عنـدما أخـرج ذلك العملاق حربتـه الرهيبـة وتهيـأ لطعني بها بيـن السحـر والنحـر ، كان الخوف قد بلغ بي مبلـغا ً عظيما ً ولكنني لم أفكـر في التوسـل إلى الرجل أو حتى مراجعـته ليعـدل عما انتوى ، فلقد كنت أعلم أنـه عـبـد ٌ مأمـور وأن مناقشـته أو الدخـول فـي حـوار ٍ معـه لـن يجـدي ولـن يغيـر في مصيري شيئا ً. جاءته تعلـيمات علـيا بأن يقبض روحي في هذا اليـوم وهـذه الساعة بهذه الحربة المرعبة وما علـيه سـوى أن يطيـع. إلى جانب ذلك فهـو لا يعرفـني وغيـر مهيأ نفسـيا ً لسماع التوسلات أو التقـرير بشأنها مهما كانت صادقة ً وإنسانيـة. كما أن مقاومته هي آخـر ما يمكن أن يفكر فيه رجـل ٌ مثلي ، رجـل ٌ لم تمـس يـده طوال حياته السابقة أي من أنواع الأسلحة البيضاء منها أو غير ذلك، ولم يتجاوز وزنه طيلة الثلاثين عاما التي عاشها على الأرض مائة وثلاثين رطلا ً. سيصرعني ذاك العملاق الضخم في ثوان ٍ كما أن التمـرد عليه ومقاومته قد تشعـل نيـران الغضب في نفـسه فتجعله يمثــِّـل بي مما يزيد في ألم احتضاري، لذا وجب علي َّ أن اغتـنم تلك الثواني القـليلـة التي تبقـت لي من العمـر في ترديـد الشهادتيـن والإستغـفار والدعاء ببعض الأدعية المأثورة عسى الله أن يرحم روحي ، هكذا فكرت تلك اللحظة.
منظر الحربة الضخمة ذات الشراشـف الحـادة المسننـة جعل الحـزن يتسرب إلى قلـبي عميقا ً عميقا ، فلقد كنت أعلـم من قرآءاتي السابقة في كتب الدين أن هذا يعني أنني من الأشقياء وسـينكـل بي بعـد قليـل وإلا لكانت تلك الحربة دون شراشف ونهايات حادة ومسننة. كانت ستكون حربة ً رقيقة الأطراف هينة المخبر، رائعة المنظر تنزع روحي بكل رشاقـة ويسـر فأحسها كمـس النسيم ككل الطيبين. ذاك الكشف دعاني لاستعرض حياتي الماضية مجتـرا ً إياها بكل ما يعـيه عقـلي تلك اللحظة من تفاصيل محاولا ً الوصول إلى أسباب ما أنا فيه من موقـف ٍ عصيب. ولم أجد شيئا ً ذا بال يستحق أن ينكـل بي بسببه ، ولكن مادام أن الرجل سيتولاني بتلك الحربة المخصصة للأشقياء فهذا يعني أنني منهم واستحق ما يحدث لي ، فيبدو أنني ارتكبت بعض الخطايا التي لا أذكرها وغابت عن بالي لسبب ما ولـيس أمامي الآن غير الدعاء ليكون الله في عوني.
ويبـدو أن الرجل لم يكن وراءه من المهام المستعجلة ما يجعله يسرع في مهمـته فلقـد لاحظت أنه أضاع الكثير من الوقت متجولا ً بنظراته في أنحاء الحجرة مبتـدأ ً بالسرير البالي حيث كنت استلقي ليمسحه بنظراته المتأملة جـيئة ً وذهابا. امتدت يدي بلا وعي إلى كيس "التنباك" 1 الذي كان يرقـد إلى جانبي على السرير لأخفـيه تحت الوسادة في عجلة ٍ واضطراب ، ويبـدو أن الرجل لم يشأ إحراجي فلقد أشاح بعينيه بعيدا ً لتستقـر نظراته على الصورة الكبيرة المعلقـة أمامه على الحائط أخـذ يتأملها مليا ً وقد انفرجت أساريره وإن كان ثمة تعبيـر غامض قد بان على وجهه ، إنها أمي جالسة على مقعـد ٍ صغير وأنا خلفها حين كنت في الرابعة من عمري أحاول أن أتسلـق ظهرها وهي تبتسم بينما أختي الصغيرة راقـدة في حجرها وقد راحت في سبات ٍ عميق. ولم تمض ِ برهة حتى خيل لي أن ابتسامة ماكرة تداعب شفـتي العملاق مما جعلني أنكمـش في سريري مرتعبا ً فلقد تذكرت فجأة أن تعليـق الصور على الحائط من الأمور التي نهى عنها الدين وتستوجب غضب الرب فأخذت استغفره من قلبي بحرارة. ثم طالت نظرات الرجل المنضدة الصغيرة في زاوية الغرفة والأوراق المبعثرة عليها ، إنها قصيدة جديدة كنت أمـرن عليها تلميذاتي في المدرسة الابتدائية لينـشدنها في عيـد الأم هذا العام. رحـت استعرض وجوههن الحلوة واحدة ً واحدة. عينا (أروى) البريئتان المعبرتان ، ابتسامة (سارة) النابضة بالطفولة الدفاقة ومشاكسات (عزة) وصوتها الألثغ الحبيـب و .... و .... لتنحدر الدموع من عيني َّ مدرارا ً إذ شـق علي َّ أن يمـر هذا العيـد ولا أكون وسطهن ، سيكون فقدي عظيما ً لهن إذ كنت الوحيد من بيـن زملائي معلمي المدرسة الابتدائيـة الذي يهتـم بمثـل هـذه المناسبات ويعـد للإحتفال بها. وأية مناسبة كانت ، إنها عيد الأم الذي كان له القـدح المعلى في قائمة اهتماماتي.
وعلا نشيجي وعيناي تسكنـان على نقطة محددة في المنضدة الصغيـرة، إنها هدية العيد التي كنت سأقدمها لأمي ، سـوار من الذهب الخالص لفـه البائع بعناية ٍ فائقة ووضعه داخـل العلبة بكل احترام حين عرف أنه هدية لأمي في عيدها ثم قدمه لي وكلانا يبتسم من أعماق قلبه. لقد مـر وقت طويل منذ أن عرفـت أن أمي تتمنى أن يكون لها مثـل هذا السوار ، طوال عمرها لم تكن أمي تتمنى لنفسها شيئا ً أو تطلب شيئا ، وحتى في حياة المرحوم والدي لم أسمعها يوما ً تطالبه بشيء خاص لها بل كانت كل طلباتها تتركز على احتياجاتي أنا وأختي الصغيرة ومنذ خمسة أعوام عرفت أن أمي تتمنى أن يكون لها مثل هذا السوار ، لا أذكر بعـد كل هذه السنوات كيف عرفت ، ربما رأيت نظراتها تتـبع يـد إحدى الجارات اللائي كن دائما ما يتعمـدن تحريك أيديهن أثناء الحديث مما يجعل أساورهن ترن بطريقة معينة. يومها قررت شـراء السـوار لتقديمه هدية ً لأمي في عيـدها ولم يكن شـراء مثل هـذا السوار بالأمـر الهيـن على رجل ٍ مثلي ، إذ كان راتبي الصغير لا يكاد يسـد احتاجاتنا المتواضعة لذا فلقـد تأخرت ْ الهدية عـن موعدها كثيرا ً.
خمسـة أعيـاد مرت وأنا أجمع القـرش على القـرش حتى اكتمل المبلغ هذا العام واشتريت السوار وبقلبي سرور ٌ لا يوصف فلقد كنت أعلـم ما سيـدخلـه على قلب أمي من فـرحة ، ولكن قضى الله بغيـر ذلك وها هـو ذا العملاق القاسي وحربته الرهيبة ذات النهايات المشرشفة الحادة جاهزان لانتزاع روحي من بين جنبي َّ بمنتهى البـرود. ويبدو أن الرجل يقـرأ أفكاري إذ انتقـلـت نظراته الفاحصة المدققـة إلى العلـبة الزرقاء الصغيرة التي ترقـد بداخلها هديتي الغالية ثم هـز حربته الرهيبـة ذات اليمين وذات الشمال فقـفـز قلبي إلى حلقي وسـد مجرى تنفسي. حاولت أن أستعيـد تركيزي لأدعـو الله بما يتناسب وهذا الموقـف فلم أفـلـح ، إذ أرتج َّ علي َّ وأخـذت أهمهم بما لا يبيـن وقـد علا نشيجي حتى عنان السماء. ثم لا أدري من أين واتتني القـوة والشجاعة فلقـد وجـدت نفسي أقفـز إلى المنضدة لاختطف العلبة الزرقاء واحتضنها ودموعي تنهمر على وجهي مدرارا. أخـذ الرجـل يتفحصنـي وطوفـان مـن الدهشـة يتدفق من عينيه ، ثم فجـأة أسـرع يطـوي حربته الرهيبة ويستـديران نحو باب الخروج بخطوات ٍ شفيفة تتبعتهما ببصري مأخوذا ً حتى غاصا في الظلام. ومن البعيـد علا صـوت مـؤذن المسجـد وهـو يتلـو مل ء الفضاء : "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنـده أم الكتاب".
الخرطوم - مارس 2011م
1/ التنباك أو السعوط : نبات سوداني مخدر يوضع تحت الشفة السفلى بغرض الكيف ذلك بعد تخميره بالعطرون
منظر الحربة الضخمة ذات الشراشـف الحـادة المسننـة جعل الحـزن يتسرب إلى قلـبي عميقا ً عميقا ، فلقد كنت أعلـم من قرآءاتي السابقة في كتب الدين أن هذا يعني أنني من الأشقياء وسـينكـل بي بعـد قليـل وإلا لكانت تلك الحربة دون شراشف ونهايات حادة ومسننة. كانت ستكون حربة ً رقيقة الأطراف هينة المخبر، رائعة المنظر تنزع روحي بكل رشاقـة ويسـر فأحسها كمـس النسيم ككل الطيبين. ذاك الكشف دعاني لاستعرض حياتي الماضية مجتـرا ً إياها بكل ما يعـيه عقـلي تلك اللحظة من تفاصيل محاولا ً الوصول إلى أسباب ما أنا فيه من موقـف ٍ عصيب. ولم أجد شيئا ً ذا بال يستحق أن ينكـل بي بسببه ، ولكن مادام أن الرجل سيتولاني بتلك الحربة المخصصة للأشقياء فهذا يعني أنني منهم واستحق ما يحدث لي ، فيبدو أنني ارتكبت بعض الخطايا التي لا أذكرها وغابت عن بالي لسبب ما ولـيس أمامي الآن غير الدعاء ليكون الله في عوني.
ويبـدو أن الرجل لم يكن وراءه من المهام المستعجلة ما يجعله يسرع في مهمـته فلقـد لاحظت أنه أضاع الكثير من الوقت متجولا ً بنظراته في أنحاء الحجرة مبتـدأ ً بالسرير البالي حيث كنت استلقي ليمسحه بنظراته المتأملة جـيئة ً وذهابا. امتدت يدي بلا وعي إلى كيس "التنباك" 1 الذي كان يرقـد إلى جانبي على السرير لأخفـيه تحت الوسادة في عجلة ٍ واضطراب ، ويبـدو أن الرجل لم يشأ إحراجي فلقد أشاح بعينيه بعيدا ً لتستقـر نظراته على الصورة الكبيرة المعلقـة أمامه على الحائط أخـذ يتأملها مليا ً وقد انفرجت أساريره وإن كان ثمة تعبيـر غامض قد بان على وجهه ، إنها أمي جالسة على مقعـد ٍ صغير وأنا خلفها حين كنت في الرابعة من عمري أحاول أن أتسلـق ظهرها وهي تبتسم بينما أختي الصغيرة راقـدة في حجرها وقد راحت في سبات ٍ عميق. ولم تمض ِ برهة حتى خيل لي أن ابتسامة ماكرة تداعب شفـتي العملاق مما جعلني أنكمـش في سريري مرتعبا ً فلقد تذكرت فجأة أن تعليـق الصور على الحائط من الأمور التي نهى عنها الدين وتستوجب غضب الرب فأخذت استغفره من قلبي بحرارة. ثم طالت نظرات الرجل المنضدة الصغيرة في زاوية الغرفة والأوراق المبعثرة عليها ، إنها قصيدة جديدة كنت أمـرن عليها تلميذاتي في المدرسة الابتدائية لينـشدنها في عيـد الأم هذا العام. رحـت استعرض وجوههن الحلوة واحدة ً واحدة. عينا (أروى) البريئتان المعبرتان ، ابتسامة (سارة) النابضة بالطفولة الدفاقة ومشاكسات (عزة) وصوتها الألثغ الحبيـب و .... و .... لتنحدر الدموع من عيني َّ مدرارا ً إذ شـق علي َّ أن يمـر هذا العيـد ولا أكون وسطهن ، سيكون فقدي عظيما ً لهن إذ كنت الوحيد من بيـن زملائي معلمي المدرسة الابتدائيـة الذي يهتـم بمثـل هـذه المناسبات ويعـد للإحتفال بها. وأية مناسبة كانت ، إنها عيد الأم الذي كان له القـدح المعلى في قائمة اهتماماتي.
خمسـة أعيـاد مرت وأنا أجمع القـرش على القـرش حتى اكتمل المبلغ هذا العام واشتريت السوار وبقلبي سرور ٌ لا يوصف فلقد كنت أعلـم ما سيـدخلـه على قلب أمي من فـرحة ، ولكن قضى الله بغيـر ذلك وها هـو ذا العملاق القاسي وحربته الرهيبة ذات النهايات المشرشفة الحادة جاهزان لانتزاع روحي من بين جنبي َّ بمنتهى البـرود. ويبدو أن الرجل يقـرأ أفكاري إذ انتقـلـت نظراته الفاحصة المدققـة إلى العلـبة الزرقاء الصغيرة التي ترقـد بداخلها هديتي الغالية ثم هـز حربته الرهيبـة ذات اليمين وذات الشمال فقـفـز قلبي إلى حلقي وسـد مجرى تنفسي. حاولت أن أستعيـد تركيزي لأدعـو الله بما يتناسب وهذا الموقـف فلم أفـلـح ، إذ أرتج َّ علي َّ وأخـذت أهمهم بما لا يبيـن وقـد علا نشيجي حتى عنان السماء. ثم لا أدري من أين واتتني القـوة والشجاعة فلقـد وجـدت نفسي أقفـز إلى المنضدة لاختطف العلبة الزرقاء واحتضنها ودموعي تنهمر على وجهي مدرارا. أخـذ الرجـل يتفحصنـي وطوفـان مـن الدهشـة يتدفق من عينيه ، ثم فجـأة أسـرع يطـوي حربته الرهيبة ويستـديران نحو باب الخروج بخطوات ٍ شفيفة تتبعتهما ببصري مأخوذا ً حتى غاصا في الظلام. ومن البعيـد علا صـوت مـؤذن المسجـد وهـو يتلـو مل ء الفضاء : "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنـده أم الكتاب".
الخرطوم - مارس 2011م
1/ التنباك أو السعوط : نبات سوداني مخدر يوضع تحت الشفة السفلى بغرض الكيف ذلك بعد تخميره بالعطرون