وكان لي ولع ٌ باكر ٌ بكل ما هو غريب، أبحث عن مواطن الدهشة البكر في كل مكان، وإن لم أجدها أرتحل إليها في فيافي الخيال فآخذ بنصيب ٍ وافر ٍ منها دون رهق.
وسيطر علي َّ حلم ٌ عظيم
ٌ في تلك السنوات البعيدة من العمر وهو امتلاك القوى الخارقة. فما أروع التحليق عاليا ً في
الفضاء والاختباء خلف السحاب أو السير على الماء أو طي الأرض، والأخيرة هذه كانت
من أعظم أمنياتي فما أجمل أن تصبح في (باريس) وتضحى في (الهند) ثم تمسي في (واشنطون)
ثم إلى كوخنا في الغابة. كنت أعلم أن لا سبيل إلى ذلك إلا بأحد أمرين، إما التقرب
إلى الله بالانتظام في سلك القوم أو الإتصال بالجن والشياطين. والأولى تتطلب صبرا
ً وجهدا ً ومغالبة ً للنفس لم أكن من رجالها، ويذهدني فيها أكثر ما يلاقيه أبي من
عنت ٍ ومشقة ٍ وسهر ٍ يقوم فيه الليل ذاكرا ً حامدا ً ومسبحا ً ولا أرى منه بعد كل
هذا ما أحرص على امتلاكه من قوى. لذا فإن الخيار الثاني كان هو الأقرب إلى نفسي
ويحببه إلي َّ ما فيه من تحد ٍ ومغامرة ٍ وركوب الصعاب تتناسب وتلك السنوات من
العمر. فكنت كثيرا ً ما أخرج في هدأة الليل إلى الخلاء الموحش شمال قريتنا، أبحث
عن الجن والشياطين الذين يقول الكبار أنهم يسكنون شجيرات "الكتر"
و"اللعوت"، أناديهم بتلك الأسماء الشائعة (شمخروش) و(جلجموش) و(القطمير)
فلا يجيبني إلا الصدى، وقد يدهمني النعاس فأفترش الأرض ملتحفا ً السماء لأنام قرب
تلك الشجيرات شحيحة الأوراق حتى الصباح دون أن يفكر أحد ٌ من تلك المخلوقات في
الاتصال بي أو إزعاجي.
ومرت السنوات والتحقت بالجامعة وعرفت الكثير وتغيرت كثيرا ً
ولكن ظل حلمي بامتلاك القوى الخارقة يزداد ضراوة ً وإلحاحا ً. وكان أن التقيت بالرجل في صيف سنة 1998م وهو
أحد أقاربي غاب عن الوطن لأكثر من عشرين عاما ً. ولم يكن الرجل قد عاد من مغتربه
بدرهم ٍ ولا دينار، فقط بتلك النظرة الثاقبة التي تشعرك أنك عار ٍ أمامه تماما ً، والكثير
من خوارق العادات.
أهل قريتنا أخذوا يتعاملون مع الشيخ (عبد القادر) بشيء ٍ من
الحذر. الكثيرون يقولون أنه "طـَلـَس ْ مـَلـَص ْ" وهي عبارة ٌ لا أدري
لها معنى ولكن دلالتها تشير إلى نوع ٍ من القوى الخارقة لا يرضاه الله. ولا أظن أن
شخصا ً مثلي كان يبحث جاهدا ً عن مردة الشياطين ليتتلمذ على يديهم يهمه مصدر تلك
القوى التي يملكها الشيخ (عبد القادر)، لذا لم أتردد قط في السعي إليه.
في ذلك
الصباح وجدته كعادته شرق القرية وقد ألقى بشبكته الصغيرة في النهر ولبث ساكنا ً
ينتظر الرزق وهو يردد بعض الأذكار. ألقيت عليه التحية بصوت ٍ خفيض ٍ لم يخلو من
توتر فرد الرجل هاشا ً باشا ً وعيناه الوضيئتان تحتويني بالكثير من العناية. أخرج الشبكة من
الماء بتأن ٍ، لم تكن قد اصطادت سوى سمكة "بلطي" صغيرة ٍ تأملها الرجل
هنيهة ً ثم أعادها إلى الماء وهو يبتسم دون سبب ٍ واضح. قال لي بعد فترة من الصمت
كنت أبحث خلالها عن مدخل مناسب للحديث فلا أجد :
- سأمنحك ما تريد ولكنه ليس طريقك.
ألجمتني
الدهشة للحظات ثم بدا لي أن الرجل ربما استنتج مطلبي بطريقة ٍ ما، بينما كانت الابتسامة
الغامضة ترتسم على شفتيه. وحلق الصمت بيننا طويلا ً ثم عاد الرجل يلقي بشبكته في
الماء فتتكسر أشعة الشمس المنعكسة على سطحه ويتطاير بعض الرزاز. بدا لي تلك اللحظة
وكأن الشبكة ستخرج بعد قليل حاملة ً بين طياتها "القلـة" التي يختبيء
فيها ذلك المارد العجيب. ضحك (الشيخ) وهو يخاطبني بقوله :
- إنها مجرد قصة خيالية في
المنهج الدراسي.
رغم أن دواخلي قد تزلزلت من قراءة الرجل لأفكاري إلا أنني تظاهرت
بعدم الفهم. فأجبته متسائلا ً وأنا أشيح بوجهي بعيدا ً عن عينيه الثاقبتين :
- أي قصة؟!
- أي قصة ؟!! يالك من ماكر..!
قالها وهو يطلق ضحكة ً عريضة ً ردد صداها النيل الساكن.
ثم أضاف قائلا ً :
- البركة ما في الحروف، البركة في الكفوف.
وكانت العبارة واضحة لا
تحتاج إلى كبير ذكاء ٍ لفهمها وتناسبني تماما ً بل هي ما ظللت أبحث عنه طوال تلك
السنوات الخائبة من عمري. فأبديت موافقتي متلهفا ً على نقل تلك البركة لي بواسطة كف
الشيخ (عبد القادر).
وجلسنا متربعين متقابلين على الرمل الندي، أنا أواجه القبلة
وهو يوليها ظهره، كفي اليمنى في كفه وعيناه السحريتان تغوصان عميقا ً في عيني وأنا
أردد خلفه الشهادتين وأبايع أهل السِلـْسِلـَّة من لدن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وحتى الرجل الجالس الآن قبالتي. وأخذت الاسماء تترى من بين شفتي (الشيخ) في
ترتيب ٍ مدروس وأنا أردد خلفه مبايعا ً في حماس. أسماء تجاوزت في مجملها المائة
بقليل، بعضها واضح ٌ ومألوف ٌ لدي َّ وبعضها بدا غريبا ً على مسمعي وكأنها تخص ُّ أمما
ً أخرى، بعضها لأصحاب نسب ٍ شريف ٍ مقدس ٍ وبعضها لرجال ٍ من عامة الشعب وبسطائهم،
بعضها لثوار ٍ سعوا إلى الاصلاح بالسيف وبعضها لحالمين لم يهتموا إلا بخلاص أنفسهم،
بعضها لفلاسفة عظام اتهموا بالكفر وبعضها لدراويش يتبولون في سراويلهم دون أدنى
حرج. ولا أدري كيف تجمع هذه السِلـْسِلـَّة العظيمة التي أبايعها تلك اللحظة كل
هذه التناقضات. بغتة ً أخذ جسدي يشف ويشف وعيناي تثقلان وتثقلان، غاب الشيخ والنهر
والشبكة ولاح أمامي عالم ٌ آخر ٌ وسيم ٌ مقدس ٌ وساحر. بدت الجنان السبع وما حوت
من النعم المدهشة التي تخلب الألباب ماثلة ً أمامي بينما ضحكات ساكنيها الشفيفة
وشقشقة أصواتهم تصل إلى أذني في نعومة ٍ محببة، والنيران السبع فاغرة ً فاهها
تنتظر الزائرين. وغبت عما حولي لفترة لا أعرف مداها. ثم جاءني صوت (الشيخ) هامسا ً :
- مبروك ..!
انتبهت على تهنئته الرقيقة كمن يستيقظ بعد سبات ٍ دام ملايين السنين.
فوجدته يبتسم بالكثير من المحبة والاعزاز ثم خاطبني بعد هنيهة ٍ :
- حين تضيق بها،
ارسل الأمانة إلى الأعلى وستجد من يلتقطها.
قالها وهو يناولني المسبحة العطرة
وابتسامته المضيئة لا تفارق شفتيه. ثم وضع شبكته المبتلة على كتفه وحمل السلة الفارغة بيده اليسرى دون أن يهتم بمواصلة الصيد.
وكنت ممتلئا ً بالسعادة الحلوة حد الإثمال، سعادة ٌ
صافية ٌ لا أدري كنهها وإحساس ٌ عميق ٌ بالقوة والقدرة والتفوق يحتويني ليبدو الكون
كله صغيرا ً ضئيلا ً أمام عيني َّ. وكان أول ما خطر ببالي بعد أن ذهب (الشيخ)
وتركني في جلستي تلك قرب النهر هو أن أجرب ما أكتسبت من أنوار ٍ شعشعانية ٍ وقدرات
ٍ فريدة. تلفت حولي فرأيت حلزونا ً نشطا ً يسعى على الرمل الندي فأمرته دون تردد بالتوقف
فانصاع المسكين للأمر في الحال، ثم أمرته بعد هنيهة ٍ أن يواصل المسير فانطلق يعدو
بخطوات ٍ نشطة. وانفجرت بالضحك ومن ثم عدت آمره أن "يتشقلب" على ظهره ففعلها
البائس دون أن يحتج على عبثية هذا الطلب.
وما كادت قدماي تطآن حرم الجامعة بعد عدة
أيام ٍ حتى أخذت استعرض مهاراتي تلك على الأصدقاء بالكثير من الزهو. ألتهم الزجاج وأطعن
قلبي ورأسي بالخناجر وأخرج كليتي لأنظفها من الحصاوى وأحيانا ً أصعق خصومي بتيار ٍ
كهربائي عالي التردد وفي بعض الأوقات التي يكون مزاجي فيها رائقا ً أنادي الفراشات
الملونة لتحط على صدر الحبيبة. وفشا أمري بين الزملاء وأصبح لي الكثير من المعجبين
والأتباع وحزت على رضا الكثير من الحسان، والاحساس المفعم بالسعادة والقدرة ينمو
ويزهر في داخلي يوما ً بعد يوم.
في جلستهم الوقورة تحت شجر "اللبخ"
العتيقة أمام كافتريا الكلية، بدوا لي في ذلك النهار الغائظ وكأنهم قد شاخوا فجأة
ً. كانوا ثمانية طلاب وست طالبات عادوا لتوهم من مظاهرة اشتركوا فيها مع الآخرين ووصلوا
حتى مبنى البلدية وأضرموا فيه النيران محتجين على إلغاء الحكومة لمجانية السكن
والإعاشة التي كان معمولا ً بها في الجامعة من قبل. ذهبوا يحتجون أمام مباني
الحكومة على ما يلاقونه من تشريد وتجويع يطردهم عن مقاعد الدراسة فتصدت لهم قوات
الأمن بالكثير من القسوة فجزوها بمثلها. ثم عادوا يحاولون جاهدين تدبير ثمن الطعام
وما أصعبها من مهمة. خاطبني (هيثم إشتراكية) وهو يلحظني بعينين محمرتين من أثر
الغاز المسيل للدموع :
- فلتكسر الخبز وتشكر يا شيخنا وتطعمنا جميعا ً أو فلتنزل علينا
مائدة من السماء تكون عيدا ً لنا..!
رغم أنه لم يفتني ما في الطلب من سخرية إلا
أنه مس َّ مكانا ً ما من قلبي فانقبض ليدهمني بعدها حزن ٌ طاغ ٍ ثم بدا لي وكأن
هنالك من يضحن قلبي بين شقي رحى. وانفجر الجميع ضاحكين بغير سرور وانتزعت الضحكة
آهة ً كبيرة ً من (عاصم) سببها ضلعه المكسور حيث لم تفرِّق هراوات الشرطة الغليظة ذلك
اليوم بين ظهر الشاب وصدره. وتولت (أروى) الرد إنابة ً عني وهي تلحظني بعينيها
الجميلتين قائلة ً:
- ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان..!
أخذت أفكر في عبارتها وعيناي
تتجولان في عيونهم المتعبة متفحصا ً، كان أثر الجوع والرهق باديا ً على وجوههم المجهدة،
وكنت مثلهم لم أطعم منذ يومين ولكنني لم أكن أحس بألم الجوع تلك الأيام ربما هو
ذلك القدر الكبير من الزجاج الذي كنت ألتهمه طوال الوقت يمنحني إحساسا ً موهوما ً
بالشبع، أو ربما كان أهل السِلـْسِلـَّة وكبار الأقطاب والمشائخ الذين بايعتهم ذلك
اليوم قرب النهر يطعمونني أثناء نومي دون أن أدري. بدا لي استشهاد الفتاة بتلك المقولة حينها باردا
ً مفتعلا ً يجسد أعلى درجات التجهيل المتعمد والمكابرة. ولم أعلـِّق، أخذت ألتقط
خطواتي مبتعدا ً متبلد الذهن وإحساس ٌ طاغ ٍ بالضياع يوخذ عقلي بين آونة ٍ وأخرى.
قادتني
قدماي إلى الميدان الشرقي للجامعة كان "الفايكس" العتيد يلحظني واجما ً بينما بدت
أشواك "الجهنمية" محمرة الأطراف وكأنها ارتوت من دماء أحدهم للتو. كان أحد الأطفال
المشردين ينبش القمامة متأنيا ً بينما إحدى القطط النحيلة تقف إلى جانبه تتابع
حركات يديه في توتر وهي تنتظر دورها. أخرجت المسبحة الأنيقة من جيبي تأملتها طويلا
ً ثم قذفت بها عاليا ً إلى السماء فانطلقت تشق الفراغ في حركة ٍ أفعوانية ٍ غريبة
ٍ متجهة ً إلى الأعلى في تصميم. أخذت اتتبعها وهي تصغر وتصغر حتى اختفت في الفضاء
البعيد.
وبعد يومين كنت اتدرع حقيبتي الدراسية الثقيلة وقد ازدحمت ْ بقنابل "الملوتوف" وأنا أمشي على الـ"مين رود" بخطوات ٍ موقعة ٍ وأرد على تحايا الزملاء والزميلات من حولي رافعا ً كفي، مشدود القامة فلقد كان الخنجر الذي خبأته تحت الحزام يتعامد مع بطني ويمنعني من الإنحناء. ثم علا الـ"كولنق" من الزميل (أبو شيبة) خلفي يدعو جميع الطلاب والطالبات لحضور مخاطبة ٍ سياسية ٍ هامة، فابتسمت في سعادة ٍ حقيقية ٍ وإحساس ٌ عميق ٌ بالهدوء والسكينة يغمر قلبي.
وبعد يومين كنت اتدرع حقيبتي الدراسية الثقيلة وقد ازدحمت ْ بقنابل "الملوتوف" وأنا أمشي على الـ"مين رود" بخطوات ٍ موقعة ٍ وأرد على تحايا الزملاء والزميلات من حولي رافعا ً كفي، مشدود القامة فلقد كان الخنجر الذي خبأته تحت الحزام يتعامد مع بطني ويمنعني من الإنحناء. ثم علا الـ"كولنق" من الزميل (أبو شيبة) خلفي يدعو جميع الطلاب والطالبات لحضور مخاطبة ٍ سياسية ٍ هامة، فابتسمت في سعادة ٍ حقيقية ٍ وإحساس ٌ عميق ٌ بالهدوء والسكينة يغمر قلبي.
الخرطوم مايو
2013م.