أن ذهب (الشيخ)
وتركني في جلستي تلك قرب النهر هو أن أجرب ما أكتسبت من أنوار ٍ شعشعانية ٍ وقدرات
ٍ فريدة. تلفت حولي فرأيت حلزونا ً نشطا ً يسعى على الرمل الندي فأمرته دون تردد بالتوقف
فانصاع المسكين للأمر في الحال، ثم أمرته بعد هنيهة ٍ أن يواصل المسير فانطلق يعدو
بخطوات ٍ نشطة. وانفجرت بالضحك ومن ثم عدت آمره أن "يتشقلب" على ظهره ففعلها
البائس دون أن يحتج على عبثية هذا الطلب.


- فلتكسر الخبز وتشكر يا شيخنا وتطعمنا جميعا ً أو فلتنزل علينا
مائدة من السماء تكون عيدا ً لنا..!
رغم أنه لم يفتني ما في الطلب من سخرية إلا
أنه مس َّ مكانا ً ما من قلبي فانقبض ليدهمني بعدها حزن ٌ طاغ ٍ ثم بدا لي وكأن
هنالك من يضحن قلبي بين شقي رحى. وانفجر الجميع ضاحكين بغير سرور وانتزعت الضحكة
آهة ً كبيرة ً من (عاصم) سببها ضلعه المكسور حيث لم تفرِّق هراوات الشرطة الغليظة ذلك
اليوم بين ظهر الشاب وصدره. وتولت (أروى) الرد إنابة ً عني وهي تلحظني بعينيها
الجميلتين قائلة ً:
- ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان..!
أخذت أفكر في عبارتها وعيناي
تتجولان في عيونهم المتعبة متفحصا ً، كان أثر الجوع والرهق باديا ً على وجوههم المجهدة،
وكنت مثلهم لم أطعم منذ يومين ولكنني لم أكن أحس بألم الجوع تلك الأيام ربما هو
ذلك القدر الكبير من الزجاج الذي كنت ألتهمه طوال الوقت يمنحني إحساسا ً موهوما ً
بالشبع، أو ربما كان أهل السِلـْسِلـَّة وكبار الأقطاب والمشائخ الذين بايعتهم ذلك
اليوم قرب النهر يطعمونني أثناء نومي دون أن أدري. بدا لي استشهاد الفتاة بتلك المقولة حينها باردا
ً مفتعلا ً يجسد أعلى درجات التجهيل المتعمد والمكابرة. ولم أعلـِّق، أخذت ألتقط
خطواتي مبتعدا ً متبلد الذهن وإحساس ٌ طاغ ٍ بالضياع يوخذ عقلي بين آونة ٍ وأخرى.


الخرطوم مايو
2013م.