التسميات

السبت، 17 أغسطس 2013

جارك القريب ولا ولد أمك البعيد - حول تسفيه الوطنية

  هذه الحكمة السودانية القديمة التي عنونا بها هذا المقال والتي تعلي الجيرة على رابطة الدم تعتبر عندي تعريف مانع جامع لكلمة الوطنية وما يتبعها من ترتيبات حقوقية  تقوم على ذات الأساس دون الغوص في المصطلحات الأكاديمية الضخمة والمعقدة، فالجيران بحكم الرقعة الجغرافية الواحدة التي تضمهم والسكنى والمعاشرة والتزاور والتراحم الذي تفرضه عليهم وحدة المكان غالبا ً ما تتوحد مصالحهم وأهدافهم وآمالهم وأحلامهم ومشاعرهم حتى، فتراهم يتفقدون بعضهم البعض ويقيلون عثرات بعضهم البعض ويساندون بعضهم البعض. والمقولة في نتيجتها النهائية تؤسس ببساطة محكمة للعلاقة بين القاطنين في رقعة جغرافية معينة يتقاسمون حلوها ومرها وخيرها وشرها ويعملون جميعهم من أجل بنائها ورفعتها وتطويرها لتكون الوطن. وعلى هذا الأساس يجب أن تؤسس العلاقة بين أبناء الوطن الواحد في مستواها الداخلي على المساواة التامة بينهم إذ أنهم أصحاب الحق الوحيد والأصيل في ثرواته غض النظر عن دينهم أو لونهم أو عرقهم أو لغتهم إذ أن الثروات الوطنية هي نتاج الجهد المشترك لجميع ابناء الوطن فيجب أن يقطف ثمارها جميع أبنائه دون تمييز وذات الرؤية تحتم تمتع جميع المواطنين بحريتهم الدينية والفكرية والثقافية .. إلخ دون تمييز بينهم إذ أنهم يستوون في  المواطنة والتي هي منشأ الحقوق. وعلى المستوى الخارجي فإن اعتماد الوطن كمقياس يؤدى إلى نتيجة أن أبنائه هم الأولى بالمعروف وهذا يعني أن تتخذ السياسة الخارجية للدولة على ذات الأساس بأن تكون الأولوية لمصلحة الوطن كرقعة جغرافية وكيان سياسي معتبر وشعب بعيدا ً عن أي اعتبار آخر. وأي ايدلوجيا أو برنامج أو دعوة تتجاهل هذه الحقيقة البينة والواضحة وتحاول أن تؤسس برنامجها وأدبياتها على أساس يتجاهل ذلك أو يزدريه أو يقلل من شأنه أو لا يعترف به معتمدا ً على شكل آخر من أشكال العلاقات لبناء الدولة كالدين أو العرق أو المذهب أو الطائفة ستكلل بالفشل الزريع. فمهما غنى المغني - في ما يسمى (سياسيا ً) بالوطن العربي - لوحدة اللغة والمصير المشترك ووحدة الهدف، ومهما هتف الهاتف - في أرض الاسلام (كمصطلح ديني) - بمقولات براقة عن دولة الخلافة الراشدة المنتظرة أو الدولة الاسلامية التي تتجاهل الوطن بحدوده السياسية المعروفة وتزدري المواطنة وما يترتب عليها معتمدة على رابط الدين الذي "لا تحده الحدود المصطنعة" كما يقولون فإن محصلتها النهائية الصفرية وما تجره خلفها من ويلات عند محاولة إنزالها على الأرض كما خبرنا جميعا ً (السودان – العراق – مصر) نموذجا ً - يبين خطل تلك الاتجاهات وعدم صلاحيتها لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية داخل الوطن الواحد أو بين الشعوب المستهدفة بها في المنطقة سواء أن كانوا مسلمين أو عربا ً بل وفشلها الزريع في تحقيق ما تسعى إليه من أهداف عليا إن كانت لها أهداف حقيقية قابلة للتحقق. والسبب بسيط جدا ً - في تقديري - إذ أن الواقع على الأرض يختلف تماما ً عما يحلم به الحالمون وينظـِّر حوله المنظرون سواء أن كانوا اسلاميين أو قوميين عرب أو مذهبيين أو غيرهم إذ لا يوجد أي تجانس بين مكونات تلك المجتمعات يعين على تطبيق مثل هذه الاتجاهات ولا تتطابق مصالح سكان القطر الواحد أجمعهم مع مصالح بقية الأقطار ففي جميع الدول العربية (كمسمى سياسي) يوجد فئات مقدرة من عرقيات أخرى قد تتعارض مصالحها كمواطنين داخل أوطانهم مع أحلام النخبة العربية التي تنادي بالقومية وفي جميع الأقطار الاسلامية (كمسمى ديني) يوجد أقوام من أديان أخرى قد تتعارض مصالحهم أو حتى وجودهم المادي على ظهر هذه الأرض مع ما يلهج به الداعون لدولة الخلافة الراشدة أو دولة إسلامية هي في نتيجتها النهائية اعتماد ثقافة شبه الجزيرة العربية في مرحلة تاريخية معينة كمرجعية دينية سياسية اقتصادية اجتماعية ومقياس جامع مانع لما يجب أن تكون عليه الحياة الحقة التي تكفل النعيم في الدارين. هذه الرؤية الأحادية ستتعارض بكل تأكيد مع الكثير من المفاهيم الاقتصادية الاجتماعية الثقافية في الأقطار الأخرى بل في دول شبه الجزيرة العربية نفسها بحكم عاملي الزمان والمكان. بل أن هذه الرؤية ليست متفق على أساسياتها بين دعاتها إذ أن المسلمين أنفسهم منقسمون إلى مذهبين كبيرين يمتلك كل منهما رؤية تتعارض مع الآخر ويحاول كل منهما نفي الآخر وإلغاء وجوده (العراق – سوريا) - نموذجا ً ولا تقل لي أن برنامجك لم يهمل غير العرب وخصص لهم فصلا ً أو فصولا ً حول حقوقهم وواجباتهم وكيفية التعامل معهم إذ أن هذا التبرير لهو أكبر دليل على اختلال الميزان وانعدام العدالة والتمييز السالب إذ كيف تجعل من نفسك الأصل أو المركز الذي يسن مثل هذه القرارات وتحدد لي موقعي محجما ً وجودي في دولة واحدة نكدح ونكد معا ً من أجل بنائها ورفعتها ؟! وما الذي يمنعني أنا غير المسلم أو غير العربي في أن اتبنى برنامجا ً مضادا ً أكون أنا مركزه وعلى الهامش أحدد لك موقعك وحجمك كما تفعل أنت؟ فرابط الوطن هو الوحيد الذي يجمع ولا يفرق وترتيب الحقوق على أساس المواطنة هو صمام الأمان للوحدة والاستقرار والتنمية، ولا تذكر لي اجتهادات السلف حول أحكام الذميين والمستأمنين وغيرها في الاسلام فكيف أكون ذميا ً أو مستأمنا ً يا سيدي في وطن ٍ أشقى طوال يومي في سبيل بنائه ورفعته طبيبا ً أو مهندسا ً أو جندي أحمل السلاح مدافعا ً عن حدوده وحقوق إنسانه أو حتى عامل نظافة. كيف تلجأني بعد كل هذا إلى أضيق الطريق كما جاء في كتب بعض السلف؟! "سأدهسك بسيارتي يا سيدي إن فعلتها وليحدث ما يحدث". والعبارة بين القوسين لا يقصد منها سوى أنني سأرفع السلاح وأدافع عن حقوقي حتى ولو غرقت السفينة بمن فيها وما فيها (تجزئة السودان إلى سودانين) - نموذجا ً. فالنتيجة الحتمية لمثل هذه الاتجاهات التي تتجاوز الوطن كرقعة جغرافية وكيان سياسي وترفض ترتيب الحقوق على أساس المواطنة هي تجييش بعض الشعب داخل الدولة المعنية ضد بعضه الآخر (السودان – العراق – سوريا - نموذجا ً) ومن ثم تفتيت الوطن دون تحقيق أي من تلك الأهداف في حروب لا نهائية يتبادل فيها الأطراف المواقع (حكومة باطشة في مقابل معارضة مسلحة) وهذا يحدث لتعارض المصالح الوطنية مع ما ما تتوهمه الأحزاب الاسلامية من مصالح دينية أو مذهبية أو ما تحلم به القومية العربية ، فالاسلامي السوداني أو المصري أو العراقي أو السوري مثلا ً لكي يكون متطابقا ً مع منهجه وما يؤمن به من عدم الاعتراف بالوطن السياسي بحدوده الجغرافية الموجودة اليوم وإنسانه واعتماد برنامجه على أولوية الدين كمحدد للحقوق والواجبات والامتيازات ووحدة المسلمين وأخوة الاسلام أو المذهب التي لا تحدها الحدود يحتم عليه اعتماد كل ذلك في بناء الدولة أن يغلب مصالح الحزب أو الجماعة أو المذهب على مصالح الوطن كرقعة جغرافية وكيان سياسي اجتماعي اقتصادي ودولة واحدة معترف به. هذا الإنحياز ذو النتائج الكارثية على الأرض يحدث على مستويين. الأول داخل الوطن كرقعة جغرافية، والثاني خارجيا ً على مستوى الأحزاب الإسلامية السياسية في المنطقة في تعاملها مع الدول الموجودة "بحكم الواقع" وتعاملها مع بعضها البعض. ولا نعني سوء قسمتهم في ما لا يمكلون من الميل العاطفي إلى إخوتهم في الله مهما تباعدت المسافات بينهم، بل نلومهم في ما يملكون وما بين أيديهم من قرارت سياسية ومقدرات إقتصادية وامتيازات وثروات وطنية وغيرها إذ أن تلك الرؤية التي تصنف الناس على أساس الدين وتهمل الوطن وتزدري المواطنة كمنشأ للحقوق تحتم على الحزب الاسلامي المعين لكي يتطابق مع رؤيته تلك أن ينحاز للمسليمن داخل الوطن ضد بقية مكوناته في الحقوق والامتيازات أي على حساب بقية أفراد الشعب الذين يشاركونه الناتج القومي وكذلك ينحازون إلى مصلحة الأحزاب الإسلامية من الدول الأخرى ضد مصلحة أوطانهم أو مصلحة أوطان تلك الأحزاب إن تعارضتا إذ لا يوجد ما يسمى بالوطن في منهجهم كما اسلفنا من قبل بل يوجد مسلمون وغير مسلمين عرب أو غير عرب والحدود السياسية المعروفة ما هي إلا حدود مصطنعة من مخلفات المستعمر "كما يقولون" فلا بد أن يتم ترتيب الحقوق والواجبات وسن القوانين والسياسات العامة للدولة على أساس أخوة الاسلام وليس المواطنة حسب ذاك المنهج. وإذا استحضرت في خيالك أن أي حزب اسلامي إنما هو مجرد حزب سياسي بين عشرات الأحزاب في الدولة المعينة وله خصومه من الأحزاب والتنظيمات الأخرى (ذات القيادة والعضوية من المسلمين) يتبين لك أن كلمة المسلمين تنحصر عند الأحزاب الإسلامية السياسية في أعضاء ذلك الحزب فقط (بمعنى أنهم يتعاملون مع غيرهم من المسلمين على المستوى السياسي ككفار وإن اصطفوا معهم للصلاة أو كانوا حتى مأمومين بهم على المستوى العقيدي) وهو تناقض بيـِّن. هذا التمييز في الحقوق السياسية والاقتصادية لصالح الأحزاب الإسلامية يؤدي إلى الغبن والشعور بالظلم لدى بقية مكونات الشعب مسلمين وغير المسلمين من الأحزاب الأخرى والمناطق والأعراق والأديان التي طالها الظلم فيعلو صوت البندقية وتتحول الأوطان إلى ساحة معارك دائمة. وفي علاقتهم الخارجية ببقية الدول فإن مصلحة المسلمين تعني عندهم (حسب المنهج) مصلحة التنظيمات السياسية الاسلامية الشبيهة فقط وليس جماع المسلمين أو قضاياهم في تلك الدول. فالقضية الفلسطينية لدى الأحزاب الإسلامية في المنطقة مثلا ً تمثلها حركة (حماس) وحدها وهي الأولى بالدعم السياسي والاقتصادي الحربي وهي التي تغفر لها الزلات السياسية والهنات التي قد تصل إلى انتهاك السيادة الوطنية للدول الأخرى وذات الفعل يحرم على (فتح) مثلا ً رغم أنها تعمل لنصرة ذات القضية. والمحصلة النهائية لمثل هذه المقدمة كما نرى (مع افتراض حسن النية) هي أن الأحزاب الاسلامية السياسية تعمل لصالح عضويتها فقط سواء داخل الدولة المعينة أو في العلاقة التي تربط بينها وبين نظرائها في جميع الأقطار ويعود ريع كل ذلك على العضوية فقط فلا الإسلام وقضاياه ولا عامة المسلمين يستفيدون عمليا ً من وجودها بل إن وجودها هو ما يؤدي لتفريق الكلمة والتشرزم والتناحر. تلك هي النتيجة الوحيدة والنهائية لعدم الاعتراف بالوطن وتسفيه المواطنة.
الخرطوم - أغسطس 2013م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق