كثيرة هي
الصعوبات القانونية التي تقف عائقا ً في طريق من يعتمد منهجا ً يستبعد الوطن كأساس لتأسيس الدولة ولا يعترف بالمواطنة كمنشيء للحقوق معتمدا ً على الدين أو العرق أو الطائفة كأساس للحقوق والواجبات
والامتيازات وأبرز من يواجهون بتلك المصاعب والتحديات هم الأحزاب والجماعات
الاسلامية، إذ أن منهجهم كما أسلفنا في
مقال سابق يقوم على التمايز بين مكونات الشعب على أساس الدين وعدم الاعتراف
بالوطن بحدوده السياسية الموجودة حاليا ً وبالتالي فإنهم مطالبون بإعادة صياغة
القوانين الوطنية على أساس ذاك المنهج أو ما يسمى بأسلمة القوانين وهي مهمة جد
عسيرة إن لم تكن من المستحيلات. ومن أبرز الحقول التي تظهر فيها تلك الصعوبات
وتؤدي إلى تناقض هؤلاء الإخوة مع منهجهم هي صياغة القوانين التي تحمي الدولة أو
مايسمى بـ(الجرائم الموجهة ضد الدولة) وهي الجرائم التي تحاك ضد أمن الدولة
واستقلالها وسيادتها على إقليمها (أرض – بحر – جو) من أي شخص كائن من كان سواء من الوطنيين أو الأجانب وهي بطريقة غير مباشرة تحمي السلطة القائمة حينئذ ٍ.
ومن طبيعة هذه المواد كما هو ملاحظ أنها تتأسس على الاعتراف بالولاء للوطن كرقعة
جغرافية وحدود سياسية وشعب وصيغت من أجل حمايته فهي لا يهمها دين المواطن أو مذهبه
أو طائفته عكس ما يقوم عليه الاسلام السياسي، وتعاقب أي شخص يتعدى على الوطن بهذا
المفهوم وبالتالي هي تعاقب الإسلاميين أنفسهم إذا ما تخابروا مع إخوتهم في الله من
الأحزاب والجماعات والحكومات الاسلامية في الدول الأخرى أو التنظيم العالمي بصورة
تضر بأمن الوطن من أجل تحقيق أهدافهم المشتركة. ورغم ذلك التهديد الخطير الذي تشكله مثل هذه المواد للأحزاب والجماعات الاسلامية ووقوفها في وجه برامجهم إلا أننا نجدهم يعتمدونها في قوانينهم بذات صياغتها "العلمانية" مثلهم مثل جميع دول العالم مسلمها وكافرها.
ولنأخذ مثالا ً على ذلك وليكن من (السودان) الذي تبرز أهميته في أنه الدولة الوحيدة
في المنطقة التي ينفرد بحكمها الاسلاميون لما يقرب من ربع قرن من الزمان "في
حيازة ٍ هادئة ٍ ومستمرة ٍ دون انقطاع" وتمت أسلمة القوانين فيها (كأكمل ما
تكون عليه الأسلمة). فالقانونيون السودانيون بما فيهم الإسلاميين من أبرز
القانونين في المنطقة والكثير من قوانين ودساتير الدول العربية تم وضعها بواسطتهم).
ولنأخذ مثالا ً لمادة واحدة فقط من هذا الباب وهي المادة 53 من القانون الجنائي السوداني
1991م والتي تنص على:
(يعد مرتكبا
ً جريمة التجسس على البلاد ويعاقب بالإعدام أو السجن المؤبد أو السجن لمدة أقل مع
جواز مصادرة جميع أمواله من يتصل بدولة أجنبية أو وكلائها أو يتخابر معها أو ينقل
إليها أسرارا ً وذلك بقصد معاونتها في عملياتها الحربية ضد البلاد أو الاضرار
بمركز البلاد الحربي. فإذا لم يكن التجسس بذلك القصد ولكن يحتمل أن يضر بالبلاد
سياسيا ً أو اقتصاديا ً يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز عشر سنوات أو بالغرامة أو
بالعقوبتين معا ً). أ.هـ
وعلى الرغم
من تكرار كلمة البلاد (الوطن) في هذه المادة أربع مرات كما أن المادة نفسها ترد
تحت هذا العنوان: (التجسس على البلاد) إلا أن ما يهم مقالنا هذا هو عجز المادة
الذي يبدأ بعبارة: ( فإذا لم يكن التجسس بذلك القصد ...). بمعنى أن الفاعل كان
(قصده شريف) وتم التخابر لأهداف نبيلة كنصرة دين الله في (مصر) أو (فلسطين) مثلا ً
والذي هو في نهايته تخابر مع إخوته في الله
لنصرة المنهج الاسلامي التي لا تحده الحدود ولا يعترف بالوطن بل يكون كامل ولائه للإسلام والمسلمين ورغم ذلك يجرِّم القانون الاسلامي السوداني هذا الأخ (المؤمن
المخلص) الذي يعمل من أجل (إعلاء كلمة لا إله إلا الله وسيادتها في الأرض) ويعاقبه
بعقوبة السجن لمدة لا تجاوز عشر سنوات أو بالغرامة أو بالعقوبتين معا ً وهذا يهدم
أساس الرؤية الاسلامية التي تقوم عليها الأحزاب الاسلامية.
ولا يظنن أحد أن زملاءنا القانونيين الاسلاميين السودانيين قد قصروا في صياغة هذه المادة أو فات عليهم ما ذكرته بعاليه من معاقبتها لإخوتهم في الله إذا ما عملوا وفقا ً لما يمليه عليهم منهجهم - لا أبدا ً فهذا التناقض من البديهيات – ولكن ليس هنالك أي سبيل لأسلمة هذه المادة أو أي من مواد هذا الفصل التي تحمي الدولة. فالمادة هذه بصياغتها تلك صحيحية وسليمة مائة بالمائة وتحقق هدفها على أكمل وجه دون أي ثغرات قانونية ولكنها مستوردة من منهج آخر ورؤية مخالفة لاتتطابق إلا معها وبها وهي الولاء للوطن قبل كل شيء وترجمة هذا الولاء والإعلاء حقوقيا ً. فهذه المادة لا تعمل إلا في ظل الوطنية وما ينتج عنها من نظام سياسي حقوقي لا يحفل بالدين أو العرق أو الطائفة، تلك الرؤية التي لا تعترف بها الجماعات والأحزاب الاسلامية ويقوم برنامجهم على نقيضها وقد يكفر بعضهم معتنقيها. ورغم ذلك يعتمدونها مجبرين لتكون في صلب قوانينهم إذ لا يمكن إلغائها وإلا على الدولة والسلطة السياسية القائمة السلام، كما لا يمكن تعديلها لتتطابق مع المنهج. ونلاحظ أنه لأسلمة تلك المادة في القانون المذكور والقوانين الشبيهة في الدول الأخرى يجب حذف كلمة الوطن أو البلاد واستبدالها بكلمة المسلمين. ولنفعل ذلك معا ً ونرى النتيجة:
ولا يظنن أحد أن زملاءنا القانونيين الاسلاميين السودانيين قد قصروا في صياغة هذه المادة أو فات عليهم ما ذكرته بعاليه من معاقبتها لإخوتهم في الله إذا ما عملوا وفقا ً لما يمليه عليهم منهجهم - لا أبدا ً فهذا التناقض من البديهيات – ولكن ليس هنالك أي سبيل لأسلمة هذه المادة أو أي من مواد هذا الفصل التي تحمي الدولة. فالمادة هذه بصياغتها تلك صحيحية وسليمة مائة بالمائة وتحقق هدفها على أكمل وجه دون أي ثغرات قانونية ولكنها مستوردة من منهج آخر ورؤية مخالفة لاتتطابق إلا معها وبها وهي الولاء للوطن قبل كل شيء وترجمة هذا الولاء والإعلاء حقوقيا ً. فهذه المادة لا تعمل إلا في ظل الوطنية وما ينتج عنها من نظام سياسي حقوقي لا يحفل بالدين أو العرق أو الطائفة، تلك الرؤية التي لا تعترف بها الجماعات والأحزاب الاسلامية ويقوم برنامجهم على نقيضها وقد يكفر بعضهم معتنقيها. ورغم ذلك يعتمدونها مجبرين لتكون في صلب قوانينهم إذ لا يمكن إلغائها وإلا على الدولة والسلطة السياسية القائمة السلام، كما لا يمكن تعديلها لتتطابق مع المنهج. ونلاحظ أنه لأسلمة تلك المادة في القانون المذكور والقوانين الشبيهة في الدول الأخرى يجب حذف كلمة الوطن أو البلاد واستبدالها بكلمة المسلمين. ولنفعل ذلك معا ً ونرى النتيجة:
المادة 53
التجسس على المسلمين:
(يعد مرتكبا
ً جريمة التجسس على المسلمين ويعاقب بالإعدام أو السجن المؤبد أو السجن لمدة أقل
مع جواز مصادرة جميع أمواله من يتصل بالكافرين أو وكلائهم أو يتخابر معهم أو ينقل
إليها أسرارا ً وذلك بقصد معاونتهم في عملياتهم الحربية ضد المسلمين أو الاضرار
بمركز المسلمين الحربي. فإذا لم يكن التجسس بذلك القصد ولكن يحتمل أن يضر
بالمسلمين سياسيا ً أو اقتصاديا ً يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز عشر سنوات أو
بالغرامة أو بالعقوبتين معا ً). أ.هـ
ورغم أن
المادة بصياغتها الاسلامية السياسية المقترحة تلك تبدو للقانونيين (حتى الاسلاميين
منهم) طريفة ومضحكة ولا معقولة ولكن قد يراها بعض الإسلاميين (من غير القانونيين)
عشرة على عشرة، لذا يجب أن نقوم بتفكيكها لمعرفة على من تطبـَّق. وأول الأسئلة لكي
يتم تطبيق المادة على المخالفين يجب أن نعرف معنى كلمتي (المسلمين) و(الكافرين)
ماذا تعني هاتين الكلمتين حتى نعرف حدود تطبيق المادة ومن تعاقب.
والمسلمون
لفظ عام يستغرق جميع أفراده من غير تخصيص وهم الأشخاص الطبيعيون (النوع الآخر من
الأشخاص هم الأشخاص الاعتباريون كالشركات والمنظمات والهيئات والحكومات والدول
التي لا يتصور اعتناقها لأي دين) الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا ً
رسول الله ... إلخ في كافة بقاع الأرض. والكافرون أيضا ً لفظ عام يستغرق جميع
أفراده من غير تخصيص وهم الأشخاص الطبيعيون الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله
وأن محمدا ً رسول الله ويعتنقون دينا ً آخر .. إلخ في كافة بقاع الأرض. فإن كان
هذا هو الفهم الصحيح لكلمتي مسلم وكافر وهو كذلك (ومع تجاوز استحالة هيمنة الشرطة
السودانية والقضاء السوداني على كل مسلمي وكافري العالم وضبطهم واحضارهم ومعاقبتهم
إذا ما انتهكوا هذه المادة) فإن تطبيقها داخل السودان نفسه يؤدي إلى نتائج جد
غريبة إذ أن (عبد الله) في المثال التالي يجرم بموجبها. والمثال هو: ( أن أتشاجر
أنا (محمد) المسلم مع (بطرس) المسيحي فيقوم (عبد الله) جارنا المسلم بنقل معلومة (أني
أجيد الكاراتيه إلى بطرس) وبموجب تلك المعلومة يتحرز (بطرس) ولا يشتبك معي بصورة
مباشرة بل يحضر عصاة طويلة يشبعني بها ضربا ً "من بعيد لبعيد" حتى ألوذ
بالفرار. في هذه الحالة يعاقب (عبد الله) بموجب تلك المادة بالإعدام أو السجن
المؤبد أو لمدة أقل مع جواز مصادرة جميع أمواله. فلقد أضر هذا الخائن بمركز المسلمين
الحربي ..!
وبعد هذه
النتيجة الغريبة والمضحكة قد يقول كريم: لا يا أخي يمكن إضافة فقرة أخرى للمادة
تقول: (لا تسرى أحكام هذه المادة على المشاجرات الشخصية). وهذا كلام جميل ولكن
ماذا تبقى للمادة لتعاقبه فهي بتلك الصياغة تحمي مصلحة (أشخاص طبيعيين) هم
المسلمون بينما المطلوب حمايته شخصية اعتبارية (الدولة كأرض وشعب). وقد يقول آخر
لا يا أخي المشكلة في صياغتك المقترحة والصحيح أن تستبدل كلمة البلاد في المادة
الأصل بكلمة بلاد الإسلام أو أرض الاسلام أو دار الاسلام وأن تستبدل كلمة دولة
أجنبية بدار الحرب وليس الكافرين. ولا بأس في ذلك ولكن سنصطدم مرة أخرى بعقبة
جديدة وهي ما هو المقصود بدار الاسلام ؟ فإذا كان المقصود (أينما يوجد المسلم ويرتفع
الأذان فهي دار الاسلام) فإن ذلك يؤدي إلى عدم وجود دار حرب فالمسلمون ولله الحمد في
هذا الزمان منتشرون في كل بقاع الأرض ويرتفع صوت مؤذنهم في كل الفجاج وبالتالي
فليتجسس على دولنا المتجسسون من الأمريكان والدول الغربية والصين وروسيا وغيرها
وليعاونهم من يعاونهم من الوطنيين ولن تطالهم عقوبة فكلها دارالاسلام ولتسقط
حكوماتنا وتستباح أراضينا. وإن قلت أن دار الاسلام هي (ما غلبه المسلمون من الأرض
وحكموه) بمعنى أن حكامها يدينون بدين الاسلام (على المستوى الشخصي) وإن حكموا
العلمانية في نظامهم السياسي تكون قد انصفت خصومك من الأحزاب الديمقراطية الأخرى داخل
الوطن وفي المنطقة ولكن هدمت منهجك الذي أسس على غير ذلك فما هي الجدوى من وجودك
إذا اعترفت بهم بل ومنحت المواطنين حق التخابر معهم جميعا ً دون أن تطالهم عقوبة
؟! وعلى دولتك أيضا ً السلام. والحل الأخير الذي يتطابق مع المنهج هو أن تكون دار
الاسلام هي (رقعة من الأرض) يحكمها جماعة الاسلام السياسي مثلك وفي هذه الحالة فإنك
لا تستطيع معاقبة أي شخص يتخابر معهم لاقتلاعك أنت من السلطة في رقعتك التي تسيطر
عليها وفقا ً لتلك المادة المقترحة وهذا ما لا يمكن أن يسمح الإخوة بحدوثه. وأجزم أن أسلاميي (السودان) لن يقبلوا أبدا ً أن يقتلعهم حزب الحرية والعدالة
المصري مثلا ً من السلطة لينفرد إسلاميو (مصر) بحكم (السودان) بل لا شك عندي أنه
"ستراق منهم الدماء". والنتيجة النهائية لكل ذلك هي أن الأحزاب والجماعات الاسلامية
ترفض مبدأ الوطنية على المستوى النظري وتدينه بل ويكفر بعضها من ينادي به (إذ أنه
بوابة العلمانية) وفي ذات الوقت لا تتردد في الاعتماد عليه للمحافظة على السلطة لتصيغ
قوانينها على أساسه ضاربة بمنهجها الديني الذي يعتمد أخوة الاسلام وشعاراتها
المقدسة عرض الحائط. وبالتالي فإن كل التضحيات والمجاهدات التي يقدمها
شبابهم الحالمون بسيادة الشعارات المطروحة على أرض الواقع وكل الأذى والألم والدموع
التي تصيب الآخرين جراء ذلك ستروح هباء ً.
الخرطوم –
أغسطس 2013م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق