الناظر إلى "عبد الله المستنير" في جلسته إلى جانب خطيبته "نسرين" قرب النهر تلك الليلة لا يرى سوى عاشقين متيمين يتبادلان النجوى على ضوء القمر، يشكوان لبعضهما حرارة العاطفة وعذاب
الحنين، ولكن يبدو أن هذه نصف الحقيقة، إذ أدنت الفتاة رأسها من صدر حبيبها وهمست
قائلة ً وعيناها ترحلان بعيدا ً :
- انظر إلى هذا الفضاء العميق، تأمـَّل هذه
النجوم الجميلة، يا إلهي، كم هي جميلة ..!
ولم يصدر عن "المستنير" ما يشي بأنه
قد سمع العبارة، فاسترسلت الفتاة قائلة :
- إنها تجعلني أشعر بالحنين، أتوق إلى الاحتواء،
تلك النجيمات البعيدة الغارقة في الصمت وكأنها .......
ولم يتركها "المستنير" تكمل عبارتها
بل قاطعها متعجلا ً بقوله :
- نعم صحيح، ولكن العلم أثبت أنها عبارة عن
صخور ملتهبة وغازات ساخنة. الإنسان البدائي كان يخافها خاصة ً حين تسقط شهبا ً
ونيازك، فقدَّسها البعض وشيـَّدوا لها معابد وقدموا القرابين. هل تعلمين أن معظم
هذه النجوم قد أفل منذ ملايين السنين ؟! نعم ، إنها غير موجودة وما نراه الآن ليس
هو النجم إنما هو ضوءه استغرق كل هذا الوقت ليصل إلينا فسرعة الضوء تساوي ........
وأخذ الشاب يحلل ويحصي ويجمع ويطرح ثم عرج على
بعض الديانات القديمة التي ارتبطت بالكواكب والنجوم والفتاة تتابع كلماته وقلبها
يعتصره الألم.
وكان بقربهما جنيـِّة ٌ شابة ٌ تستلقي إلى جانب
حبيبها على الرمل الأبيض تتابع حديثهما بالكثير من الاهتمام. وحين وصل الأمر إلى
هذا الحد همست ْ في أذن رفيقها الذي كان ينام بقربها على الرمل قائلة :
- استيقظ يا "جوسان" ، قـم لتسمع هذا
الهراء الآدمي.
فتح الجني الشاب عينيه بتكاسل ثم ألقى نظرة ً
على الحبيبين الجالسين بقربهما وأرهف سمعه، ليأتيه صوت "نسرين" وهي
تخاطب حبيبها وقد رق َّ صوتها حتى غدا كالهمس :
- يقولون أن عيني جميلتان، لقد ورثتهما عن أمي،
يقول أبي أن زرقتهما هي سر جمالهما وسحرهما وأن أمي كانت ......
قاطعها "المستنير" بقوله وهو يضغط
على نظارته الطبية بإصبعه :
- نعم، قديما ً كان الإنسان يعتقد أن للعين
قدرات سحرية وأن لها تأثير مادي على الأشياء من حولها وإلى يومنا هذا يعتقد بعض
الناس أن ........
ولم يتمالك الجنيان الشابان نفسيهما فاطلقا
ضحكة ً صاخبة ً تردد صداها خلف النهر الساكن حزينا ً وموجعا .
وواصل عبد الله حديثه قائلا ً :
- الاعتقاد في العين والسحر والجن والشياطين ما
هو إلا نتاج للجهل. الجن والشياطين اخترعتهما مخيلة الانسان البدائي حين عجز عن
تفسير بعض الظواهر الطبيعية. لا وجود للسحر، لا وجود للعين، لا وجود للجن
والشياطين، العلم وضع كل شيء في مكانه الصحيح ولا مكان للأسطورة بعد اليوم.
وعم َّ الصمت طويلا ً بعد هذه العبارة ثم هبـَّت
ْ نسمة ٌ باردة ٌ اضطرب لها وجه النهر فعادت "نسرين" تهمس وهي تغوص في
عيني حبيبها بحنان :
- أحبك، أحبك كثيرا ً واشتاق إليك وأنت بعيد
وأشتاق إليك وأنت بقربي، حبك هو ................
- وأنا أحبك. الحب عاطفة جميلة والكثير من
الديانات والمذاهب قامت على الحب وتقديس عاطفة الحب، الحب عاطفة جميلة ولكن في
حقيقتها وسيلة لغاية ٍ أخرى، غاية ٌ هامة ونبيلة هي التناسل، نعم، الأنواع الأخرى
في المملكة الحيوانية واضحة وصريحة إذ تقودها الرغبة ولها موسم تزاوج معين يأتي في
زمن ٍ محدد فينجذب الذكور إلى الإناث ويتم التزاوج بسهولة ودون أي تعقيد. لكن
الانسان بطبعه يميل إلى الوهم ويأثره الخيال فيظل يلوِّن الصور في خياله ويمنحها
أبعادا ً غير حقيقية، ولكن تظل المحصلة النهائية للحب هي التزاوج وحفظ النوع من
الإنقراض.
ولم يتمالك الجني "جوسان" نفسه فصرخ
:
- يقرضك بلاء يطلـِّع روحك.
وعادت "نسرين" لتقول وهي تقاوم دمعة
ً أبت إلا أن تسقط على خدها الحزين :
- ولكنه إحساس جميل وعظيم، يجعلنا نحلـِّق
كالفراشات، يحيل كل الدنيا في أعيننا إلى واحة خضراء، إلى جنة، الإحساس بالأمان الناتج عن العناق، طعم القبلة
اللاذع، الحلم بـ ..........
- كلها
تصورات وتوهُّم، الإنفعال الذي تتركه القبلة كما يقول العلم هو نتاج لتفاعل مادتين
كيماويتين تفرزهما الشفاه عندما تصل الرغبة حدا ً كافيا ً ونتيجة لذلك فإن
.............
ومضى "عبد الله" في حديثه يشرح
ويفسـِّر ويفترض ويثبت ويدحض بحماس والجنيان الشابان يتابعان كلماته والدهشة تعقد
لسانيهما، أخيرا قال "جوسان" لرفيقته :
- أظن أنه يعذبها كثيرا ً، سيحيل حياتها إلى
جحيم.
- ليس حياتها فقط يا حبيبي، هذا نبت ضار سيحيل
حياة كل من تلتقي به إلى عذاب.
قالتها وهي تشير بعصاها السحرية نحو الشاب
ليومض البرق ويختفي "عبد الله المستنير" إلى الأبد.
- لماذا القطب الجنوبي يا حبيبتي ؟!!
تساءل "جوسان" وهو يقهقه صاخبا ً ،
لترد رفيقته بحزم :
- إنه المكان المناسب لأمثاله.
- والفتاة ؟!
- ستحزن قليلا ً ومن ثـّم َّ ستجد من يستحقها
ويسعدها.
ردت الجنية الشابة وهي تضرب بجناحيها في الهواء
لتحلـِّق إلى جانب رفيقها برشاقة ٍ ومن ثـّم ينطلقان إلى البعيد وضحكاتهما العابثة
تضمـِّخ الكون.
الخرطوم –
مارس 2018م