التسميات

الأربعاء، 3 يوليو 2013

المجنـــون

  لم أكن أشك للحظة في جنون المتهم الذي اترافع لإنقاذ عنقه من حبل المشنقة رغم إصراره البليد على أنه ليس بمجنون، ذلك بعد أن اقترحت عليه مقابلة البروفيسور (محمد كمال الدين) مدير مستشفى الأمراض العقلية والنفسية بالمدينة ليفحص حالته ويقدم تقريرا ً عنها للمحكمة. وعلت أصواتنا الغاضبة داخل غرفة الزيارة الصغيرة بالسجن المركزي مما دعى حرس السجن لاقتحام الغرفة وهم يظنون أن المتهم يتعارك معي فطمأنتهم ليعودوا من حيث أتوا وأعود أنا محاولا ً إقناع الشاب وديع النظرات هاديء الملامح بمقابلة البروفيسور. وفي النهاية لم أملك إلا أن اسايره في إدعائه بسلامة العقل موضحا ً له أن إدعاء الجنون هو الدفاع الوحيد المتاح لإنقاذه من الإعدام شنقا ً حتى الموت، ورغم سلامة عقله فليس أمامنا من دفاع سوى إدعاء الجنون. فرضي الشاب بهذا الحل بعد جهد ٍ ومشقة. 
  وكان المتهم قد أرتكب جريمة القتل العمد بعد أن هاجم جاره المرحوم بسكين ٍ ضخم ووجه له عشر طعنات ٍ قاضيات ذلك بعد أن طارده من أمام منزله لمسافة تزيد عن الكيلو متر بقليل في إصرار وتصميم حتى قضى عليه. وحجته في ذلك أن الرجل قد سحره. فبعد أن لاحظ المتهم فشله المتكرر في كل ما يقدم عليه من خطوات ٍ في حياته لأكثر من خمسة أعوام متتالية فقد فيها وظيفته وطلق زوجته وحاصرته الهموم والديون والأمراض، أصبح الشاب موقنا ً من إصابته بالسحر. 
  يقول أنه أقام ليلته تلك ذاكرا ً حامدا ً ومسبحا ً ثم دعا الله أن يبين له شخصية من سحره بعلامة ما تظهر في أحد أبناء الساحر الشرير. وفي الصباح وجد ابنة جاره المرحوم تشكو من رمد ٍ أصاب عينيها. ولم يتسرع المتهم في اتخاذ قراره الخطير بعد تلك العلامة البينة فأقام ليلة أخرى ودعا الله أن تظهر علامة أخرى في نسل الشرير فإذا بابن جاره المرحوم أيضا ً ذي الستة أعوام  يصبح مكسور الرجل بعد أن سقط من فوق الدولاب. ثم أنتظر المتهم لليلة ثالثة ودعا الله بعد صلاة وتسبيح وتهليل وتحميد أن تظهر العلامة هذه المرة في زوجة الشرير، فكان أن اصيبت زوجة ذات الجار المرحوم بأنفلونزا حادة. وهكذا لم يشك موكلي للحظة بعد هذه العلامات الثلاث في جرم المرحوم فأغار عليه في ذلك الصباح الباكر بتلك السكين العظيمة وأزهق روحه في الحال. 
  وبعد مقابلته للمتهم وسماع قصته أصبح البروفيسور (محمد كمال الدين) شاهد دفاعي الوحيد والأساسي، فلقد وافقني الرأي، فموكلي مجنون عنده ما في ذلك شك ورفع البروفيسور تقريرا ً مكتوبا ً إلى المحكمة شغل عشرين صفحة شفعه بالكثير من الآراء العلمية وتاريخ هذا المرض واسمه وعلاماته وأعراضه ... إلخ. وذيل البروفيسور تقريره بمراجع معتمدة من عدة جامعات بثلاث لغات يمكن أن ترجع إليها المحكمة بغرض الإستزادة. وكان هذا كافيا ً لتبرئة موكلي حيث أنه مجنون لا يدرك ماهية أفعاله. 
  ولكن ممثل المدعي العام ذا العقلية التجريمية والذي يترافع ضدي كممثل للإتهام أصر على مثول البروفيسور (محمد كمال الدين) كشاهد أمام المحكمة بغرض مناقشته في تقريره المكتوب وتفنيده.
  أحسست في تلك الجلسة بالإشفاق على البروفيسور العجوز فالأستاذ (جاد الله) ممثل المدعي العام أخذ يطوح به يمينا ً ويسارا ً متلاعبا ً بالعبارات والألفاظ إلى أن حصر الرجل رده في القول بأن ما تصرف المتهم على أساسه وارتكب تلك الجريمة بناء ً عليه ما هي إلا أوهام من بنات ذهنه المضطرب ولا علاقة لها بالواقع وهي عين الجنون. فسأله الأستاذ (جاد الله) بصوت ٍ ناعم ٍ قائلا ً: 
-  هل تؤمن بالسحر والعين والنفاثات في العقد وشر حاسد إذا حسد يا بروفيسور. 
كنت أعلم أن هذا السؤال وما سيتولد عنه من أسئلة ٍ تالية سيكون قاصمة الظهر لقضية دفاعي لذا صرخت وأنا أضرب المنصة بقبضتي قائلا ً: 
-  أعترض ... إنه يرهب الشاهد ..! 
جعل القاضي يلحظني بنظرة ٍغاضبة ومحذرة ثم خاطبني بقوله: 
-  أين الإرهاب يا أستاذ ؟! وما هو وجه اعتراضك على السؤال تحديدا ً ؟
-  أعترض على صياغة العبارة. لقد أقحم ممثل المدعي العام سورة (الفلق) في ثنايا سؤاله وبهذا لن يملك الشاهد إلا أن يقول : نعم أنا أؤمن بالسحر والعين.
هكذا جاء ردي. ولكن المحكمة رفضت اعتراضي وأمرت الطبيب بالإجابة على السؤال ولم تخرج إجابته عن المتوقع إذ رد بالإيجاب. لينتقل الأستاذ (جاد الله) للخطوة التالية مجهزا ً على البروفيسور متسائلا ً: 
-  هل يجعل منك إيمانك بالعين والسحر رجلا ً مجنونا ً؟ 
-  أعترض ..! 
وضاعت صرختي أدراج الرياح إذ لم تقبل المحكمة ذلك الاعتراض ليرد البروفيسور بصوت ٍ واهن : 
-  لا ..! 
-  هل تؤمن بالرؤيا الصالحة ؟ 
-  نعم ..!
-  هل يجعل إيمانك بها منك شخصا ً مجنونا ً؟ 
-  لا ..! 
دهمتني حينها رغبة ٌ عارمة في أن أفتح القفص وأطلق موكلي من محبسه ليجهز على هذا المحامي القميء بذات السكين الضخمة "المعروضات" والتي سبق أن بقر بها بطن المرحوم. وانتقل الأستاذ (جاد الله) إلى الخطوة الثالثة ليلف حبل المشنقة حول عنق موكلي المسكين بإحكام مستخدما ً هذا السؤال: 
-  بروفيسور (محمد كمال)، إذا عرفت أن شخصا ً ما قد سحرك فهل ستقتله ؟ 
-  أعترض ..! 
وضاعت صرختي كسابقتها وأمرت المحكمة الطبيب بالإجابة على السؤال. 
-  لا ... لن اقتله..! 
رد العجوز ووجهه في شحوب الموتى. فخاطبني القميء وهو يبتسم ساخرا ً: 
-  تفضل واستجوب الشاهد، إنه لك يا أستاذ ..! 
ووقفت وجميع الأعين تحدجني باشفاق. والدة المتهم وحدها كانت دموعها تجري على خديها في تتابع ونظراتها مركزة على وجهي المتعرق. كان جميع النظارة بما فيهم زملائي المحامين بل والقاضي نفسه يحدجونني بنظرات الرثاء إذ ليس هنالك ما يمكن فعله بعد تلك الضربات القاضية التي وجهها (جاد الله) الشرير لقضية دفاعي. ورغم ذلك لاح لي بصيص من أمل في نهاية الطريق ولم يتزحزح إيماني بجنون موكلي البائس.  جذبت نفسا ً عميقا ً وأنا أخاطب الطبيب بقولي:
-  بروفيسور (محمد كمال الدين)، قلت أنك تؤمن بالعين والسحر وأنهما يمكن أن تصيبا الإنسان بالضرر. هل يمكن أن تشرح للمحكمة كيفية حدوث ذلك الضرر بواسطة العين ؟ 
-  الله أعلم. 
رد الرجل العجوز مذهول العينين إذ أن صدمات (جاد الله) الشرير لازالت تؤثر على تفكيره. وكانت تلك الإجابة أروع مما توقعت كثيرا ً فواصلت متسائلا ً: 
-  ماذا تقصد بالله أعلم ؟! 
-  أقصد أنني لا أعلم ولا غيري يعلم ..!
رد الرجل في ثقة وعناد. بدا وكأنه يسترد عافيته التي سرقها منه ممثل المدعي العام سليط اللسان. فتنفست الصعداء، عرفت حينها أن الرجل قد تهيأ تماما ً لسؤالي التالي: 
-  بروفيسور (محمد كمال الدين)، قلت أنك لن تقتل الشخص الذي يسحرك. فماذا ستفعل به وقد تعدى عليك وسبب لك ضررا ً؟ 
-  لا أعلم. فلم أوضع من قبل في هذا الموقف. 
-  وإذا وضعت َ ..!
همست بالسؤال وأنا ابتسم في وجه الرجل مطمئنا ً. وصرخ ممثل المدعي العام: 
-  أعترض..! 
ولكن القاضي الذي يبدو أنه يستمتع بهذا الحوار لم يلتفت لاعتراضه وأمر الشاهد بالرد. فرد البروفيسور العجوز في مسكنة بعد أن تاهت عيناه في الفراغ طويلا ً بقوله:
-  سأشكوه إلى الله ..!
قالها لتضج القاعة بالضحك. القاضي نفسه أشاح بوجهه بعيدا ً ليخفي ابتسامته. أحسست حينها أن الخيوط كلها قد باتت في يدي فجذبت نفسا ً عميقا ً وأنا أصلح من وضع ربطة عنقي دون أن تكون بحاجة لذلك وأوجه سؤالي الرئيسي قائلا ً: 
-  برفيسور (محمد كمال الدين)، هل ستشكو من يسرق مالك إلى الله ؟ 
-  لا ... سأشكوه إلى هذا القاضي فيقيم عليه حدود الله ..! 
قالها العجوز الطيب وهو يشير إلى القاضي خلف المنصة بإصبعه في براءة طفل ٍ غرير. ابتسمت وأنا ألاحقه بالسؤال قائلا ً:
-  ولماذا لا تشكو من يسحرك إلى القاضي؟! 
وصرخ (جاد الله) المذهول قائلا ً: 
-  أعترض ..! 
لتضيع صرخته أيضا ً في الفراغ ويأمر القاضي الشاهد بالإجابة على السؤال. فيرد بقوله: 
-  حسب علمي لا يوجد قانون يعاقب على مثل هذه الأشياء. 
وكدت أن أنسى نفسي واصفق طربا ً. فهذه هي الإجابة التي كنت احتاجها وهي عين الحقيقة إذ لا يوجد قانون يعاقب من يسحر الناس أو يصيبهم بالعين لا في كتاب الله ولا كتب الحكومة. فابتسمت في مكر وأنا ألاحق الرجل قائلا ً: 
-  بروفيسور (محمد كمال الدين)، ماذا تستنتج من عدم وجود قانون يعاقب على مثل هذه الأفعال رغم ما يشاع عن حقيقيتها وعلميتها وقدرتها على تسبيب الضرر؟
-  أعترض ... فالإجابة ستكون بينة رأي وهي مرفوضة بنص المادة التاسعة من قانون الإثبات..!
صرخ ممثل المدعي العام بالعبارة أعلاه وهو يضرب المنصة بقبضته ويقفز واقفا ً على رجليه متخذا ً وضع الهجوم، كان الرجل يفقد أعصابه تماما ً، بدا لي حينها كحيوان ٍ ضار ٍ سينقض حتما ً على فريسته التي هي أنا. واستجابت المحكمة للإعتراض. وأمرت الشاهد بتجاهل السؤال ولكنني لم أكن انتظر الإجابة بل كان السؤال نفسه هو الإجابة.
وجلست وأنا أحس ببعض الطمأنينة بعد أن لاحظت ذلك الأنزعاج الذي لاح في وجه القاضي، لا شك أن سؤالي الأخير قد أصابه بالصداع، مما حدا بي إلى أن أشير إلى موكلي داخل القفص مطمئنا ً. 
  وفي جلسة النطق بالحكم بعد أسبوع من هذه الأحداث ولج الأستاذ (جاد الله) إلى القاعة وهو يتيه في بدلة ٍ جديدة ٍ يبدو أنه اشتراها خصيصا ً لهذه الجلسة. اتخذ مقعده أمام المنصة منتفخ الأوداج وهو يرمق من حوله بنظرات ٍ متعالية. كان قد اصطحب معه ثلاث من المتدربات الجميلات من مكتب المدعي العام، جلس بينهن مزهوا ً وهو لا يشك بالنصر، بينما كنت أتصبب عرقا ً ووالدة المتهم تجلس إلى جواري دامعة العينين. وتلى القاضي حكمه بعد أن بلغت قلوبنا الحناجر أعلن فيه أنه وجد المتهم غير مذنب بسبب جنونه وأمر بإيداعه في مصحة الأمراض العقلية والنفسية. وعم القاعة صمت ٌ رهيب ٌ لم يدم إلا لثوان ٍ ثم أنفجر جميع المجانين داخل القاعة بالصراخ وساد الهرج والمرج والهتاف والتصفيق. أخذ جميع من بالقاعة يهتفون لعدالة الحكم الذي قضى بجنونهم جميعا ً.
الخرطوم يوليو 2013م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق